الحجاب ليس قطعة قماش
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن
-
العدد: 1883 - 2007 / 4 / 12 - 12:13
المحور:
ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي2007 -حجاب المرأة بين التقاليد الأجتماعية والبيئية والموروث الديني
ولا "قل للمليحة في الخمار الأسود"
لم أكن أريد العودة إلى موضوع كتبت فيه مرارا وتكرارا، لولا ما لاحظته من تنسيب لقضيّة الحجاب يغيب فيه البعد الحقوقيّ والإيطيقيّ، وتغيب فيه بعض الأبعاد المتعلّقة بكيان الشّخص وفردانيّته وكرامته. هذا التّنسيب يقوم به بعض المثقّفين بدافع السّآمة من طرح الموضوع والحجم الذي أخذته هذه القضيّة من المنابر، أو بدافع الحياد واحترام الحرّيّة الشّخصيّة، أو بدافع آخر هو ما نلاحظه من أنّ الحجاب لا يمنع المرأة من العمل والمشاركة السّياسيّة والتّرشّح إلى الانتخابات إن لزم الأمر، أو بدافع آخر يبقى مجال تقدير شخصيّ انطباعيّ هو أنّ الحجاب يمكن أن يكون شيئا جميلا، كالخمار الأسود الذي تغزّل به الشّعراء في غابر الزّمان. لسان حال هؤلاء المنسّبين للقضايا : ليس الحجاب قضيّة، فلنتركه وشأنه ولندع الحديث عن قطعة القماش هذه إلى ما هو أهمّ.
قضيّة الحجاب يمكن أن نطرحها أوّلا بقطع النّظر عن موقفنا من الحجاب وعلاقتنا به، وبقطع النّظر عن اعتباره فريضة أو عدم اعتباره فريضة. فالطّرح الدّينيّ لمسألة الحجاب يختلف فيه المجتهدون والمؤوّلون، رغم أنّ الذين يعتبرون الحجاب فريضة أكثر بروزا وأشدّ نفوذا من الذين ينطلقون من النّصوص الدّينيّة نفسها ليبيّنوا أنّه ليس فريضة.
وما نذهب إليه هو أنّ الحجاب من الأمور التي يجب أن تبقى موكولة إلى معتقدات النّاس واختياراتهم الشّخصيّة، كالإيمان نفسه. فالتّكفير والاتّهام بالرّدّة يعودان إلى جرّ أحكام الآخرة إلى أحكام الدّنيا، ورغبة البشر في أن ينصّبوا أنفسهم آلهة تحاسب وتعاقب في الدّنيا قبل الآخرة. إنّ ما نطالب به من فصل الدّين عن السّياسة والقانون لا يقتضي المطالبة بالقضاء على الحجاب، بل يقتضي جعل الدّين مسألة شخصيّة، وجعل الأحكام الدّينيّة من أحكام الآخرة لا الدّنيا، وتعويض التّشريعات الدّينيّة بالقوانين الوضعيّة التي توحّد بين النّاس بقطع النّظر عن معتقداتهم، وتنظّم الحياة الاجتماعيّة حسب مبادئ المساواة والحرّيّة، وتكفل للجميع ممارسة عقائدهم وشعائرهم، كما تكفل لغير المؤمنين بأيّ دين من الأديان أن لا يلتزموا بفرائض المؤمنين وأن يعيشوا مع ذلك في أمان، ويعبّروا عن آرائهم بحرّيّة.
وهذا لا يعني أنّ الحجاب مشكل زائف، لأنّ بعض الصّيغ التي يتمّ بها الالتزام بالحجاب، وبعض أساليب فرضه والمطالبة به تطرح مشاكل حقوقيّة ومدنيّة لا بدّ من تناولها خارج الإشكال التّأويليّ والاجتهاديّ. هناك مسائل مبدئيّة يجب أن نذكّر بها وأن نطرحها بجدّ، سعيا إلى إيجاد أرضيّة للتّعايش المدنيّ بين الذين يريدون الحجاب والذين يرفضونه، وإيجاد حدّ أدنى للإنسانيّ المشترك الذي يجب مراعاته.
نقول هذا ونحن نقدّر المسافة التي تفصلنا عن تحقيق هذا الحدّ الإنسانيّ المشترك، ولكنّنا نقدّر أهمّيّة المطالبة، وأهمّيّة النّظر إلى الأفق، بدل البقاء في أسر الواقع.
