ميسون البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 3050 - 2010 / 7 / 1 - 11:39
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
التاريخ المجيد لا يمكن أن يبنى بالخديعة , وإذا كان للزوج المخدوع وهو آخر من يعلم حق تطليق من خدعته فيتخلص منها ومن عارها , فالأبناء المخدوعون حين يكتشفون الخديعة لا يملكون مثل هذا الحق , فيصا بون بالإنكسار .. فأما يوغلون في الإثم , وأما ينسلخون عن مجتمعاتهم ويتعاونون مع أعدائها عليها , أو يبقى قسم منهم يحمّل القسم الآخر مسؤولية ما حصل .. وهذا هو حالنا اليوم أمة العرب المسلمين .
بداية وقبل كل حديث , أعلن أني لم ولن أرغب المساس بقدسية الدين الإسلامي الحنيف , ولا بمكانة نبي الرحمة الكريم , ولا بصحبه أجمعين رضوان الله عليهم , لكني أريد البحث عن أصل الخلل الذي أسقط دولة الإسلام في العام الهجري 40 والذي يؤدي الى إستفحال واقعنا الحالي بهذه الفرقة الطائفية البغيضة التي لولاها لما فكرت في البحث في هذا الموضوع اصلاً أوالكتابة عنه .
بعيداً تماماً عن التفكير الطائفي أو العنصري أو المتحيز لأي طرف , فإن الدراسة الواقعية التاريخية والإجتماعية والإقتصادية لمجتمع الإسلام تجعلني أقرر أنه لو تسلم حكم المسلمين أي رجل آخر غير عثمان بن عفان وبنفس الآليات الإجتماعية والإقتصادية والنفسية للمجتمع الإسلامي في عهده .. لقتل كما قتل عثمان . ولكي نلم بجميع العناصر التي أدت الى فتنة مقتله , سأقوم بإستعراض هذه العناصر جميعاً ضمن مفهومي وتفسيري الخاص ورؤيتي التاريخية , بعد ذلك سأسرد الآلية التي إندلعت بها تلك الفتنة حتى وصلت مداها وهو تنفيذ القتل بشخصية خليفة المسلمين .
حين قتل خليفة المسلمين علي بن أبي طالب في الكوفة , تسلم الخلافة من بعده إبنه الحسن , فحكم مابين ستة الى ثمانية أشهر كادت فيها أن تندلع الحرب بينه وبين معاوية , إذ سار الجيشان وإلتقيا في الأنبار , ولكن لحكمة الحسن كحاكم وحرصه على عدم إراقة المزيد من دماء المسلمين فقد تنازل لمعاوية عن الحكم فيما يعرف بعام الجماعة الذي يقع في السنة 40 للهجرة .
لأن بني أمية بعد أن وصل الملك لهم أرادوا تغطية كل ما سبق من مطاحنات دامية ليسهل عليهم حكم المسلمين من ناحية .. ولأنهم أرادوا أن تتساوى الرؤوس بنظر العامة فلا فرق بين علي ومعاوية ولا يزيد والحسن أو الحسين .. لذلك بدأوا بإشاعة فكرة أن صحابة الرسول جميعا ًهم سواسية ولا فرق بين واحد منهم والآخر .. وجميعهم رضوان الله عليهم .. وجميعهم منزهون عن العيب والخطأ , ولهذا فبمرور الوقت أصبحنا ننظر الى تلك الفترة من حياة الإسلام نظرة خاطئة .. فإذا كان الجميع بهذا الطهر والنورانية .. إذن من أين كانت تأتي مشاكل المجتمع الإسلامي ؟ النظرة الموضوعية تدعونا الى أن نتصور أن الإسلام جمع بين كل هذا الرهط .. لكن كل فرد منهم كانت له أخطاؤه وعيوبه التي تأثرت وأثرت بهذا القدر أو ذاك في الدين المحمدي , ولا يجوز لنا أن نتصرف كما فعل مفتي سوريا في بداية القرن العشرين , حين قام الرائد المسرحي السوري أحمد أبو خليل القباني بعرض مسرحية هارون الرشيد , فقام المفتي بالسفر الى الباب العالي في الإستانة للشكوى حول تطاول الفنانين على أولي أمر المسلمين .
نفس ما سعى له بنو أمية , تكرر مرة أخرى عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع نشأة التيار القومي العربي , فحين أدرك القوميون أن الإسلام مقوم مهم من مقومات العروبة , حاولوا أن يرسخوا في الأذهان فكرة أن أولئك العرب الذين دخلوا الإسلام كانوا جميعا ً مثل الجسد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى .. والحقيقة غير ذلك تماماً , المضحك في الأمر أن التطور التقني أدى في هذه الفترة الى إنتاج أفلام ومسلسلات تصور لك مجتمع الإسلام وكأنه المدينة الفاضلة التي يأتيها الباطل فقط من المشركين وأعداء الإسلام .. وكأن المسلمين بما جبلت عليه نفوسهم غير قادرين على إنتاج مشاكلهم بأنفسهم دون الحاجة الى الطاريء أو الدخيل , وهذا تبسيط وتصوير ساذج للحياة , ناهيك عما أنتجت تلك الفترة من كتب ومطبوعات كتبها صحفيون وأدباء وربما حتى باحثين تاريخيين , لكنها تفتقر الى التحليل السليم والمنطقي للأسباب الجوهرية التي أدت الى تفكك دولة الإسلام بعد فترة قصيرة من تأسيسها , ولم يحاول أحد منهم أن يتجرد عن الحاجز النفسي الذي قد يسميه البعض بعامل ( الحرام ) في التعامل مع معطيات الإسلام وأفكاره وقوانينه وفلسفته وتطبيقاته لفهم من أين ينبع الخطأ , وأين بالضبط تقع العلة , هل تدافع المسلمون الأوائل لقتل بعضهم بعضا حباُ في المال والسلطان ؟ ؟ أم أن هناك خلل في بعض تطبيقات الإسلام والمسلمين هي التي أوصلت الى ذلك الحال ؟
لكي نعرف مقدار ثراء النبي محمد والبيئة المالية والمجتمعية التي تحرك فيها علينا فقط ان نتذكر أنه كان يقود تجارة زوجته خديجة , ولكي نعرف مقدار ثروة خديجة يكفي أن نتذكر أن لقريش رحلتين في السنة قوام كل رحلة حمولة ألف بعير .. 500 لخديجة , و500 لسائر تجار قريش مجتمعين , وهذا إن دل على شيء فهو على أن خديجة وزوجها كانا من أغنى أغنياء قريش , ولهذا فمن المنطقي أن النبي لم يقدم الإسلام الى الناس على أنه دين للفقراء والمحرومين .. وإنما هو دين لعامة الناس .
