|
المنهج القسري في أطروحة فؤاد النمري (الرسالات السماوية)
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 3567 - 2011 / 12 / 5 - 19:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ما هو المنهج القسري؟ وهل لهذا المنهج من أتباع؟ تساؤل، بل اثنان ، ينبغي أن أجيب عنهما، وقد هممت بنطق كلمة صغيرة – رجوتها حقاً ! – من بعد أن ألقيت نظرة متأنية على أطروحة المفكر الماركسي الأستاذ فؤاد النمري، التي تحمل عنواناً جذاباً، هو: "الرسالات السماوية". وهي منشورة في موقعه الخاص : www.fuadnimri.yolasite.com فأما الجواب عن الأول: فإن المنهج القسريَّ يتصف بأن متّبعه يُكرِه الأشياءَ والظواهر والوقائع والأفكار التي يدرسها، على أن تكون كما يريدها هو أن تكون، لا كما هي في حقيقتها. ومن أميز أساليبه وحيله: المغالطة، والتدليس، والتحامل، والافتراء، وتحقير الخصوم بالسخرية والتهكم. وخير ما يعبر عن طبيعة هذا المنهج القسري: أسطورةُ قاطع الطريق اليوناني (بروكست) وقد ذكرها جورج بوليتزر [ 1] ولكنه - كما هو متوقع من شيوعي مثله - سيراها تنطبق على منهج من يسميهم بالفلاسفة المثاليين. وهي في الحقيقة لا تنطبق كلّ الانطباق إلا على مناهج الماركسيين، يقول بوليتزر: " لأن الميتافيزيقيا يفوتها جوهر الواقع الذي هو تغير مستمر وتحول دائم: فهي لا تريد أن ترى إلا جانبا واحدا من هذا الواقع الغني وأن ترد الكل إلى أحد أجزائه فترد الغابة بأكملها إلى إحدى شجراتها. فهي لا تتخذ صورة الواقع كما تفعل الجدلية بل تريد أن تحمل الواقع الحي على أن يتخذ صورة قوالبها الميتة. وهي مهمة مصيرها إلى الفشل. تروي خرافة يونانية قديمة مساوىء قاطع الطريق بروكست الذي كان يرقد ضحاياه على سرير ضيق. فإذا كانت الضحية أضخم من السرير قطع رجليها، وإذا كانت ضئيلة مدد أعضاءها... وهكذا تفعل الميتافيزيقا بالوقائع غير أن الوقائع عنيدة لا تستسلم". وإنما أوردت هذا المقطع من كتابه، لأدلّ على شيء آخر مما هو راسخ في طبيعة المناهج الماركسية؛ وأعني به رمي الماركسيين خصومَهم بالعيب الذي فيهم؛ تحقيقاً من حيث لا يقصدون للمثل العربي المعروف: (رمتني بدائها وانسلَّت). إن المنهج الماركسي حين ينطلق في تحليله ودراسته للظواهر الاجتماعية من مبدأ الصراع الطبقي حصراً ووجوباً، يقسر هذه الظواهر على أن ترقد على سرير (بروكست) ثم يأخذ بعدئذ في بتر كلّ ما لا يتفق مع مبدأ الصراع الطبقي (سرير بروكست) من هذه الظواهر أو في تمديده. وما ينفك يبتر حيناً ويمدد حيناً حتى تصبح صورة الظواهر مطابقة للسرير تمام المطابقة. وأضرب لذلك مثلاً: ثورة الزنج، وثورة سبارتاكوس، اللتين يبتر الماركسيون العوامل الحقيقية التي أضرمت فيهما النار، عند دراستهم التاريخية لها، ولا يستبقون من هذه العوامل غير ما ينطبق على سرير بروكست دون زيادة او نقصان؛ وهو عامل الصراع الطبقي، ولو كرهت ذلك الحقيقة، ولو كذّب