طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5595 - 2017 / 7 / 29 - 03:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كلنا او اغلبنا سمع بفرضية ماركس بخصوص الدين: "الدين هو أفيون الشعوب". ولكن ماذا يعني أن يساوى الدين بالأفيون؟ بالنسبة لمعظم القراء في القرن الحادي والعشرين يعني الأفيون شيئا بسيطا وبسيطا جدا، ويبدو أن المقارنة بين المصطلحين, الدين والافيون, اصبحت حرفية تماما (1). الأفيون هو دواء يخفف عن الألم ويشوه الواقع ومصدر مصطنع للعزاء الذي يمكن أن تصبح بعض النفوس المُعَذبة مدمنة عليه؛ ونفس الكلام ينطبق على الدين أيضا. يفرق الفيلسوف فريدريك نيتشه بين المعنى "الحقيقي" أو الحرفي للكلمة ومعناها الاستعاري. المعنى الحرفي هو "الذي أصبح معتادا بسبب الاستخدام المتكرر. . . استعارة ... تم نسيان طبيعتها الاستعارية" (2). من خلال "تكرار لا ينتهي" من عبارة ماركس ان الدين "أفيون الشعوب" فقدت العبارة معناها المجازي وفقدت قوتها الديالكتيكية بسبب القراءة الحرفية والعصرية لهذا الاستعارة المركزية (3).
يعتبر الناقد الادبي الامريكي فريدريك جيمسون (مولود في عام 1934) من أعظم المنظرين الماركسيين. يقول جيمسون بخصوص قراءة النصوص:
"نحن نتعامل مع النصوص من خلال ترسبات التفسيرات السابقة، أو -إذا كان النص جديدا تماما- من خلال عادات القراءة المترسبة والمشاكل التي تسببها تلك التقاليد التفسيرية الموروثة" (4).
من أجل إعادة قراءة تحليل ماركس للدين في هذا النص، نحتاج أولا إلى تعطيل تفهمنا الحرفي المتوارث بخصوص "أفيون الشعوب"، وذلك من خلال ازالة الطبقات المترسبة التي تراكمت منذ كتابة ماركس لهذا النص في عام 1843. في حين أن هذا لن يزودنا بالمعنى "الحقيقي" للنص، وإذا لم نفعل ذلك، فإن قراءتنا للنص ستصبح حتما تكرار طقوسيا آخرا، مما يعزز القراءة المتوارثة للنص، ويزيد من قمع المعنى الاستعاري والديالكتيكي للنص. هذه القراءة المتوارثة تحول ماركس إلى تلميذ صغير ل فيورباخ، وتقدم تقريرا مسيسا بلطف لوجهة نظر الأخير حول الدين.
إن إعادة التفكير في هذا النص الأساسي تقتضي أولا زعزعة استقرار فهمنا للأفيون؛ في أوروبا في القرن التاسع عشر. فقد سادت العديد من المفاهيم المختلفة والمتناقضة للأفيون في منتصف ذلك القرن, اي في الوقت الذي كتب فيه ماركس هذا النص. وهذا سوف يوفر لنا امكانية لإعادة التفكير في النص الأكبر الذي يتضمن الاستعارة، وذلك لاستشفاف الاستعارة الديالكتيكية التي هي قلب وروح تحليل ماركس للدين.
في أوروبا، في بداية القرن التاسع عشر، كان الأفيون يعتبر إلى حد كبير خيرا مطلقا. وكان الناس قد ادركوا أهميته كدواء في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر. وهم قد فهموا "أفيون الشعوب" وقتها كشيء يمكننا ترجمته إلى لغة القرن العشرين الى تعبير "بنسلين الشعوب". ومع ذلك، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، استعيض عن الافيون بأدوية أخرى. والطهرانيون من الاطباء وفلاسفة الاخلاق قاموا بشيطنة الافيون. وما بين هاتين الفترتين، استخدم ماركس الأفيون كاستعارة للدين. فعندما كتب ماركس هذا النص في عام 1843، كان نصه استعارة غامضة ومتعددة الأبعاد ومتناقضة، ومجسدا المفاهيم السابقة واللاحقة لنبات الخشخاش.