حين نزل الوحي على النبي , دعى النبي قومه الى الإسلام .. فلم يلتفت إليه أحد , ليس لأن الناس متمسكة بعبادة الوثن كما يظهر في فلم فتح مكة أو فلم الرسالة أو فلم ولد الهدى .. هذا تصوير ساذج وتفسير سخيف لحقيقة الأمر , فالدين .. أي دين .. هو الدعامة التي تتأسس حولها علاقات النسب والعشيرة والقبيلة والمصاهرة والزواج والمصالح والتجارة والمال .. لذلك فإن من ينسلخ عن دينه تى وإن كان دين عبادة الحجر سيخسر الشيء الكثير إن لم نقل سيخسر كل شيء , ومن أي دين نحن لو فكر أحدنا بتغيير دينه اليوم .. فما الذي سيبقى له من كل حياته الماضية ؟
لم يلتفت أحد الى دين محمد .. لأن النبي إضافة الى أنه كان يدعو الناس الى فك وشائجهم وعراهم مع من حولهم من الناس باللحمة التي إلتأمت حول عبادة الوثن , فإنه لم يقدم لهم بديلاً ماديا ملموساً عن تعويض سيكتسبونه نتيجة هذا التغيير .. كأن يكون تجارة رابحة أو مكانة سامية .. أما عزة الله وجلاله أو التخويف من النار والتبشير بالجنة فهذه وعود لم تكن تهم في شيء ذلك العربي الذي لايملك اليقين وقد تكون هذه المجردات بنظره مجرد أوهام وسراب .
شخصية النبي حتمت عليه أن لا يستسلم الى عائق مثل هذا يثنيه عن الدعوة الى الدين الحنيف الذي أمره ربه به , لهذا وعد العبيد بالحرية والجياع بالشبع فتأسست منهم قاعدة الإسلام البشرية , وكانت تنزل على النبي الآيات المكية من القرآن الكريم وهي في مجملها آيات قصيرة تتضمن أحكاما عامة وليس فيها تفصيلات كثيرة .
طيلة حياة السيدة خديجة بنت خويلد لم يتزوج النبي عليها وحين ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات تزوج مباشرة من السيدة ( سودة بنت زمعه ) ولأنه كان يريد الإعتماد على أبو بكر الصديق لذلك تزوج من إبنته عائشة , ولذلك سنرى مسؤليات جسام كان النبي يكلف بها أبو بكر وكما سيأتي . وبعد الهجرة بعامين تزوج النبي من حفصة إبنة عمر بن الخطاب لنفس السبب , لهذا كان الثلاثة هم الذين يحكمون مدينة الإسلام التي تأسست في يثرب .
يحدد فيلسوف التاريخ أرنولد توينبي صاحب نظرية التحدي والإستجابه في تفسير التاريخ يوم ( فتح مكة ) تاريخاً لبدء تراجع دولة الإسلام وحتى سقوطها في العام 40 هجري . وقد يتفق معه كثيرون في هذا , لأن فتح مكة لم يكن سعادة ونعيم كما نرى في الأفلام , فأهل مكة كانوا يكرهون النبي . وهو يكرههم أيضا , يحكى أنه يوم فتح مكة إستعرض أهلها شامتاً ساخراً , وحين مرت من أمامه هند بنت عتبه زوجة أبو سفيان وأم معاوية قال لها بإستهزاء ( من ؟ هند ؟ آكلة الكبود ؟ ) فنظرت بوجهه نظرة ذات مغزى وقالت : ( أنبيٌ ؟ وحقود ؟ ) .
بعد فتح مكة وإرغام الناس بالقوة على الدخول في الإسلام , إرتد أغلبهم إن لم يكن في العلن ففي السر . ولذلك زعل عليهم النبي وأخذ زوجاته وغادر الى المدينة , معطياً لأهل مكة ( سنة إنتقالية ) ليعودوا مرة أخرى الى الإسلام , فإن لم يفعلوا فستشدد عليهم الأحكام , وكان من المقرر أن تغلق بيوت ( ذوات الرايات الحمر ) بالتدريج خلال هذه السنة . لكن أهل مكة تمادوا في العودة الى جاهليتهم الأولى , ولكي يكيدوا للنبي الكيد كله .. تم في واحد من بيوت ذوات الرايات الحمر تسمية المشتغلات في تلك الدار بأسماء السيدات أمهات المؤمنين ولهذا فحين كان الشعراء يشببون بتلكم العاهرات _ كان التشبيب يقع على أمهات المؤمنين بسبب إنتحال أسمائهن . حين إنتهت السنة الإنتقالية وعادت قوات النبي الى مكة بقيادة أبو بكر الصديق الذي كان مسؤولاً عن العسكر والأمن , أناط النبي مسؤولية أخرى بأبو بكر الصديق وهي رئاسة لجنة تعقب وإعدام الشعراء المشببين , وكان من بين هؤلاء شاعر يدعى بعل , كان زوجاً لتلكم النسوة اللواتي يحملن أسماء أمهات المؤمنين , واللواتي رفضن التوقف عن ممارسة الدعارة لأن هذا مصدر عيشهن الوحيد , حين إقتادهن الحرس الى السجن , كان بعل زوجهن يأتي كل يوم الى مكان قريب من السجن وهو يحمل قصيدة طويلة يشبب فيها بواحدة من زوجاته المسجونات وهي تحمل اسم واحدة من امهات المؤمنين , وسط حشد من الناس , وبعد أن ينتهي من قراءة القصيدة يذهب ويعلق صحيفتها على حائط السجن , بعل هذا وجمهرة الناس حوله هم الذين نزلت فيهم سورة الشعراء (( والشعراء يتبعهم الغاوون , ألم تر أنهم في كل واد يهيمون , وأنهم يقولون مالا يفعلون , إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وإنتصروا من بعد ماظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )) .
مشهد رهيب تصوره لنا هذه الحكاية من الإستهزاء بالإسلام والمسلمين داخل مكة حتى بعد فتحها , أجاز لتوينبي أن يعتبر من خلاله فتح مكة هو نقطة تراجع الإسلام من كونه هو الذي كان يشكل التحدي لمكة قبل الفتح _ لأن يصبح أهل مكة هم التحدي للإسلام بعد الفتح , فكانت الإستجابه هي سقوط دولة الإسلام عام 40 للهجره .
كل هذا تحليل جيد من توينبي بإعتباره يفسر التاريخ كمجموعة من التحديات والإستجابات لكني أجده قاصراً في توصيف ما وقع فعلاً داخل دولة المسلمين فأدى الى سقوطها , فلو أن الإسلام كان قد أسس مجتمعاً صالحاً للديمومة , فإن نعرة الجاهلية ستنتهي منه حتماَ بحكم أنقراض أجيال وولادة أجيال وتغير أحوال المجتمع من جيل الى جيل بحكم الثقافة السائدة , أما لماذا لم يتمكن الإسلام من تأسيس مجتمع صالح للديمومة , فهذا وحسب تفسيري الذي أبنيه على مبدأ التراكم الكمي الذي يؤدي الى تغيير في النوع , عندها تقع حتميات تاريخية لا يمكن تفاديها , ولن ينفع في ذلك , لا تبديل قانون .. ولا تغيير حاكم , وهذا هو الذي وقع في دولة المسلمين .