ذلك الواقعُ التاريخي. وأما الجواب عن الثاني: فقد بات ميسوراً من بعد أن وضحت طبيعة هذا المنهج. فإن له أتباعاً هم هؤلاء الذين يصدرون عن (إيديولوجيا) مقيدة مقدسة، لا يرون إلاها صحيحاً واجب الاتباع. وما النمريُّ إلا واحداً من هؤلاء، إذ يحاول في أطروحته هذه، أن يهدم أركان الأديان الإبراهيمية الثابتة؛ لأنها في عرفه الإيديولوجي (الشيوعي) تمثل الفكرَ المثالي خير تمثيل، ولما كان الفكر المثالي ضديداً للفكر المادي، كان نقضه على الماركسي واجباً ملزماً، وإلا استفحل خطره؛ فعاق فكرَه الماديَّ عن أن يسود ويغلب. هذه غايته من رسالاته السماوية. بيد أنّ النمريَّ – وإن كانت غايته مشروعة دانية - لم يوفق إلى بلوغها. وكيف يوفق إليها وقد نهج إليها منهجاً قسرياً طفحت عيوبُه وأخطاؤه! ولقد تنبه إلى بعض هذه العيوب من قبلي، الباحثُ المجتهد الأستاذ وليد يوسف عطو وعالجها في سلسلة من المقالات [2] معالجة لاهوتية في أكثر الأحيان، وطعن فيها على النمري أنه لم يقرأ رسائل بولس: "في ردنا على السيد النمري رأينا أنه لم يقرأ رسائل بولس و لا الأناجيل ولم يمارس الدراسة النقدية عليها بل استند إلى كتاب متحيز و مدفوع الثمن من الصفحة الأولى". والحقّ أن معالجته لها، وإن كانت على الأغلب حصيرة داخل سياج الفلسفة الإلهية، كانت صائبة إلا فيما ندر [3]. ولسوف أقفو أثر الأستاذ وليد عطو هنا، فلا أتجاوز رسالة النمريِّ في المسيحية - وأخص بولس أو بولص أو فاولوس ܦܐܘܠܘܣ بالسريانية - إلى الرسالات الأخرى؛ فحسبي بها شاهداً وهي تغنيني. وقد أحصيت له جملة من الأغاليط والشبهات تظهر فساد منهجه القسريّ وتبين عن عيوبه، وأخذت شيئاً من هذه الأغاليط لأعرضها هنا أمام القارئ المهتم، وجعلتها متسلسلة بحسب ورودها في متن أطروحته وحاشيتها؛ كي يسهل تناولها دون مشقة: 1- فقوله الذي يرد في الصفحة الثانية: "وتشطرت المسيحية حال صلب المسيح إلى مسيحية بطرس اليهودية ومسيحية بولص المعادية لليهود" لا يصور الحقيقة التاريخية تصويراً دقيقاً صادقاً؛ فالمسيحية لم تشطر إلى نصفين بين بولس وبطرس حال صلب المسيح، وإنما هو خلاف وقع بين الرجلين حول مسألة التبشير بين الأمم ومسائل أخرى. وقد سوي جزء من هذا الخلاف في مجمع أورشليم الأول، وبقي جزء منه لم يسوَّ في وقته. وفي وصف كرازة بولس بأنها كانت "معادية لليهود" تهمة لن تجد لها من سيرة الرجل وأخباره أيداً؛ فما كان بولس عدواً لليهود يوماً، وإن لم يرض عن كرازته اليهود، وإن حاولوا أكثر من مرة أن يقتلوه. 