عن الافيون تقول الطبعة الأولى من الموسوعة البريطانية "ان الأفيون في الوقت الحاضر يحظى بتقدير كبير وهو واحد من الادوية الأكثر قيمة من جميع الأدوية البسيطة": وبالتالي فإن الطبعة الأولى من الموسوعة البريطانية تعبرعن المواقف والمعتقدات حول الأفيون في أواخر القرن 18th وأوائل القرن 19th. الجرعات الصغيرة مفيدة طبيا. الجرعات المعتدلة يمكن أن تجعل الشخص مخدرا نوعا ما وجريئا ولا يهاب المخاطر؛ ولهذا السبب استخدمه الأتراك دائما عند خوض معركة. في إنجلترا في 1820s، كان هناك ما بين 16،000 و 26،000 من باعة الأفيون وكلهم كانوا غير مرخصين بالمرة. ولأنه كان غير مكلف نسبيا استخدم لعلاج مجموعة واسعة من الامراض، وكان الافيون متوفرا في كل منزل بريطاني. وكان استخدامه شائعا جدا، ولذا قال أحد الكتاب "الأفيون هو افيون الشعب". استخدام الأفيون في العقود الأولى من القرن التاسع عشر كان طبيعيا جدا ولم يكن يشكل اية مشكلة. ولم يجري وقتها التطرق الى الإدمان.
كان الاستخدام الأكثر شيوعا للأفيون في النصف الأول من القرن التاسع عشرهو كعلاج وليس للترفيه او كعنصر مخدر, وكان الأفيون دواء ذو ----------------أهمية قصوى. الأطباء والجراحون وصفوا الأفيون لمرضاهم، في حين أن الناس من الطبقة العاملة (الذين نادرا ما راجعوا الطبيب) استخدموا الدواء لمعالجة أنفسهم بدون وصفة طبيب. وكان الأفيون مسكنا هاما للألم، ولكنه استخدم أيضا لعلاج الأمراض. نحن نميز الآن بشكل روتيني بين هذين الجانبين من الدواء. لم يكن أحدا في الجزء الأوسط من القرن التاسع عشر قد حقق مثل هذا التمييز. تم وصف الافيون لعلاج التعب والاكتئاب، الأرق، والروماتيزم، و"أمراض المرأة"، والحمى، ومرض السكري, وكان يعتبر مطهرا مفيدا للغاية. واستخدم الأفيون ايضا كعلاج لجميع أنواع التهابات الجهاز التنفسي, بما في ذلك الالتهاب الرئوي والتهاب الشعب الهوائية والسل. وكان أهم استخدام للأفيون هو علاج الإسهال والدوسنتاريا والكوليرا؛ وخصوصا اثناء وباء الكوليرا في اوربا في عام 1831-1832 ومرة ----------------أخرى في اعوام 1849-1853 وكان استخدامه باعتباره العلاج الفعال الوحيد لهذا المرض القاتل (5). وكان الأفيون عقارا هاما ايضا لماركس. وكان ماركس نفسه يستخدم الأفيون كوسيلة للتعامل مع مختلف أمراضه. جنبا إلى جنب مع "الأدوية" الأخرى مثل كريوزوت والزرنيخ، استخدم ماركس الافيون كالوسيلة الاكثر اهمية لمعالجة الخراجات والدمامل العديدة التي ملأت جسمه والتي سببت له الكثير من المعاناة والما مبرحا في اواخر حياته (6).