حين إستقر النبي في يثرب بدأت تتنزل الآيات المدنية من القرآن الكريم وهي آيات طويلة نسيبياً وفيها شروح لأحكام الحياة والعبادة , ولأن الدين لعامة الناس وليس لفئة محددة منهم , فقد بدأت تنزل على النبي آيات ناسخة لتنسخ أحكام آيات قبلها , لن يهمني هنا مناقشة الناسخ والمنسوخ في آيات المغفرة أو آيات تحريم الخمر , لكني سأهتم بالناسخ والمنسوخ الذي سينفجر على شكل مشكلة كبرى في حياة المسلمين ويكون هو السبب الرئيس في تقويض دولة الإسلام .
آيات الزكاة .. نسخت آيات تحريم كنز الأموال وآيات الحث على إنفاقها , فصار المسلم لا جناح عليه أن يكنز ما يشاء من المال بشرط أن يتزكى . وسأترك هذه النقطة هنا على أن نعود إليها مرة أخرى حين ستستفحل مشكلتها .
المشكلة الثانية التي سيتركها الإسلام معلقة الى أن تنفجر فيما بعد هي موقفه من العبودية والرق . يقول النبي محمد ( لقد أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم ) ويقول ( المؤمنون سواسية كأسنان المشط ) , إلا أن الإسلام لم يقدم حلاً جذرياً لهذه المشكلة .. كيف يكون المؤمنون سواسيه كأسنان المشط إذا كان أحدهم يمتلك صك عبودية الثاني ؟ .. واذا كان لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى _ فهل بالمقابل لا فضل لسيد على عبده , إذا كان العبد أكثر تقوى من سيده ؟ .. أمام الله سبحانه وتعالى من المؤكد أن لا فضل لإنسان على إنسان إلا بالتقوى ولكن ألا يحتاج حال الحياة الدنيا الشيء الكثير من الإصلاح ؟ أليس الإسلام دين ودنيا ؟ وفي بناء دنيا ومجتمع وتأسيس دولة .. ألا يجب إيجاد حل فاعل لهذه المشكلة التي سأتركها الآن وأعود إليها حين ستستفحل .
في رمضان سنة 8 هجرية تم فتح مكة , وحين أعلنت مكة بعد الفتح تمردها على الإسلام , سحبت معها قبائل عربية كثيرة ممن تعيش خارج مكة والمدينة والطائف الى إعلان ردتها عن الإسلام في حياة النبي .
بعد 17 شهر إي في صفر 11 هجرية مات النبي ورغم أن كتاب الله ينص (( والذين إستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون )) سورة الشورى 38 ... كما أن القرأن صنّف ترتيب الشورى بعد الإيمان بالله وإقامة الصلاة ويفضلها على الإنفاق بالزكاة والصدقات إلا أن أبا بكر الصديق وبحكم سيطرته العسكرية والأمنية على دولة الإسلام عاجل الشورى بإجتماع السقيفة وفاز بكرسي الخلافة الأول . يعلل بعض الكتّاب ذلك بقولهم أن الردة بموت النبي كانت قد أصبحت على أشدها , والوقت لا يتسع لشورى من أجل السيطرة على الأوضاع . غير أن هذا التجاوز أغضب رجالاً كثراً من قريش كانوا يعتقدون بأحقيتهم بالخلافة أكثر من أبي بكر .. علي ابن أبي طالب واحد منهم , وإن كانوا قد إنتهوا جميعاً الى مبايعة أبي بكر كخليفة للمسلمين .
قبائل المسلمين من غير قريش كان لهم رأي في تجاوز مسألة الشورى أيضاً , فقد قالوا أنه حتى لو كانت الخلافة محصورة في قريش فهذا لا يعني أن ليس لنا حق في أن نُشاوَر بأمر من سيحكمنا من قريش , وأعترضوا على أبي بكر بالإمتناع عن دفع الزكاة الى بيت مال المسلمين . بل كانوا يجمعونها بينهم وينفقونها على المحتاجين منهم بمعرفتهم . لكن أبا بكر إعتبرهم جميعاً مرتدين عن الإسلام وحاربهم في عقر ديارهم وقال فيهم قولته الشهيرة (( والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم فيه )) صورة كالحة للحياة في دولة الإسلام تتمثل في ردة عامة , وموت النبي , وإشتداد الردة . وتجاوز حد الشورى من قبل خليفة النبي الأول , وإمتعاض قريش , وإمتعاض قبائل العرب , وإمتناع عن دفع الزكاة إعتراضاً على شخص الخليفة , لكن خليفة المسلمين يحارب القبائل المعترضة على شخصه , بتكفيرها عن الإسلام وهذا ليس من حقه البتة , أليس نبينا محمد القائل (( من كفَّر مسلماً فقد كفر )) ؟ وهل يتساوى القبول بأبي بكر حاكماً , مع الإيمان بالله وكتابه ورسوله .. لكي يكفر أبو بكر من لم يقبل بخلافته ؟ ولن يهمني كل هذا إلا بالقدر الذي أحدثته فوضى الحرب في حياة المسلمين فخربت تجارتهم وزراعتهم ومصالحهم . مما أضر بإقتصادهم ومستواهم المعيشي الذي أصبح لا يطاق , لأن هذه النقطة هي التي ستتطور لاحقاً لتسبب المصيبة .
بقي أبو بكر مصراً على عدم العمل بالشورى التي قدمها كتاب الله على الزكاة والصدقة , حتى ساعة وفاته حيث وصى بالخلافة لعمر بن الخطاب , وعمر بن الخطاب سياسي داهية ولهذا كان النبي قبل إسلام عمر يدعو ربه (( أللهم أعز الإسلام بأحد العمرين )) .
حين آل إليه حكم المسلمين أخذهم بالشدة , فشدد الأحكام , وأشغل الناس بالقتال , وبعد أن كانت الفتوحات في زمن أبي بكر قد طالت الروم , فإن عمر قد وجه القتال لفتح العراق ومصر .
واجه عمر بن الخطاب مشكلة أن رجال المسلمين , ومنذ مجيء الإسلام كانوا مشغولين بنشر الدعوة والقتال من أجلها , ولذلك تضررت تجارتهم وزراعتهم ومصالحهم , وبالتالي فهم يعيشون في واقع إقتصادي مزري , لذلك حين بدأت أموال الخراج تأتي من الأمصار الجديدة المفتوحة , فقد كان أول ما فعله أمير المؤمنين , أنه خصص درهماً واحدا في اليوم عطاءاً لكل مسلم يقيم به حاجته ويساعد به نفسه على تدبر شؤون معيشته , وتلك كانت أكبر غلطة وقع فيها عمر بن الخطاب على الإطلاق .