2- فأما قوله الذي يرد في الصفحة السابعة: "يتجلى هذا التناقض بكل وضوح في التوراة بشكل خاص إذ لم يستطع كتبتها أو الأحرى رواتها - لأنها لم تكتب قبل القرن الأول بعد الميلاد وبنفس مسيحي ظاهر – من تجاوز هذا المأزق" فيثير الاستغراب؛ لأنه يتجاهل حقيقة تاريخية ثابتة؛ هي أن التوراة كانت مكتوبة قبل ظهور المسيحية. وأدعى من ذلك إلى الاستغراب؛ هو أن النمري سينقض زعمه هذا بعد هنيهة قصيرة في الصفحة الثامنة قائلاً: " مما يقطع فيه العلماء المختصون من مؤرخين وآثاريين وأنثروبولوجيين هو أن التوراة كانت قد كتبت أو الأحرى رويت قبل خمسمائة سنة قبل الميلاد". وسينقضه أيضاً بقوله في الصفحة نفسها: " ثم غزا الفرس بقيادة الملك كورش بابل والبلدان التابعة لها ومنها يهودا عام 537 ق.م وأصدر كورش بيانه الشهير حول حرية الأمم وحرر تبعاً لذلك العبيد اليهود في بابل وأعادهم إلى يهودا وأهّلهم فيها. وكان من بين هؤلاء العبيد المحررين نفس الذين كتبوا التوراة". ثم إنه لا يكتفي بنقض مزاعمه هنا، بل يأخذ في التخليط في التعبير دون أن يأخذ نفسه بمراعاة الدقة؛ فيزعم أن التوراة ولدت كردة فعل على الغزو البابلي: " إنّ من يقرأ أسفار (الأنبياء) أشعيا وحزقيال ودانيال وصموئيل وعزرا يدرك تماماً أن روايات التوراة إنما ولدت كردة فعل على الغزو البابلي". فما معنى ردة الفعل!؟ وهل جميع أسفار التوراة كتبت في زمن السبي، لكي يقال: " يدرك تماماً أن روايات التوراة.."؟ وهل وجد صموئيل في زمن الغزو البابلي؟ أسئلة ترينا تشوّش منهج النمري . 3- وفي الصفحة الحادية عشرة جاء قوله: "وقد يسند المرء هذا الاستنتاج الهام بألف برهان وبرهان تقدمها التوراة نفسها والتي ليس أقواها النص القائل بأن يعقوب بن اسحق كان قد تصارع مع الله في جبال جرش "مهنايم" وصرع الله أرضاً فسماه الله "اسرائيل" أي الله آسر". حيث اختلق النمري لحدث الصراع مكاناً غير المكان الذي وقع فيه الحدث. فإن صراع يعقوب مع إلهه،كما تروي التوراة، حدث في موضع سماه يعقوب (فنوئيل) وهو موضع لا يبعد عن (مخاضة يبّوق) التي اجتازها يعقوب في طريق عودته إلى فلسطين من حرّان. ومخاضة يبوق هي رافد من روافد الأردن من جهة الشرق، بحسب جغرافيا الكتاب المقدس، على مقربة من جبل جلعاد، ولكنها ليست من الجبل. 4- وكتب في الصفحة الثانية عشرة: "تعتمد المسيحية أربعة أناجيل وليس إنجيلاً واحداً. ومحاكمة دقيقة لنصوص هذه الأناجيل الأربعة تؤكد أنها جميعاً كانت قد كتبت بعد مائة وخمسة وأربعين عاماً بعد الميلاد، وأن نسبتها إلى الرسولين يوحنا ومتى والقديسين مرقص ولوقا ليست صحيحة والشواهد على زيفها متعددة وكثيرة تفصح عنها النصوص الواردة في الأناجيل الأربعة بالإضافة إلى الفاصل الزمني الطويل بين كتابة الأناجيل من جهة والحوادث الموصوفة فيها من جهة أخرى وهو زمن كفيل بتحوير الحادثة وتغيير روايتها حتى إخراجها من سياقها خاصة في زمن رسوخ الجهل وسيادة الأمية ثمّ بين كتابتها من جهة وبين انتهاء حياة الأخير من هؤلاء الرسل والقديسين من جهة أخرى". وليس لي أن أرفض المبدأ الذي اعتمده النمريُّ هنا لإثبات زيف الأناجيل؛ فمن المسلم به أن العهد إذا طال ما بين وقوع الحدث وزمن كتابته، أحدث ذلك غير قليل من التغيير في بنية هذا الحدث وتفاصيله، هذه حقيقة لا تقبل النكران. ولكنني أعترض حين لا أقرأ في كلامه غير دعوى مرسلة دون أدلة: فأين الأدلة القاطعة على أنّ الأناجيل كتبت بعد مرور مائة وخمسة وأربعين عاماً على وقوع الأحداث التي ترويها؟ وأين الدليل القاطع على أن الأناجيل منحولة على أصحابها؟ 5- ويكتب في الصفحة نفسها قائلاً: " يقرأ المسيحيون في كتبهم وفي " أعمال الرسل" من إنجيلهم أن بولص الرسول كان من أشد أعداء المسيحية، وتروي بعض الروايات التاريخية أنه قام بقتل الآلاف منهم في دمشق وحدها، ولكنه ولمفاجأة الجميع تحول إلى المسيحية مطارداً من قبل سلطات الدولة الرومانية بعد أن كان هو نفسه السلطة الرومانية التي تطارد المسيحيين". وهو قول بعيد كلّ البعد عن أن يكون صحيحاً: فليس هناك روايات تاريخية أو وثائق تروي أن بولس قتل آلاف المسيحيين في "دمشق" قبل تحوله إلى المسيحية؛ فدمشق يومئذ لم يكن فيها آلاف مؤلفة من المسيحيين؛ فلو كان فيها مثل هذا العدد، لما فرّ منها فراراً بعد أن عاد إليها مبشراً. ولو كان فيها مثل هذا العدد، لما كان لنائب الملك الحارث الرابع (أنياس) ملك العربية النبطي وقتئذٍ، أن يتجرأ على مطاردته، وخلفه هذا العدد الضخم من المؤيدين. إن بولس لم يدخل دمشق قبل تحوله إلى المسيحية. أزعم هذا؛ لأنه ليس ثمة روايات أو وثائق تشير إلى دخوله إليها قبل تحوله نحو المسيحية. كما أنّ التاريخ لا يروي لنا أنّ الرومان طاردوا بولس، وإنما الذي يرويه هو أن اليهود هم الذين كانوا يطاردونه. 6- وجاء فيها أن بولس: "ولد في مدينة طرسوس في جنوب الأناضول لأب عسكري مجند في أحد الجيوش الرومانية". والحق أن لفظة "الأناضول" لم تكن في زمانه متداولة، وإنما المعروف من اسم هذه المنطقة في ذلك التاريخ؛ هو كليكيا. ثم إنه، ليس في التاريخ ما يؤكد زعم النمري أنّ والد بولس كان جندياً في الجيش الروماني، وليس في التاريخ ما يثبت أن بولس انخرط في الجيش الروماني. 7- وفي الصفحة الثالثة عشرة يزعم النمري أن بولس: "عمل ضابطاً عسكرياً في القدس مكلفاً بقيادة حملات عسكرية لتحصيل الخراج والضرائب من مواطني يهودا التي حكمها الرومان حكماً مباشراً" وذلك بخلاف ما جاء في سيرته من أنه أرسل في حداثته من قبل والده إلى أورشليم؛ ليتتلمذ على يد معلم الشريعة (غمالائيل) الفريسي؛ فينال رتبة دينية. أضف إلى هذا أن الضباط الرومان لم يكونوا مكلفين بقيادة حملات عسكرية "لتحصيل الضرائب"، كان هؤلاء الضباط مكلفين بالمحافظة على الأمن وإخماد العصيان والثورات. من كان مكلفاً بتحصيل الضرائب هم فئة من الأثرياء كانوا يستخدمون جباةً من اليهود دعوا في الأناجيل (عشارين) . 