وفي الفترة ما بين الثلاثينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، نمت المعارضة لاستخدام الأفيون، ولا سيما من حركات "الاعتدال في استخدام الافيون" و "الصحة العامة" التي ظهرت حديثا آنذاك. وقد تم توضيح اساب المعارضة لاسباب منها تقصير اعمار المستخدمين للافيون وتخدير الأطفال. ولكن المعارضة شملت أيضا, كما نقول الآن, "الاستخدام الترفيهي" للأفيون. وتبع ذلك تحريات حكومية، وكان أشهرها تقرير إدوين تشادويك (1842) عن الحالة الصحية للسكان العاملين. وكان الأطباء وحلفاؤهم في حركات الاعتدال يستخدمون تعبير "تسمم الأفيون" (الذي كان معروفا منذ فترة طويلة عند تناول جرعات عالية) وتحوله الى وباء. وعلى الرغم من هذه المعارضة الحديثة النشأة, استمر الأفيون في ان يحظى بالقبول على نطاق واسع، وفي وقت متأخر من 1860s، كان ما يقرب من 20٪-------- من جميع الأدوية التي تباع في انكلترا ذات قاعدة من عقار الأفيون.
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، انضمت الحركات المناهضة لتجارة الأفيون وحركات الصحة العامة إلى خبراء الاخلاقيات الطبية. وظهر مفهوم "إدمان الأفيون"، كمفهوم طبي وأخلاقي. ولم يمنح البرلمان البريطاني السيطرة على استخدام الأفيون للأطباء والصيادلة فحسب، بل دعا أيضا في عام 1891 إلى وقف تجارة الأفيون "التي لا يمكن الدفاع عنها أخلاقيا"، بالرغم من استمرار تجارة الأفيون رسميا لمدة عقدين آخرين ولذلك لحين عقد المعاهدات الدولية بهذا الخصوص في عام 1907.
ماذا بعد ذلك، ماذا كان يعني "الأفيون" في عام 1843، لماركس ولقرائه؟ الاستعارات تستدعي المقارنة بين شيئين، من أجل توفير طريقة جديدة للنظر في احدهما أو كليهما. أنها غير مستقرة، متغيرة ومتعددة المعنى -وهو امر لا مفر منه في كتابات ماركس (7). أكثر من معنى واحد يمكن ضغطه في استعارة، وهذه المعاني تتغير بمرور الوقت. وهذا يمنعنا، في البداية، من وصف المعنى المفرد لأي استعارة. وهناك دلالات عديدة ل "الأفيون" التي كان من شأنها أن تكون ذات صلة في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر: الأفيون كان دواء (وإن كان له مشاكله المكتشفة حديثا)؛ فقد كان مصدرا لارباح هائلة (أثارت أيضا الاحتجاج والتمرد). كان ايضا مصدرا للرؤى "الطوباوية". وفي الحلقة التالية سوف اقدم مخططا لمعاني الأفيون في منتصف القرن التاسع عشر ومن ثم ساعالج اهميتها النظرية لاحقا.
يتبع
------------
المصادر
1. Andrew M. McKinnon, Opium as Dialectics of Religion: Metaphor, Expression and Protest
:In Citical Theory, and Religion
A Critique of Rational Choice
Edited by Warren S. Goldstein. Berlin, 2005
2. Nietzsche, Friedrich. 1995. Unpublished Writings from the Period of Unfashionable Observations. Stanford: Stanford University Press
P.72
3. O’Toole, Roger. 1984. Religion: Classical Sociological Approaches. Toronto: McGraw-Hill, P. 68
4. Jameson, Frederic. 1981. The Political Unconscious: Narrative as a Socially Symbolic Act. Ithaca NY: Cornell University Press. P. 9
5. Berridge, Victoria and Edward Griffiths. 1980. Opium and the People. London: Allen Lane
6. McLellan, David. 1973. Karl Marx: His Life and Thought. New York: Harper and Row
7. Kemple, Thomas M. 1995. Reading Marx Writing: Melodrama, the Market and the ‘Grundrisse’. Stanford: Stanford University Press
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