الخبراء الإقتصاديون المعاصرون يحذرون أشد التحذير من الزيادات المفاجئة في العطايا والرواتب والمخصصات الى عامة المواطنين لأنها تؤدي مباشرة الى التضخم في الأسعار , وحين تتضخم الأسعار فإن العملة النازلة الى السوق يتم سحبها الى جيوب التجار .. مقابل نفس نوع وكمية البضاعة التي كانت أرخص قبل الزيادة , ولهذا فالنظرية الإقتصادية الحديثة تشجع الحكومات على دعم سعر السلع والخدمات في السوق .. دون منح زيادة في المحفزات والرواتب , وبذلك يبقى سعر العملة والسوق ثابتاً رغم تغير مستوى المعيشة . ولهذا فكلفه رغيف الخبز في عهد عمر التي لم تكن تتجاوز الفلس أو الفلسين قبل الزيادة , تضاعف سعرها عدة مرات بعد الزيادة .
كذلك في عهد عمر بن الخطاب أنفجرت مشكلة الرق والعبودية التي لم يحسمها الإسلام لأنه أبقى نوعين من الرق وهما : أسرى الحرب , وأبناء الإماء . لذلك ففي فتوحات بلاد الروم كان العرب يجلبون معهم السبي من البلاد المفتوحة , يسترقونهم ويستعملونهم عبيداً , وفي فتح العراق كان العرب قد جلبوا معهم 40000 من الفرس الى ديار العرب لنفس الغرض .
عندما تسلم عمر خلافة المسلمين ولى عمرو بن العاص على مصر , وفي يوم من الايام أتى مصري قبطي الى عمر يشتكي ويقول أنا مظلوم يا أمير المؤمنين قال له وماهي مظلمتك ؟؟ قال سابقت محمد بن عمرو بن العاص والي مصر فسبقته بفرسي فنزل عليَّ أمام الناس وضربني وقال لي تسبقني وأنا ابن الأكرمين فحكم عمر بأن يضرب القبطي محمد ابن العاص أمام أبيه , وذهب الى أبيه عمرو بن العاص فلمس صلعته وقال له : (( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا )) . يقف كتّاب السير والمؤرخون عند هذه الحادثة كثيراً للتدليل على عدالة عمر التي لاشك فيها لكنهم لا يكلفون أنفسهم كثيراً للحديث عن كيف يستعبد المسلمون في عهد عمر الناس عبودية فعلية حين يأسرونهم في الحروب فيسبونهم عن ديارهم , ويجبرونهم على تغيير دياناتهم , ويستعملونهم عبيداً أرقاء , ويميزون أنفسهم عنهم في كل شيء , بما في ذلك تمييز نساء العبيد عن نساء سائر المسلمين .
الحجاب في الإسلام ( شارة ) وليس ( فريضة ) . حين كثرت نساء العبيد في ديار المسلمين , إحتاجت بعض نساء المسلمين الى تمييز أنفسهن عن السبيات , فظهرت شارة الحجاب على شكل قطعة قماش تضعها نساء المسلمين على رؤوسهن تمييزا لهن عن نساء العبيد , ورغم أن نساء العبيد كن يجبرن على إعتناق الإسلام الذي يقال أن الناس فيه سواسية كأسنان المشط إلا أنهن كن يمنعن منعاً باتا من إرتداء شارة الحجاب .. فأين هي العدالة في ذلك إذا كان الإسلام دين للناس كافة ويساويهم كأسنان المشط ؟ علماً أن شارة الحجاب لم تكن إلزامية على نساء المسلمين , بل تستعملها من هي بحاجة اليها فقط , ولو كان الحجاب فريضة فقد كان خليقاً بحفيدة أشرف الخلق السيدة سكينة بنت الحسين أن تضع الحجاب على رأسها , بينما نجد من أخبارها انها كانت سافره وواحدة من أجمل جميلات العرب وكان أجمل ما فيها شعرها الذي كانت تقصه ليكون طوله على كتفيها وإشتهرت قصة شعرها بين النساء بإسم ( القصة السكينية ) وكانت السيدة سكينة شاعرة ويجتمع الشعراء في مجلسها وتستمع إليهم وتجيز أشعارهم وهي التي أجازت الشعراء : جرير , والفرزدق , وكثير عزة , وجميل بثينة . خطبها رجال كثيرون وتزوجت خمس مرات , قتل من أزواجها إثنان وتوفي إثنان وطلقها الخامس , هكذا كانت النساء المسلمات في ذلك العهد , ولسن خيام سوداء متحركة كما يراد لهن اليوم بإسم الإسلام .
عدد الأسرى الفرس الذين جلبوا من فارس عند فتح العراق كان أربعين ألف أسير بيعوا جميعا في أسواق الرق .. والخلل الذي أحدثه هؤلاء المسبيين في مجتمع المسلمين ليس بالقليل , فهم بأشكال مختلفة وعادات وتقاليد مختلفة , ولغات مختلفة , ويحملون ألم سبيهم عن ديارهم الذي لا يمكنهم الإفصاح عنه والذي تنتج عنه أفعال لا بد أن تصب في أذية مجتمع الإسلام .. فيتعرضون بسبب ذلك الى الأذى .. فيزدادون شراسه .. في السنة 19 هجرية غلب العرب القائد الفارسي ( الهرمزان ) وجلبوه أسيراَ الى عمر بن الخطاب , فتم إجباره على الإسلام والبقاء في المدينة , وفي المدينة وبعد عطاء عمر للمسلمين عطية الدرهم من بيت المال إشتعل الوضع الإقتصادي لكل سكانها .. فصار صغيرهم وكبيرهم يحسب كم ينفق وكم يدفع الى بيت المال زكاة عن موارده .. وكم .. وكم , وما نلبث حتى نصل الى السنة 23 هجرية حتى يندفع أبو لؤلؤة فيروز الى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب فيطعنه في بطنه ويجعل أمعائه تندلق الى الخارج , ولم يكن ذلك بسبب جريمة منظمة رتب لها المسبيون الفرس , وإنما لأن أبا لؤلؤة فيروز كان قد إلتمس من الخليفة تخفيض مقدار ما يدفع من
ضريبة الى بيت المسلمين .. لكن الخليفة لم يوافق على ذلك .