8- وفي الصفحة نفسها يذكر أن اليهود: "لم يقبلوا بالطبع هذا الاحتلال الجائر بعد أن كان لهم مملكة مزدهرة تحت الحماية الفارسية خاصة وأن عبء الضرائب أخذ ينعكس عليهم بفقر متزايد. قاموا بعشرات الانتفاضات والتمردات خلال العقود الخمسة الأولى للاحتلال لكنهم فشلوا في تحقيق أي نجاح يذكر حتى أخذ اليأس يستولي عليهم فهجرت أعداد متزايدة من اليهود المدن حيث الخضوع المباشر للسلطة الرومانية إلى الصحراء حيث يتنفسون نسمات الحرية بعد أن يئسوا من دحر الاحتلال الروماني والتحرر من سطوته الجائرة وشكلوا " يسين" ولعله المرادف الآرامي لاسم "اليائسين" العربي" وهذا سرد يخالف في جزئياته الحقيقة التاريخية عصرئذ. ومن له إلمام بتاريخ اليهودية بعد سقوطها بيد الرومان، يعلم أن اليهودية لم تشهد "عشرات" الانتفاضات والتمردات في تلك الآونة قبل ثورة عام 66 م، وإنما هي ثلاث انتفاضات ذكر القديس لوقا اثنتين منها، هما: انتفاضة ثوداس، وانتفاضة يهوذا الجليلي الغيور. وذكر يوسيفوس تمرد (حملة الخناجر) وحركة ثوداس مع اختلاف في تحديد الفترة الزمنية لنشوب ثورة ثوداس بينه وبين لوكاس. والدارس للنحلة الإسينية، والمطلع على ما نشر من لفائف قمران، يعلم أن حركتهم كانت في جوهرها دينية لا تكاد السياسة أن يكون لها فيها حيز واضح ولا ملمح بادٍ، ويعلم أن مؤسس هذه النحلة انشق عن سلطة الهيكل الكهنوتية الرسمية في أورشليم ، ومضى بأتباعه عنها إلى الصحراء للتأمل والعبادة وممارسة طقوس مذهبه الجديد فيها بعيداً عن أنظار السلطة الدينية الرسمية في أورشليم ومضايقاتها، ولم يمض إليها تهرباً من دفع الضرائب كما يظن النمري؛ فأنى له أن يتهرب من الضرائب بالخروج إلى الصحراء أو إلى أماكن أخرى؛ وهي خاضعة جميعاً لسلطة الرومان!. 9- وجاء في الصفحة الخامسة عشرة: " انتشرت رسالة يسوع الثورية الداعية للحرية والعدالة للطبقات اليهودية المسحوقة انتشار النار في الهشيم وخاصة بين اليهود الصدوقيين في دمشق الذين قابلوا إعدام المسيح بثورة عارمة وطردوا جميع عمال الدولة الرومانية منها". وما أحسب النمريَّ هنا جاداً بل مداعباً؛ فإنّ اليهود الصدوقيين، ما كانوا إلا من أشد الخصوم عداوة للمسيح، فكيف جاز مع هذه العداوة أن يثوروا لصلبه!؟ وكيف جاز أن تنتشر تعاليمه فيهم هذا الانتشار، وهم، فضلاً عن عداوتهم، يمثلون الطبقة الارستقراطية من اليهود!؟ زد على ذلك أنّ التاريخ الديني وكذلك تاريخ يوسفوس، لا يذكران البتة أن المسيحيين انتفضوا في دمشق فطردوا عمال الدولة الرومانية منها؛ احتجاجاً على صلب المسيح [4]. 10- وتتجلى لدى النمري في صفحته الثامنة عشرة، ميزةٌ بارزة من ميزات المنهج القسري ألمحتُ إليها في بداية حديثي، حيث يقول: " علم المجلس المسيحي في القدس، وهو صاحب الولاية، [5] بهرطقات بولص فدعاه للحضور إلى القدس ولدى حضوره طلب بطرس وهو عميد المجلس من يعقوب (أخو الرب) أن يحضر للمجلس لمواجهة بولص. رفض يعقوب الحضور بسبب أنه لا يريد أن يرى هذا الشخص الكريه كما وصفه وأنه إذا ما حضر فسيبصق في وجهه كما أكد" [6] وقد بحثتُ طويلاً في أسفار العهد الجديد، وراجعت رسائل بولس وسيرته ومعجم الكتاب المقدس ، وقرأت الكثير مما كتب عنه، فلم أعثر على مصداق لهذا القول