المشكل الأوّل يطرح بالنّسبة إلى الأطفال من الإناث، أي البنات اللاّتي يفرض عليهم أهلهم الحجاب بدبابيسه وطيّاته، وهنّ في حاجة إلى اللّعب والحركة التّلقائيّة كغيرهنّ من الأطفال. فحجاب الأطفال نوع من المعاملة اللاّإنسانيّة التي يخضع إليها الأطفال في الكثير من بلداننا. إنّه كعمل الأطفال من باب تحميل الطّفل ما لا طاقة به، ومن باب إخضاعه إلى تكليفات الرّشّد، ولذلك لا بدّ أن في رأيي من نشر الوعي بحقّ الأطفال من الإناث في أن يعشن طفولتهنّ، ولا بدّ أن يطالب النّاشطون في مجال حقوق الإنسان باستصدار القوانين التي تمنع حجاب الطّفلات في المدارس الابتدائيّة والإعداديّة، من باب الضّمان لنموّهنّ الطّبيعيّ ومن باب مراعاة "المصالح الفضلى" للطّفل. للآباء أن يصنعوا ما يشاؤون بأجسادهم، وأن يعتنقوا ما بدا لهم من الأفكار، أمّا أن يتّخذوا أطفالهم رايات يعلّقون عليها شعاراتهم وما يعتقدون أنّها فرائض، فذلك غير مسموح لهم به. فالأبناء أبناء الحياة، وليسوا متاعا للوالدين.
والمشكل الحقوقيّ الثّاني يتمثّل في أنّ اعتبار الحجاب فريضة لا يلزم إلاّ القائلين به، ولا يستوجب فرضا للحجاب بالقوّة. ومن مفارقات الأمور أنّ بعض الفتاوى الصّادرة عن بعض المفتين الرّسميّين تسير في هذا الاتّجاه. فقد جاء في فتوى أصدرها مفتي إحدى البلدان العربيّة سنة 1994 : "هي (المرأة غير المحجّبة) آثمة وعاصية للّه تعالى، وأمْرها بعد ذلك مفوّض إليه ـ سبحانه ـ وحده..." (العشماويّ، حقيقة الحجاب وحجّيّة الحديث، القاهرة 1995، ص31.) تقديرنا هو أنّ مثل هذه الفتاوى ساعدت على انتشار الحجاب، وعلى بثّ الشّعور بالإثم لدى النّساء، ولكنّها في الوقت نفسه، فتحت الباب أمام الحقّ في عدم ارتداء الحجاب بجعل العقاب عليه من أحكام الآخرة. فلرجال الدّين أن يطلقوا ما شاؤوا من النّعوت على النّساء غير المتحجّبات، المهمّ هو أن تكفل الدّولة الحقّ في عدم ارتدائه، وأن لا تحجم غير المحجّبات عن الدّفاع عن حقّهنّ في عدم التّحجّب.
إلاّ أنّ هذا الحقّ غير مكفول في بعض البلدان العربيّة والإسلاميّة، وهو مهدّد في بعضها الآخر. إنّه غير مكفول في البلدان التي تطبّق الشّريعة وتسمح بوجود بوليس دينيّ يتدخّل في شؤون النّاس ويجلدهم كما كانت تجلد الدّوابّ وعلى نحو مخلّ بأبسط متطلّبات الكرامة الإنسانيّة. وهذا الحقّ مهدّد في الكثير من المدن العربيّة التي اكتسحها الحجاب وأصبح فيها فريضة لا تفرضها الدّولة بل يفرضها النّاس، بحيث تتعرّض غير المحجّبات إلى الملاحقة والشّتيمة والهرسلة، ممّا يدفع النّساء غير المقتنعات بالحجاب، بل وغير المسلمات أحيانا إلى ارتدائه دفعا للأضرار والاعتداءات. ثمّ يجب أن لا ننسى نوعيّة الصّيحة البدائيّة التي أطلقها بعض النّاشطين الإسلاميّين بتونس، إثر الحملة التي شنّها البوليس ضدّ المتحجّبات : "أنقذوا عفيفات تونس"، وكأنّ الحجاب دليل على العفّة، وكأنّ غير المحجّبات غير عفيفات، وكأنّ العفّة أمر عموميّ يجب أن يتدخّل فيه العامّ والخاصّ وليس أمرا موكولا إلى ضمائر النّاس وحياتهم الخاصّة. أن يدافع هؤلاء عن حقّ المرأة في لباس الحجاب خارج أماكن الدّراسة والعمل التي تمنع فيها الدّولة الحجاب أمر نتفهّمه، ونساندهم فيه، ولكنّ دفاعهم عن الحجاب في كلّ مكان، ودفاعهم عنه بهذا الشّكل يدلّنا على طبيعة المشروع المجتمعيّ الذي ينادون به، فهم يعدوننا بمجتمع فرض العفّة بفرض الحجاب، وفرض حراسة العفّة والتّجسّس الاجتماعيّ.