وبينما كان الخليفة يحتضر , إندفع إبنه عبيد الله فقتل القائد الهرمزان ولؤلؤة بنت فيروز , وعدداَ آخر من الفرس . وكان في نيته قتل جميع السبايا الفرس ذلك اليوم لو لم يسحب السيف من يده . أفلا تنبهنا هذه الحادثة الى طبيعة العلاقة التي كانت سائدة بين العرب وسباياهم الفرس .. وطبيعة الوضع الإقتصادي القاتم لعموم المسلمين ؟؟
بينما كان عمر بن الخطاب يحتضر دعا ستة من الصحابة لتشكيل مجلس للشورى ينتخبون فيه من بينهم خليفة خلال ثلاثة أيام وهم كل من : عثمان بن عفان , علي بن أبي طالب , طلحة إبن عبيد الله , الزبير بن العوام , سعد بن أبي وقاص , وعبد الرحمن بن عوف .
حين فاز عثمان بن عفان بكرسي الخلافة الثالث , لم يكن ذلك مريحا َ لبقية من معه في مجلس الشورى وكان علياً أكثرهم حنقاً لأنه يعتقد أنه الأحق من عثمان وقد أُخذت لعثمان البيعة حيلة .
أول مشكلة واجهت عثمان خلال فترة حكمه كانت قضية عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان وبقية سبايا الفرس معه , وفي وقت رأى فيه عثمان أنه سيكون من الصعب أن يقتل خليفة المسلمين ثم يعدم إبنه بعده بعدة أيام , لذلك دفع دية القتلى وأخلى سبيل عبيد الله بن عمر , مما جعل هذه الحادثة موضوعاً للجدال والإعتراض من قبل علي بن أبي طالب , حيث يرى بعض الباحثين أنها كانت متنفساَ لعلي للتعبير عن ضيقه بما آلت له بيعة الحكم .
في الأسبوع الأول الذي أصبح فيه عثمان بن عفان خليفة على المسلمين إرتكب أول أخطائه , فقد تحسس بمشكلة المسلمين الإقتصادية وضائقتهم المادية فأحب التوسعة عليهم , فقام بزيادة عطاء المواطن من درهم واحد في اليوم الذي خصصه لهم عمر بن الخطاب , الى درهمين .. فتوسع الشق الذي كان قد أحدثه درهم عمر .
كلما إزدادت كمية النقد المتداولة في السوق .. شحت الحاجة وإرتفع سعرها , وهذا معناه وكأن لا زيادة فعليه من المال بيد المواطن .. وسيبقى الجوع هم الليل والنهار الذي يلبد فوق رأسه . ومن ناحية ثانية .. يعني تجمع المزيد من النقد السائل بيد التجار . فإذا إفترضنا أن التاجر زاد ربحه في العام 100 ألف درهم عما كان عليه في الماضي .. فلن يضيره أن يدفع عنها 20 ألف درهم إضافية زكاة الى بيت مال المسلمين , وكل هذا وهو في الجانب المشروع والحلال من الدين , ولهذا علينا أن نسجل أن أعطية بيت مال المسلمين ( الدرهم في أيام عمر _ والدرهمين في عهد عثمان ) كانت قد فاقمت الحالة الإقتصادية في دولة المسلمين , وقسمت المجتمع الى طبقتين لا ثالث لهما : طبقة من الأغنياء الأثرياء , وطبقة من الفقراء المعدمين .
الطبقة المتوسطة في أي مجتمع هي ضابط ليس للصحة الإقتصادية للمجتمع , وإنما للكثير من أخلاقياته وسلوكياته , وهي الحشوة الرابطة ما بين سقف المجتمع وقاعه , وكلما كانت هذه الحشوة أكثر سمكاً ومتغلغلة في الطبقتين الأعلى والأسفل منها , كلما كان المجتمع أكثر صحة وأكثر تماسكاً , خلاف ذلك ينفصل المجتمع الى طبقتين , فتضيع الكثير من القيم ويتفشى الظلم , ويعم الجشع , فتخرب النفوس , وتسود الفوضى .
حين جاع المسلمون في زمن عثمان أو شحت عليهم مواردهم .. إلتفتوا الى أغنيائهم يرجون تصدقهم كما أمر القرآن , فوجدوا أن آيات الحث على الإنفاق , وآيات تحريم جمع المال .. كانت قد نسخت بآيات الزكاة , ولم يعد هناك جناح على الغني إن تزكى ولم يتصدق , فلم يبق أمام المواطن المحتاج الى المساعدة غير باب الخليفة الذي يملك أن يأمر في بيت المال , ومادام الخليفة لن يزيد العطاء , عندها يصبح الخليفة عرضة للنقد .
قريش نفسها هي التي بدأت تبحث لعثمان عن الزله في أبسط تصرفاته كخليفه , ونتذكر هنا الجدل الطويل العريض الذي كانت قريش قد أثارته لأن عثمان أعاد عمه الحكم بن العاص من الطائف الى المدينة بعد أن كان النبي قد نفى الحكم بن العاص اليها .. وظل منفياً طيلة حياة أبي بكر وعمر . قيل إن عثمان خالف في ذلك سنة النبي وما تعارف عليه الشيخان , لهذا أرجو أن نطلع على الفعل الذي قام به الحكم .. لنحكم بأنفسنا هل يحق لعثمان إرجاع عمه من نفيه أم لا .
روى إبن حجر العسقلاني في كتاب الإصابة عدة حكايات عن سبب نفي الحكم بن العاص أغلبها مضحك وغير مقنع .. ولا يليق بسماحة نبي أن يتصرف به , غير اني أرجح من كل هذه الحكايات , حكاية ظاهرها كما رواها العسقلاني أن الحكم قد دخل على النبي وكان النبي مع إحدى زوجاته فلم يغض بصره ولم يغادر المكان , ولهذا نفاه النبي .
بغية التحقق من هذه الحكاية , علينا أن نتذكر أن الحكم بن العاص عم عثمان كان من أشد خصوم النبي محمد . وهو واحد ممن إجتمعوا لقتل النبي يوم بات علي بن أبي طالب في فراشه . أسلم يوم فتح مكة ثم هاجر الى الحبشة . في الحبشة كانت تعيش بنت صفيه أخته , وهي رملة بنت أبو سفيان وزوجها ويعمل كلاهما في التجاره . تطلقت رمله من زوجها .. يقال لأنه كان سكيراً ولم تكن هي راضية عن ذلك .
في السنة 7 للهجرة تزوج النبي 4 نساء دفعة واحدة كل لسبب خاص . ماريا القبطية , رملة بنت أبو سفيان , صفية بنت حيي , وميمونة بنت الحارث .
ملك الحبشة ولأنه أراد أن تكون العروس رملة بنت أبو سفيان سفيرته عند محمد , لذلك جهز زواجها وحملها بالهدايا والنفائس الى النبي فسار موكبها الى الحجاز , يرافقه خال العروس الحكم بن العاص . وفي الوقت الذي كان النبي لايرتاح الى الحكم بسبب تلك الحكاية القديمة , كان الحكم يتصرف بأريحية وكأنه متفضل على النبي بهذه الزيجة الموسرة التي لم يتحقق للنبي في مثلها ثراءاً سوى مع زوجته الأولى خديجة .