كما يرويه النمري. فمن المعلوم أن بطرس استدعى بولس عن طريق برنابا؛ لمناقشته في محتوى كرازته بعد ثلاث سنوات من تحوله؛ ولفض ما وقع بينهما من النزاع، ولكنه ليس مذكوراً أن يعقوب أخا الرب استكره رؤية بولس، وعزم على أن يبصق في وجهه إذا رآه. [7] 11- ومما يلفت النظر الوهمُ الذي انزلق إليه النمريُّ، إذ جعل بولسَ يستخفي في "الجزيرة العربية" بعد خروجه من دمشق إثر أن استرد بصره على يد حنانيا، كما يروي بولس في سيرته، وقد ذكر النمري الجزيرة العربية مرتين في أطروحته قبل أن يتنبه لهذا الخطأ في حاشية الأطروحة، فيعدل عنه إلى المكان الصحيح الذي "استخفى" فيه بولس وهو العربية بلاد النبط. كما يلفت النظر تخبطه في تحديد المدة التي استغرقها في بلاد النبط قبل أن يعود ثانية إلى دمشق؛ فقد زعم في المتن أنها اثنتا عشرة سنة، وفي الحاشية أنها عشر سنوات: "ما يفضح لغز بولص هو أعماله. فبعد اختفاء دام اثنتي عشرة سنة على واقعة الرؤيا المزعومه ظهر فجأة في دمشق بمسيحية ليست كالمسيحية..." وفي الحاشية، كتب: "الحقائق التي وردت على لسان بولص نفسه وآخرين غيره تقول أن بولص وبعد أن وصل إلى إلى دمشق لبضعة أيام هرب متخفياً ولم يظهر له أي أثرٌ لعشر سنوات قال أنه قضاها في العربية مملكة الأنباط " [6]. وفي الجدال الذي دار بينه وبين الأستاذ وليد عطو، أصرّ النمري على أن بولس قضى هذه المدة في البتراء (حصراً) دون أن يقدم دليلاً. والإصرار من الباحث على أمر لا دليل على صحته، يعد منافياً لقواعد البحث العلمي وشروطه. 11- وفي الصفحة السابعة عشرة حيث يقول: " كان بولص رسولاً للقيصرية مخادعاً إذ رأى أن روما لا تستطيع قهر المسيحية إلا من داخلها بعد أن زاد انتشارها بعد إعدام يسوع خلافاً لكل توقعات روما. وهكذا اندس داخلها بحيلة ذكية هي الرؤيا قرب الحولة والتي جعل منها رسماً له كرسول للمسيحية" يختصر النمريُّ حكاية نقمته على بولس، ويبسط فكرته الجوهرية عنه، أو فرضيته المتمثلة في ادعائه بأنّ بولس كان جاسوساً للرومان على سرير بروكست، ثم يشرع بتمديد أطراف فرضيته عن بولس (الصغير) فوق السرير [7] لعله يبلغ بذلك غايته من هدم المسيحية التي خدع عنها المسيحيون عبر العصور إذ خالوها مسيحية المسيح، وما هي في الحقيقة إلا مسيحية بولس وقد عدل بها عن أصلها؛ كي ينقذ الامبراطورية الرومانية من خطر مسيحية المسيح الثورية. ربما بدت فرضية النمريّ هذه، مثيرة للاهتمام، وربما جذبت إليها نفراً يجهل تاريخ المسيحية ولاهوتها، ولكنها عند التحري، سرعان ما تنهار كما ينهار منزل بني على الرمال. فإذا كان غرض بولس من نشر (مسيحيته) انقاذَ الامبراطورية الرومانية من خطر مسيحية يسوع وبطرس، فلماذا اتجه إلى التبشير بين الأمم؟ هل كان الرومان مثلاً خطراً على الامبراطورية الرومانية؛ فأراد أن يستميلهم إلى مسيحيته المزيفة؛ كي يصبحوا عبيداً لها طائعين ؟ وإذا كانت مسيحيته مشروع إنقاذ للامبراطورية، فلماذا شنّ عليها الرومان اضطهادهم؟ التاريخ يروي أن عشرة اضطهادات للمسيحية، التي نشرها بولس في أرجاء الامبراطورية، وقعت قبل أن يفرضها قسطنطين الكبير ديناً للامبراطورية. فكيف يفسر النمريُّ وقوع هذه الاضطهادات على مسيحيّة بولس المندسّ؟ وما إخال النمريَّ يوفق إلى إجابة صحيحة، وما إخاله قادراً على تبرير أخطائه التي أظهرتُ غيضاً من فيضها، إلا إذا جعل من أطروحته رواية يلهو بها الخيال. _________________________________________________________ [ 1] انظر كتابه: أصول الفلسفة الماركسية!. [2] وليد يوسف عطو : بولس ليس جاسوساً، الحوار المتمدن. [3] يرى الأستاذ وليد عطو فيما يرى أن بولس كان عرفانياً. والحق أنه لم يكن كذلك فالعرفانية مفهوم حديث بالقياس إلى بولس، وهي مما شاع لدى متصوفة المسلمين المتأثرين بالافلاطونية الحديثة (فلسفة افلوطين) بيد أنه يمكن القول بأنه تأثر بأفكار زينون الرواقية. [4] ورد التعريف بالصدوقيين في قاموس الكتاب المقدس: " هم الطبقة الارستقراطية بين اليهود، فمعظم رؤساء الكهنة منهم، كان عملهم المحافظة على نظم الهيكل والضرائب ومراقبة الخزائن، ومن ذلك أثروا ثراء فاحشاً. وكان بينهم وبين الفريسيين خلافات كثيرة فهم لا يؤمنون بالقيامة ولا الأرواح ولا الملائكة، ومع هذا اتحدوا مع الفريسيين ضد المسيح إذ شعروا بأن المسيح يهدد مصالحهم معاً. لا يقبلون سوى أسفار موسى فقط، منسوبين لشخص اسمه صدوق". مما يقطع بصحة ما قاله الأستاذ عطو عن النمري من أنه لم يلمَّ إلماماً كافياً بالأناجيل وتاريخها وأدبها. [5] لا أعلم المراد من قوله "صاحب الولاية". [6] بولس: معناه الصغير، راجع معجم الكتاب المقدس وكان قليل الحجم بالقياس إلى برنابا! "[ 7] روى بولس في رسالته إلى غلاطية (غل 1: 18 – 19): "ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف على بطرس، فمكثت عنده خمسة عشر يوماً. ولكنني لم أرَ غيره من الرسل إلا يعقوب أخا الرب".
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإباحية في أدب النساء العربيات
-
الحوار المتمدن يسهم في التحريض على المسيحيين في بلاد الشام
-
ما جاء على وزن الذهان من مقالة السيد حسقيل قوجمان
-
حملة الأريب على سامي بن لبيب
-
رسالة الطعن في النساء
-
الحقيقة بين التلجلج واللجاجة
-
الأستاذ حسين علوان متلجلجاً داخل شرك المنطق
-
شامل عبد العزيز بين أحضان المسيحية
-
سامي لبيب والرصافي خلف قضبان الوعي
-
ضد عبد القادر أنيس وفاتن واصل
-
إلى الأستاذ جواد البشيتي. ردٌّ على ردّ
-
بؤس الفلسفة الماركسية (6)
-
بؤس الفلسفة الماركسية (5)
-
بؤس الفلسفة الماركسية (4)
-
بؤس الفلسفة الماركسية (3)
-
بؤس الفلسفة الماركسية (2)
-
بؤس الفلسفة الماركسية
-
نقد نقد النظرية الماركسية
-
إلهٌ جديد
-
حنَّا هاشول يصرخ في الوادي
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|