|
القارئ مترجماً
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 2642 - 2009 / 5 / 10 - 09:02
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أظن أن كل قارئ هو، بطريقة ما، مترجم للنص الذي يقرأه حتى وإن كان لا يتقن إلاّ اللغة التي يقرأ بها.. القراءة هي ترجمة للذات، ومن أجل الذات القارئة.. مع هذا التحوّل، في زاوية النظر، إلى فعل القراءة، تتعدد الترجمات ، تكون لا نهائية كلانهائية القرّاء الحقيقيين والافتراضيين. ذلك أن ذهن القارئ ليس صفحة بيضاء ناصعة ينطبع عليها المقروء، ليس مرآة مصقولة ينعكس عليها. فثمة استجابات وردود فعل وجيشانات واستدراكات وتوقفات واستئنافات واستذكارات وتفاعلات غاية في التعقيد تحدث في أثناء القراءة، بين ذهن القارئ والنص المقروء. والآن ماذا لو قلنا لعدد من القرّاء الممتازين الذين يتقنون فن الكتابة؛ أعيدوا صياغة النص الذي تقرأونه؟ سنقع، لا شك، على نصوص ( ترجمات ) بعدد أولئك القرّاء/ الكتّاب. إن القراءة ( قراءة الفرد ) لن تصل إلى شفرات النص المقروء كلها ابداً، لن تحلها كلها. وما ستحلها منها ستكون مختلفة عن حلول القرّاء الآخرين. غير أننا، عند هذا الحد، علينا أن نكون حذرين، وان نتجنب، قدر المستطاع، التقويم الذي يوهم بأن قراءتنا وحدها هي الصحيحة، فيما قراءة الآخرين هي القاصرة والخاطئة. وأول خطأ يمكن اقترافه بهذا الصدد هو الركون، بقناعة عمياء، إلى أفعال التفضيل وأحكام القيمة ( أنا اقرأ أفضل.. أنا أفضل )، وأحسب أن جذر الغلو والتعصب والإرهاب يكمن ها هنا. أفضل الكتب ( النصوص ) هي تلك التي تكون حمّالة أوجه. وكل قارئ يقع على شفرات بعينها، وتكون له عدّته الخاصة في عملية فكها. وبذا يقترح، حلولاً لا تشبه حلول الآخرين، بهذه الدرجة أو تلك، أو على الأقل لا تتطابق معها. وفي النهاية سيضيف شيئاً من ذاته ( التي هي عقل ومشاعر وحرية وتاريخ ) على ما قرأ.. هذا ما يجعلنا مختلفين.. هذا هو أس كوننا غير منتمين جميعاً إلى عقيدة واحدة أو حزب واحد ( في هذه النقطة يتجلى غباء معتنقي الإيديولوجيات الدوغمائية والسلطات الشمولية ). ووعينا بهذه الحقيقة هو الذي يبعدنا عن الكراهية والحقد ( كراهية الآخر والحقد عليه ). هو ما يضمن لنا أن نكون متفهمين ومن ثم متسامحين.. التسامح هو أن تدرك بيقين لماذا الآخر مختلف، وكيف أن هذا حريته وأن هذا حقه، حيث الاختلاف من طبائع الأشياء، ومن صفات الخلق والوجود.. جاء في القرآن الكريم "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". إذا كان هذا هو الأمر مع الترجمة ( روح الترجمة ) في فضاء اللغة والثقافة نفسها فكيف يكون عند الترجمة من لغة إلى أخرى ( معنى ودلالة الترجمة كما هو شائع )؟. لكل كلمة مترادفات تصل أحياناً إلى العشرات. هذا ما نجده في اللغة العربية وعلى نطاق واسع، وبوضوح. غير أن كل كلمة من هذه المترادفات لا تتطابق مع أخواتها.. إن اختلافاتها تكون في الدرجة والكيفية، فحدّق غير نظر، وهذه غير رأى، وهذه غير لمح، وهذه غير شاهد، وهذه غير عاين أو أبصر، الخ.. فيما الكلمة الواحدة منها قد تعكس ظلال معان متباينة عند معشر القرّاء حين تأتي في سياق جملة ما، أو مقطع ما، أو نص ما بكليته. أما إذا انتقلنا إلى تقابل الكلمات عند الترجمة من لغة إلى أخرى فسنواجه إشكالاً آخر.. يستشهد آلبرتو مانغويل في كتابه ( تاريخ القراءة ) بفكرة فيلهلم فون هومبولت الذي عبّر في عام 1836 "عن رأي مفاده أن كل لغة من اللغات تملك ( شكلاً لغوياً داخلياً ) تعبّر عن الكون الخاص للناطقين بها. يعني هذا عدم وجود أية كلمة في لغة ما مشابهة تماماً لكلمة أخرى في لغة أخرى، مما يجعل الترجمة مستحيلة مثل صب الريح في قوالب أو جدل خيط من حبات الرمل. هكذا لا يمكن للترجمة إن تقوم إلاّ كنشاط غير قابل للتحكم وكمجهود من أجل التوصل عبر لغة المترجم إلى فهم ذلك الشيء غير القابل للحل والمتخفي داخل اللغة الأصلية". إن النص الواحد يُعاد إنتاجه في كل مرة يُقرأ فيه من قبل القارئ نفسه، أو من قبل جمهور القراء. إنه يتناسل إلى ما لا نهاية، وهذا ما يفسِّر تباين آراء المفسّرين حتى المنتمين منهم لعقيدة واحدة، أو المشتغلين بالمنهج الواحد. ويفسِّر أيضاً اختلاف الترجمات للنص الواحد حتى من قبل مترجمين كبار حاذقين. المترجم الجيد هو قارئ جيد، والقارئ الجيد بحسب