ذات يوم دخل الخال على إبنة أخته وكان زوجها عندها .. فطرده الزوج شر طرده , ونفاه من المدينة الى الطائف وكثرت الأقاويل في تأويل ذلك . ثم مات النبي ... ولحقه خليفته الأول أبو بكر , ثم لحقهما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .. ألا يحق لعثمان بن عفان وهو الخليفة اليوم أن يعيد عمه الى المدينة ؟ أليست هذه حجة تحججت بها قريش لتنتقد الخليفة وتؤلب عليه ؟ ولو كان المسلمون في سعة من الأمر .. فهل كان سيعير أحد هذا الموضوع أية أهمية ؟؟
ثم أثيرت حول عثمان قضية أنه عزل الولاة الذين عينهم عمر , وعين بدلهم ولاة من أقربائه وخاصته , ولا ندري ومن هو الذي لا يفعل ذلك !!؟ ليس مودة في ذوي قرباه .. ولكن لأنهم أدعى للثقة عنده , هل ثقة الحاكم بأخيه أو إبن عمه تعدلها ثقة وهو يبتغي حكم ديار تعج بالمشاكل ؟ ونعود مرة أخرى لنتساءل .. لو كان المسلم الذي يعيش في أمصار المسلمين مرتاحاً فهل كان سيهمه من هو الوالي ؟ أو ما هي درجة قرابته الى الخليفة الساكن في العاصمة ؟
عثمان من جانبه , كان يعتقد أن مضاعفته درهم العطاء لعامة المسلمين الى درهمين يمنحه الحق في منح عشرات أو مئات آلالف الدراهم والدنانير الى عماله وولاته لأغراض بناء مرافق الدولة التي توسعت وصار لزاماً أن تبنى فيها مقرات للولاة والقضاة , وأن يبنى أسطولها الحربي أو التجاري , ومقرات الجيش والشرطة .. لكنه حين كان يمنح العطاء .. وهو على الأعم والأغلب لواحد من أقربائه الذين أستعملهم ولاة وعمال على أصقاع المسلمين ... كان عامة المسلمين يتصورون ذلك عطاءاً شخصياً لهم .. لذلك ثارت ثائرة الكل بسبب هذا الموضوع .
الشرارة الأولى للفتنة إشتعلت في الكوفة .. كان الوالي سعيد بن العاص الذي عينه عثمان ينادم الناس ذات مساء فقل لهم (( إن العراق بستان لقريش )) فعمت الفوضى في مجلسه , بدأت بالإعتراض ثم الصياح .. وانتهت بضرب الوالي ومدير شرطته من قبل مجموعة يقف على رأسها مالك الأشتر الذي كان يعد واحدا من زعماء الفقراء , وكان مالك الأشتر ناقماً على الوضع بسبب الحالة الإقتصادية السيئة وبسبب تفضيله لعلي بن أبي طالب خليفة للمسلمين بدلاً عن عثمان .
حين كتب الوالي الى الخليفة يخبره بالواقعة , كان عثمان بمنتهى القسوة , فقد أمر بنفي هؤلاء الناس من الكوفة الى الشام ليؤدبهم معاوية بنفسه , تم أخذهم الى الشام سيراً على الأقدام لذلك كانت رحلتهم عسيرة جداً , إستقبلهم معاوية بشيء من اليسر في البداية , لكنه حين تكلم معهم بعد ذلك وعرف منهم سبب ثورتهم على سعيد بن العاص , عنفهم أشد التعنيف وذكرهم بأن العرب ولا شيء من دون قريش وأن قريش ما دامت قد أختصت بالنبوة والزعامة , فهي تملك أن تأمر او تنهى في كل شيء .
حين عم التذمر بين هؤلاء كتب معاويه الى عثمان , فما كان من عثمان إلا أن يأمر بنفي الجماعة الى فلسطين .. وأن يرسل له كبيرهم مالك الأشتر الى المدينة , والخليفة لم يكن إلا رجلاً تاجراً يعتقد أن أعقد المشاكل يمكن أن تحل بالمال , وعلى قدر ما بذل لإرضاء مالك الأشتر عندما إلتقى به على قدر ما أسكته .. لكنه لم يرضه , ثم أعاده الى الكوفة .
أبو ذر الغفاري واحد آخر من الذين يمكن أن نطلق عليهم تسمية ( زعيم الفقراء ) وكان يعيش في المدينة وواحد من أصدقاء علي بن أبي طالب المقربين . حين بدأ عثمان يمنح المال للولاة والعمال .. ثار أبو ذر الغفاري على ذلك وبدأ يتكلم في العلن ضد عثمان , فما كان من الخليفة إلا أن نفاه الى الشام عند معاوية , وفي الشام جادله معاويه وحاول إسكاته بأية وسيلة .
هرباً من وجه معاويه إلتحق إبو ذر الغفاري بالحملة الذاهبة لفتح جزيرة قبرص , وفي قبرص شاهد بأم عينه ما يفعله الجنود المسلمون من حرق وقتل وسرقة وإغتصاب بحق الديار الأمنة المفتوحة وتحت راية نشر الإسلام , حين عاد الى الشام صار يصرخ بأعلى صوته ضد الفتوحات أنها رحلات للتسليب وليس لنشر كلمة الله .. وينتقد الخليفة عثمان وواليه على الشام معاويه .. وخلال هذه الفترة كان عبد الله بن سبأ يعيش في الشام ويزيد من تحريض إبي ذر ضد الأوضاع .
كتب معاويه الى الخليفة بكل ذلك فجاءه الأمر بنفي أبي ذر الغفاري الى الربذة في فلسطين فقام معاوية بإرساله الى هناك وطرد عبد الله بن سبأ من الشام .
أتفق تماماً مع رأي الدكتور سيار الجميل في أهمية أن لا يكتب في التاريخ من غير المتخصصين فيه لأن للكتابة في التاريخ آلياتها التي لا يتقنها غير المتخصصين , فصحيح أن الحلاق يستطيع أن يقلع لك ضرساً لكن طبيب الأسنان المتخصص قد يكتفي بحشوه لك لتخليصك من الألم , وأضيف على ذلك بأن علم التاريخ لوحده لم يعد كافياً للمؤرخ للكتابه بل عليه أن يشرك علوماً اخرى مع علم التاريخ للبحث والكتابة حول واقعة ما . مع هذا نجد في العراق الكثيرين ممن إنبروا للكتابة التاريخية وهم من غير المتخصصين فيها , هادي العلوي مثلاً لا يمكن بحال أن يتجاوز تعليمه مرحلة الدراسة المتوسطة أو الثانويه على أكثر تقدير , وقضى سنوات طويلة من حياته يعمل منضد حروف في إحدى المطابع وفجأة أصبح يكتب في التاريخ . عزيز سيد جاسم كان معلماً ماركسياُ وفي غفلة من الزمان أصبح منظراً للبعثيين وعلا نجمه منذ أيام التأميم الى أن نشر من بيروت كتاب ( علي سيف الحق ) الذي تبناه حزب الله اللبناني وحركة أمل اللبنانية الشيعية اللذان يعاديهما بعث العراق بكل ما أوتي من قوة , فكان الكتاب فاتحة شؤم على عزيز السيد جاسم وشقيقه الدكتور محسن الموسوي , مع أن الكتاب لايحوي شيئاً ولم يأت بجديد .