والمشكل الحقوقيّ الثّالث يتمثّل في النّقاب، فهو انتهاك للحدّ الأدنى الذي تكون به المرأة فردا ذا هويّة اجتماعيّة ووجه. المنقّبة لا وجه لها تعرف به في الأماكن العامّة، ولا هويّة. فهي مشطوبة ملغاة من الفضاء العموميّ رغم حضورها وظهورها. ومن عجيب المفارقات أن تكون المرأة منقّبة وأن تترشّح للانتخابات. فكيف تتكلّم من تحت النّقاب، وكيف تخوض حملة انتخابيّة وهي بدون وجه؟ من المترشّح في هذه الحالة، الشّخص الهلاميّ أم القبيلة أم الزّوج صاحب عصمتها أم النّقاب وما يرمز إليه؟ هل يمكن أن يكون غير نقابها شعارا لحملتها الانتخابيّة، أو قائدا لحملتها؟ أم أنّ المترشّح للانتخابات اثنان : المرأة ونقابها؟ ثمّ ما الذي يضمن للمصوّتين أنّها هي وليست شخصا آخر؟ ثمّ كيف يمكن أن نحوّل الوقائع الأليمة الباعثة على الحيرة إلى نموذج قابل للتّعميم، وحجّة على أنّ الحجاب الإسلاميّ بأنواعه مجرّد قطعة قماش لا تحول دون حياة المرأة بصفة طبيعيّة؟
كيف يمكن لنا أن ندافع عن النّقاب بعد حوالي ثمانين عاما من صدور كتاب نظيرة زين الدّين عن "الحجاب والسّفور"؟ هل يمكن أن ننسى ما وصفته في كتابها هذا من الآلام المنجرّة عن تغطية الوجه، لا مجرّد الشّعر؟ هل يمكن أن ننسى صيحتها سنة 1928 : "وهل كتب اللّه لوجه المرأة، وهو مجتمع حواسّها، أن يظلّ مقيّدا؟ وهل يجوز أن يحرم الرّجل المرأة استعمال قواها، أي قوى النّظر والسّمع، والذّوق والشّمّ والتّنفّس؟ أفتجدون ظلما أفظع من هذا الظّلم؟" (السّفور والحجاب، ص 121).
كأنّ ثقافتنا تقوم على النّقض والنّسيان والتّكرار، بدل التّراكم والإبداع، ولذلك تتلو معركة السّفور معركة الحجاب، وتتلو معركة الحجاب معركة النّقاب، ويظهر على الرّكح المدافعون على الحرّيّة المشبوهة، حرّيّة المتعة المازوشيّة بأشدّ القيود، وحرّيّة العبوديّة المختارة. والنّتيجة هي تلعثم المدافعين عن الحرّيّة، واختلاط السّبل أمامهم، ونشدانهم السّلامة قبل كلّ شيء.
حاولت أن أنبّه إلى الحدّ الأدنى الذي نطمح إلى أن يتّفق عليه أنصار الحجاب من النّاشطين في الحركات الإسلاميّة التي تعلن عن رغبتها في تحقيق الدّيمقراطيّة والتّعدّديّة، ومناهضو الحجاب لأسباب دينيّة اجتهاديّة أو لأسباب أخرى.
وبعد ذلك يمكن أن نفتح المجال للشّهادة الذّاتيّة وللآراء والانطباعات. ويمكن أن نقارن بين خمار المليحة الأسود والحجاب الحاليّ الذي يسمّى "إسلاميّا"، ويمكن أن نتحدّث عن حيل النّساء في الالتزام بالحجاب دون الالتزام به، وعن المايوه الإسلاميّ الذي ظهر على شواطئنا في السّنوات الأخيرة، وعن مرواغات الفنّانات المعتزلات للفنّ والعائدات إليه... ولكنّني أفضّل ترك هذا الموضوع إلى مقال آخر، لكي لا أساهم في الخلط الحاليّ بين الجانب الحقوقيّ المدنيّ وجانب التّقديرات الذّاتيّة والانطباعات الجماليّة.