رالف إمرسون ينبغي أن يكون مخترعاً.. في الترجمة، إذن، اختراع في أثناء القراءة، واختراع في أثناء الترجمة؛ ما يضيفه المترجم على النص الأصلي عاكساً ثقافته، ومانحاً إياه شيئاً من روحه. وإذا كانت الترجمة خيانة كما يُقال فإنها خيانة ضرورية، ولاسيما إذا ما تمت بالشكل الذي يفاجئنا ويُدهشنا. هذا ما فعله جبرا إبراهيم جبرا مع رواية ( الصخب والعنف ) لوليم فوكنر. ففي ترجمته لها قدر كبير من الابتكار والتصرف الخلاّق؛ من الاختراع. وإلاّ لما كنا سنقع على هذا السحر، وهذا الجمال الأخاذ كله. في الوقت نفسه يكشف النص عن قوة حمولته الشعرية ومتانته عبر الترجمة.. الترجمة، يقول ريلكة؛ "أصفى عملية يمكن التعرف من خلالها على العبقرية الشعرية". وإذا قلنا أن في كل قارئ جيد مترجم جيد، فإن فيه أيضاً ناقداً جيداً، هو الذي يعيد إنتاج النص مع فعل القراءة.. يخبرنا مانغويل "عندما نقرأ نصاً في لغتنا الأم يتحول نفسه إلى عقبة. إننا لا نستطيع إدراكه إلاّ بالقدر الذي تتيحه الأحرف، وعندما نضمِّن جميع معانيه الممكنة؛ ونستطيع مقارنته مع نصوص أخرى ومراقبة انعكاسه فيها كما يحدث في صالة للمرايا؛ نستطيع إنشاء نص نقدي آخر بمقدوره توسيع وإنارة النص الذي نقرأه". بقراءتنا لنص معين لا يكون مقصدنا هو الوقوع على المعنى وحسب. إن توترات النص وارتعاشاته الداخلية وإيقاعاته واصداءه وألوانه التي لا تلبث على حال واحدة تنتقل إلينا، أو ينتقل إلينا بعضها.. إن النص الجيد يكون عصيّاً على الاحتواء والامتلاك مثل المرأة الذكية، والجميلة اللعوب، التي تمارس سلطتها على الرجل حتى في ذروة اعتقاده بممارسة سلطته عليها، حيث تظل منها مساحات ملغزة عصيّة على الاقتحام.. إن القراءة أشبه ما تكون بالمعاشرة الجنسية. أما الترجمة فهي ولادة كائن آخر ( نص آخر ) جميل يحمل من جينات الأب والأم ( القارئ والنص المقروء والمترجم ) لكنه يستقل عنهما معاً، ويتجاوزهما معاً. إن المولود ( المترجم ) هو طفل السعادة، حتى وإن كان غير شرعي بالمعايير التقليدية، حتى وإن ولد سفاحاً ونتيجة خيانة مفضوحة.. يقول مانغويل؛ "قد تكون الترجمة من الأمور المستحيلة: قد تكون تضليلاً وخداعاً، تزويراً واختراعاً، أكذوبة بيضاء. إلاّ أن من يشارك في عملية الأسلوب وينقلها من لغة إلى لغة أخرى يصبح أذكى، يتحول إلى قارئ أفضل: أقل اعتداداً بنفسه، لكن أكثر رهافة في أحاسيسه، وأكثر سعادة..". نحن نقرأ إذن نحن نترجم.. نحن نترجم إذن نحن نعيد صياغة أنفسنا والعالم قبل أي شيء آخر.. وكل قراءة في وجه من أوجهها العديدة هي ترجمة مركّبة، وعملية توليد جديدة.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شذرتا الحداثة ومأزق تحديث الدولة العربية
-
حداثة المثقف.. تحديث الدولة
-
سيرك الإعلام ومهرِّجوه
-
ذلك الانهيار في عالم الأمس لستيفان تسفايج
-
المثقف وشبكة علاقات السلطة؛ 3 موقع المثقف ووظيفته
-
المثقف وشبكة علاقات السلطة:2 آليات الإقصاء والإدماج
-
المثقف وشبكة علاقات السلطة: 1 آليات صناعة الممنوع
-
الدولة والإنتاج الثقافي
-
تلك الأسطورة المتجددة: قراءة في كتاب -أسرار أسمهان؛ المرأة،
...
-
-متشرداً بين باريس ولندن-: هوامش المدن المتروبولية في أوروبا
...
-
إيزابيل الليندي تكشف أسرار أسرتها في -حصيلة الأيام-
-
قراءة في كتاب: ( لعنة النفط.. الاقتصاد السياسي للاستبداد )
-
النخب؛ البيئة الثقافية، والمشروع السياسي
-
في وداع عام آخر
-
تواصل النخب والشباب
-
سؤال الثقافة.. سؤال السياسة
-
لمّا سقط المطر
-
عالم يتغير
-
-ليلة الملاك- ملعبة خيال طفل
-
الحكم الصالح
المزيد.....
-
الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
-
بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند
...
-
لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
-
قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب
...
-
3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
-
إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب
...
-
مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
-
كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل
...
-
تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
-
السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|