هذا الحال في العراق لم يكن نسيج وحده , فقد سبقنا المصريون الى ذلك بزمن طويل , فعباس محمود العقاد لم يكن إلا خريج مدرسة إبتدائية .. لكنه مارس الكتابة في التاريخ , المازني لم يكن أكثر من معلم , لكنه كتب في التاريخ أيضاً . على أن أسوأ من كتب في التاريخ .. كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ... فهو في كتابه ( الفتنة الكبرى ) بجزأيه : ( عثمان بن عفان ) و ( علي وبنوه ) كان قد إرتكب حماقات شتى تراوحت بين : تأويل ساذج , وتجزئة للحقيقة لطمس وقعها , وإخفاء بعض التفاصيل عن عمد , وطه حسين لم يفعل كل ذلك إلا لسببين : الأول : كتابة تاريخ يرضي الجميع . والثاني : لأن طه حسين لم يكن باحثا تاريخياً ولا يملك الوسيلة التي يبرر بها بعض ما يقع , خصوصاً وهو يحاول أن يكتب عن تاريخ الإسلام صورة مشرقة وردية قل نظيرها .
اذا عدنا الى كتاب ( الأديان والمذاهب بالعراق ) للدكتور رشيد الخيون فسنجد أن الدكتور المؤلف ينفي حقيقة وجود شخصية عبد الله بن سبأ رغم ورود الحديث عنها في العديد من كتب التاريخ والتراث , وأنا حقيقة لا أعتد بهذا الكتاب كثيراً ولا أقيمه بأكثر من أنه حشد من المعلومات كتبت على عجالة ويفتقر الى الحياد في أكثر من موضع مع أن حياد المؤرخ وذكره للحقائق كما هي واحد من أهم شروط الكتابة التاريخية الرصينة , وفي مقابل ذلك اذا ذهبنا الى طه حسين في ( الفتنة الكبرى _ علي وبنوه ) سنجده يعترف بوجود عبد الله بن سبأ لكنه يقلل من شأنه ويسميه في أكثر من موضع باليهودي وإبن السوداء , ولست أدري ما يضير بن سبأ من يهوديته بعد أن أعلن إسلامه في مجتمع كان ناسه الى ما قبل سنوات من عبدة الأوثان !!؟؟ ولست أدري كيف أجاز طه حسين لنفسه وهو يكتب في التاريخ أن يعير رجلاً بتسميته بأبن السوداء ؟ أفلو كانت أمه عمياء .. فهل كان طه حسين سيسميه بإبن العمياء ؟ على أن أخطر ما قام به طه حسين فهو إنكار وجود أتباع لبن سبأ الذين تحدثت عنهم كتب التاريخ وأطلقت عليهم تسمية السبأية , فصحيح أن الطبري كتب عن تاريخ دولة الإسلام بعد حوالي قرنين من سقوطها .. لكن الطبري كان رجلاً حصيفاً لأنه ميز بين عامة شيعة علي .. وبين المندسين بينهم من السبأية الذين سيكونون مصدر الفتنة ورأس الخراب .
من هو عبد الله بن سبأ ؟ هو رجل يهودي من اليمن ورغم أنه كان يعاني من تردي أوضاع هذه الدولة فقد كان فيها مواطناً من أهل الذمة , بمعنى مواطن من الدرجة الثانية , لذلك أخذ على عاتقه مهمة ضرب رجال هذه الدولة واحدهم بالآخر حتى يأذن الله امراً كان مفعولاً , لذلك إعتنق الإسلام في زمن عثمان وتشيع لعلي بن أبي طالب تشيعاً أعمى وإرتحل الى البصرة يبغي أن يندس بين أنصار علي فيها ليشكل منهم نعرة تقوم بوجه عثمان بن عفان , لكنه ما أن وصل البصرة وبدأ يتحدث للناس حتى شعر به والي البصرة فطرده منها .
حين وصل الكوفة سرعان ما تم طرده منها أيضا فلم يتمكن من التعرف على مالك الأشتر لأن الأشتر كان منفياً الى الشام أيامها . عند طرد إبن سبأ من الكوفة توجه الى الشام وتعرف على أبي ذر الغفاري حتى قيل أنه كان يلقن أبا ذر الكثير من العبارات التي يعترض بها على عثمان ومعاوية . شعر به معاوية فطرده من الشام , فغادرها ذاهبا ً الى مصر .
منذ خروج عبد الله بن سبأ من اليمن , كان قد ربط نفسه بشبكة من المراسلين وكذلك فعل في البصرة والكوفة والشام , وحين وصل الى مصر كانت رسائله تصل الى كل تلك الأصقاع لتعلم أتباعه كيف عليهم أن يتحركون . ومنذ عهد عثمان أصبح عبد الله بن سبأ يحدث المصريين _ مسلمين وأقباط عن ألوهية علي بن أبي طالب , وأنه هو الله الذي نزل الى الأرض بصورة بشر وأنه هو الله الذي إذا أراد أن يغير أوضاعهم السيئة فما عليه غير أن يقول للشيء كن فيكون .
معاوية بن ابي سفيان كان قد زرع ابن خاله محمد بن حذيفة في مصر لإشاعة القلاقل لعل الخليفة عثمان يأمر بأن تدخل مصر تحت حكم معاوية كما حصل في مرات سابقة حين تثور القلاقل في مدن الشام التي ضمت جميعا الى حكم معاوية , وهكذا به عبد الله بن سبأ .
والتقى بن سبأ في مصر بمحمد ابن أبو بكر الذي سيكون أول شخص يطعن عثمان بن عفان عند قتله . كذب طه حسين بأمر محمد بن أبي بكر فقال بأن سبب خلافه مع عثمان بن عفان كان رغبته في أن يصبح والياً وهذا كل ما عرفناه عن محمد بن أبي بكر في ( الفتنة الكبرى _ عثمان بن عفان ) أما في الجزء الثاني ( الفتنة الكبرى _ علي وبنوه ) فقد أوجز طه حسين الحقيقة متعمداً ليخفف من وقعها حين ذكر بأن علي بن أبي طالب كان ربيباً لمحمد بن أبي بكر (( لأن أسماء بنت عميس أم محمد كانت عند علي فقد تزوجها بعد وفاة أبي بكر )) . يتعمد طه حسين الكلام بهذه الطريقة لأنه يريد التقليل من شأن العلاقة بين محمد بن أبي بكر وعمه علي بن أبي طالب لأنه لا يعرف كيف يعلل الحدث أما الحقيقة فقد كانت شيئاً آخر .
