اللاوعي بين الثابت والمتغير
رندا قسيس
الحوار المتمدن
-
العدد: 2909 - 2010 / 2 / 6 - 19:52
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أتاح لنا علم النفس بكل مدارسه وفروعه معرفة أكبر لذواتنا ولاختلاجاتنا النفسية، إلا ان البعض منا مازال يشكك بمنحه صفة العلم. وبإعتقادي أن التشكيك ينم عن معتقدات داخلية وأسباب نفسية تجعل البعض منا غير قادر على إدراكه، ولا سيما بعد رفض المدرسة السلوكية الاعتماد على الأحداث العقلية لشرح سلوكيات ظاهرية. فقد تشبثت المدرسة السلوكية برفض المفاهيم الشارحة للعمليات الواعية واللاواعية فيما بقي العلم الإدراكي حيادياً بالنسبة له قبل أن يتطرق إلى مفهوم الوعي واللاوعي في الثمانينات.
نجد اليوم تقارباً ما بين وجهات نظر العلم الدينامي والعلم المعرفي أو (الإدراكي)، فقد اتفقت مدارس علم النفس وعلم الأعصاب على أن معظم السلوكيات عند الانسان والحيوان ناتجة عن عمليات نفسية مبطنة. فبعد تجربة بوورز عام 1984 ولحقتها تجارب عدة منها تجربة وينبيرجر وهارداوي سنة 1990، توصل الباحثون في العلم الدينامي والعلم المعرفي إلى نتائج تأثير التمثيلات تحت_الواعية المثيرة لأفكارنا ومشاعرنا. أي أن غالبية العمليات الإدراكية، المعرفية، العاطفية والدوافع المحركة لنا هي في الأساس لاشعورية. أما وعينا فله قدرات محدودة ووظيفته الخاصة هو ادراكنا الذاتي للأفكار والعواطف… فهو يقوم بتسهيل عملية التأقلم من خلال إنشاء علاقة بيننا وبين المحيط، كما يقوم بعملية التحكم بالأفكار والسلوكيات.
بعد تجربة نكاش وداهاين سنة 2000 وجدا أن الوعي يحدد المصير النفسي والدماغي لعدة عمليات إدراكية لاواعية، أي تأثير الوعي على التمثيلات العقلية اللاواعية. ومن هنا نرى وجود تمارين نستطيع تنفيذها من خلال الإيحاء الذاتي لتغيير بعضٍ من تصرفاتنا وانجاح بعض رغباتنا. هذا العمل يتم من خلال إنشاء واعي لشيفرات محركة تستخدم بشكل لاواع أو بوضع استراتيجيات تحكمية واعية تؤثر على بعض المعالجات اللاواعية. أما تأثير اللاوعي علينا فهو يتم بآلية تصاعدية للمعلومة من اللاوعي إلى وعينا.
إذن، هناك آليتان وهما: الهبوط من الأعلى أي من الوعي إلى اللاوعي والصعود من الأسفل أي من اللاوعي إلى الوعي. ولهذا نرى أن الفكرة التي كانت سائدة قديما عند البعض بوجود لاوعي بدائي وجامد لا وجود لها اليوم في العلوم الحديثة بل على العكس تماماً. توصل علم الأعصاب وعلم النفس إلى وجود بعض العمليات العقلية اللاواعية المتحلية بالذكاء والمرونة والقادرة على التغيير.
تتم تغييرات في المشابك العصبية عند مرحلة التعلم وتساهم في هذه التعديلات شيفرات بنيوية لاواعية، فعمليات التعلم تعتمد أولاً على الإرادة ليتم تداولها فيما بعد بشكل لاواع كي تشكل بعدها نشاطاً لاواعياً غنياً بأفكار جديدة.
يقوم لاوعينا بإيجاد حلول لمشاكل واعية من خلال جمع معطيات كثيرة من قبل عدة شبكات عصبية ليقوم بتنسيقها ودراستها ومن ثم عرض عدة حلول مستقلة عن بعضها البعض في آن واحد. أما وعينا فقدرته محدودة فهو لا يستطيع إلا تمثيل مشهد واحد في كل مرة، لهذا نرى الاف التمثيلات العقلية اللاواعية المنتظرة على أبواب وعينا كي يتم انتقاء تمثيل واحد في كل لحظة، ولكن اختياره لا يتم بطريقة عشوائية أو فوضوية بل عند إيجاد أرضية مناسبة له في اللحظة المناسبة. فهناك شروط لعملية اختيار وعينا لأي تمثيل عقلي لاواعي، فمن بين هذه العوامل، احتوائه على كثافة ومدة زمنية تفوق الحد الادنى (السقف الحرج للتمثيل اللاواعي)، إلا انه في المقابل نجد مرونة أكبر لوعينا عن لاوعينا، فهو يرسم صورة كاملة حاوية على عدة صور بداخلها، بينما يعمل اللاوعي كفرق من خبراء كل فريق على حدة لإيجاد حلول وعروض لحل المشكلة المتواجدة. وبلغة تقنية اكثر، يقوم الوعي بتوزيع النشاط من جديد إلى الشبكات الناشطة في لحظة معينة كي يقوم بتفعيل جميع الأنشطة المشتركة لتحقيق الأهداف، ليقوم بعدها باختيار الحل الأنسب اللاواعي وقمع نشاط الحلول اللاوعية الأخرى الأقل اقناعاً.
يتقاطع علم الأعصاب مع المدرسة الفرويدية فيما يتعلق بثراء الحياة العقلية اللاواعية التي تم اثباتها من خلال تجارب عصبية حديثة، كما اتفق علم الأعصاب مع فرويد على أن أي عمل مرتبط بالإرادة الواعية أساسه تمثيل عقلي لاواعي (تجربة بنجامين ليبيت)، حيث تخضع الأفعال إلى تشفير في نظامنا العصبي فالقرار لا يأتينا إلا بعد عملية انتقاء، من هنا نجد تحكم الوعي بعمليات غنية لاواعية.
رغم التقاطع والتعارض ما بين علم الأعصاب وفرويد، إلا اننا نرى اليوم مصالحة ما بين المدارس المتضادة فيما بينها سابقاً، وذلك لوجود شيئاً من الصحة في كلٍ من مدارسها، لهذا نرى توجه علم النفس في كل فروعه إلى العلوم الأخرى مثل علم الأعصاب لدعم ارتكازه على أسس بيولوجية، و كما قال هنري لابوريت “إذا اعتبرنا أن علم البيولوجيا هو علم الأحياء، فلماذا نعجز عن اعتبار العلوم الإنسانية شقاً منه؟ فإنغلاق كل مدرسة على نفسها هو انغلاقِ في نظام التفكير نفسه وهيكلة المعلومة.”