أسماء بنت عميس كانت متزوجة من جعفر بن أبي طالب ( الطيار ) وأنجبت منه أولادها ( عبد الله ومحمد وعون ) حين إستشهد جعفر الطيار تزوجت من ابي بكر الصديق وأنجبت منه إبنها ( محمد ) وحين توفي أبو بكر الصديق أراد حموها علي أن يضمها واولادها تحت رعايته فتزوجها وأنجب منها أولاده ( عون ويحيى ) وتربى جميع هؤلاء الأطفال بين أسماء وعلي .. لا ينظرون جميعاً الى علي إلا على أنه والد لهم جميعاً .. لهذا سنرى حتى عائشة بنت أبي بكر ستصرخ بوجه أخيها محمد في يوم موقعة الجمل قائلة له : أنت ابن علي بن ابي طالب .
حين كثرت لقاءات عبد الله بن سبأ بمحمد إبن حذيفة , ومحمد بن أبي بكر , وزيادة تحريضهم للناس وصلت أخبارهم الى عثمان بن عفان , فأرسل عمار بن ياسر ( زعيم ثالث من زعماء الفقراء ) الى مصر لتقصي الحقائق , وكان عمار بن ياسر واحداً من أنصار علي ومن أشد المعترضين على سياسة عثمان , ما أن وصل الى مصر حتى إنضم الى الجماعة وأصبح واحداً منهم .
كنا قد تركنا مالك الأشتر في الكوفة بعد أن أعاده عثمان إليها , لكن الكوفة ثارت على الوالي الذي عينه عثمان وطالبت بتغييره , فخاف مالك الأشتر أن يتهم بأنه هو من نظم هذا العصيان فهرب الى مصر , وصار واحداً من جماعة عبد الله بن سبأ .
ذات إجتماع في أحد الدور حاصرت الشرطة الجماعة وألقت القبض عليهم , لكن أنصارهم هاجموا الشرطة وفكوا وثاق قادتهم ثم إنطلقوا الى دار الوالي , خلعوه عن الحكم وأجلسوا مكانه محمد إبن حذيفة , ثم توجهوا بأجمعهم الى المدينة قاصدين الخليفة شخصياً تسبقهم الرسائل والرسل الى الكوفة والبصرة لدعوة أهلها للثورة على الخليفة .
بقي دار الخليفة محاصراً الى أن وصلنا الى يوم أن تسلقت الجماعة على شجرة خوخ ملاصقة لدار عثمان ونطّت من فوق السور الى داخل البيت ويروي الطبري في الجزء الثاني من كتاب ( تاريخ الأمم والملوك ) أن محمد بن أبي بكر كان أول من طعن عثمان في جبهته بواسطة ( مِشْقَص ) فسال الدم غزيرا على لحيته , وهبّت عليه الجماعة طعناً حتى لم يبق في قميصه مكان لمطعن .
ما هو ( المِشْقَص ) ؟ المشقص نصل عريض طويل له إستعمالات شتى , يستعمل في القتال كأداة للطعن ويستعمل في سائر الوقت كسيخ للشوي , ولهذا فواحدة من تسميات الجزار أو القصاب هي : المُشَقِص لأنه بعد أن يذبح الشاة ويسلخها ويفرغ بطنها من الأحشاء يقوم بتشقيصها إي ربطها بالمشقص إستعداداً لتعليقها على مسندين لشويها .. ولهذا السبب فحين ظفر بنو امية بمحمد إبن أبي بكر بعد سنوات .. قاموا بتوثيقه على مشقص بواسطة جلد حمار .. ثم شووه .
بقي المسلمون بعد مقتل عثمان حوالي أسبوع دون خليفة يسير أمورهم , فيما قام الثائرون بإعطاء بيعتهم الى علي بن أبي طالب . الحسن بن علي كان رجلاً حكيماً فقد نصح والده أن يعتزل الأمر حتى يتبين الناس حقيقة هؤلاء الثائرين , عندها قال علي للثائرين أنه لا يقبل بيعتهم إلا أذا قبلها الناس .. فبايعت الناس علياً خوفاً من الثائرين . وهكذا تسلم علي بن أبي طالب حكم دولة ساقطة أصلاً يتجلى سقوطها في عدم الطاعة والفوضى التي يسببها المحسوبون عليه قبل أعدائه , فهاهم المحسوبون عليه ينجحون في إشعال حرب الجمل بعد أن تمكن الخليفة بحكمته من التفاهم مع طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام على حل خلافهم ودياً .
وبعد معركة الجمل أفسد عليه أصحابه رأيه فلا يدري ما يفعل , كان واحداً من الأسباب التي أخذت على عثمان بن عفان سبباً لقتله أنه عين الولاة من أقاربه وأسرته , حين عين الخليفة علي أولاد عمه العباس ولاة جدد .. ثار عليه قائده مالك الأشتر قائلاً له (( فيم قتلنا الشيخ إذن ؟ عبد الله على البصرة وعبيد الله على اليمن وقثم على مكة وكلهم من بني العباس )) ثم غضب ورحل عن البصرة فأمر علي بالرحيل وراءه مخافة أن يحدث إنشقاقاً أو عصياناً في الكوفة .
الإنشقاق الخطير الآخر الذي قام به أتباعه كان عند مسألة التحكيم التي تمت فبركتها من قبل معاوية وجماعته قبيل نهاية معركة صفين مما دفع عدداً كبيراً من مقاتليه الى التوقف عن القتال ثم الإنشقاق عليه وتمت تسميتهم بالخوارج حيث أضطر الخليفة الى قتالهم في معركة النهروان سنة 39 هجرية .
في شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة يندفع الخارجي عبد الرحمن بن ملجم فيضرب بسيفه خليفة المسلمين علي بن أبي طالب في رأسه , إنتقاماً لقتلاه في النهروان , وهكذا يستشهد خليفة المسلمين علي , كما إستشهد قبله خليفة المسلمين عثمان , مطعوناً في رأسه , وربما في نفس النقطة على الجبهة .. فإذا كانت الأيام دول بين الناس ... فعلام يقاتل المسلمون بعضهم البعض اليوم .. بسبب خطى كتبت على سلفهم الصالح ... ومن كتبت عليهم خطى ... مَشَوْها !!!!!؟؟؟
#ميسون_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