إسماعيل أدهم واختلافه غير المحتمل مثالا عن آليات الحجز الرقابي
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن
-
العدد: 2455 - 2008 / 11 / 4 - 09:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لن أتحدّث عن "الإلحاد" ولا عن حقّ الإنسان المشروع في أن يكون مؤمنا أو غير مؤمن أو موحّدا أو وثنيّا أو لاأدريّا أو غير ذلك، فهذه من أبجديّات الحرّيّات الأساسيّة.
ولن أتحدث عن رسالة إسماعيل أدهم "لماذا أنا ملحد" وقد صدرت سنة 1937. ولن أتحدّث عن أعماله الكاملة، وقد نشرها أحمد الهراوي سنة 1992 في ثلاثة مجلاّت عن الهيئة المصريّة للكاتب. والمطّلع عليها يعجب من أهمّية تجربة الرّجل رغم قصر عمره، ويعجب من عدم التّناسب المهول بين ثراء فكره وطرافة كتاباته ونضج تجربته وتعدّد لغاته ومعارفه وحجم الصّمت الذي أحيط به.
هذا الصّمت المنظّم هو ما سأتحدّث عنه. هو ما يفعله العنكبوت الرّقابيّ عندما يعزل الكائن الصّغير في زاوية، ويراكم عليه لفائف من نسيجه، ويحوّله إلى كومة رماد في أرشيف رهيب.
أقصد بذلك التّعامل الرّقابيّ مع هذه الذّات التي أنتجت الرّسالة ومع صورتها باعتبارها ذاتا تمثّل الاختلاف الأقصى الذي لا يحتمل أو لم يحتمل : لم يُخف إسماعيل أدهم عدم إيمانه بالغيبيّات خلافا للكثير من مثقّفي ومفكّري العالم العربيّ من معاصريه أو معاصرينا. فقد نزع سلاح التّكفير عن المكفّرين لأنّه أعلن كفره على الملأ. ويمكن أن نتساءل تبعا لذلك : ماذا سيبقى لهم من سلاح ومن كشوف وشكوك وأيّ نوع من الصّيحات العموميّة سيطلقون؟
ولم يكتف إسماعيل أدهم بإعلان إلحاده والشّهادة عليه والاستدلال عليه بما اعتبره براهين فلسفيّة وعلميّة، وبأمر آخر ربّما يكون أهمّ، هو الشّهادة الذّاتيّة الصّادقة الملتاعة (عن والده الذي فرض عليه الشّعائر الإسلاميّة فرضا، وحرمه من المطالعة، ولم يحبّه كما هو، بل حاول أن يفرض عليه طريقا غير طريقه). ولم يكتف بإعلان انتمائه إلى جمعيّة تنشر الإلحاد، بل ألقى بجسده في البحر، في يوم من أيّام يوليو 1940 . ثمّ إنّه لم يكتف بالانتحار المحرّم في الدّيانة التي ورثها عن والده، بل أوصى بأن تحرق جثّته ويشرّح رأسه.
ولست أدري ما كان مصيره لو نجا من داء السّلّ وعذابه المهين آنذاك، وطال عمره، هل سيحتمل العزلة التي شكا منها قبل مماته، أم سيهاجر، أم سيغيّر نهجه وفكره كما فعل الكثيرون من معاصريه، أم سيُقتل أو يشرّد بمقتضى حكم الرّدّة أم سيطعن كما طعن نجيب محفوظ، وهو للتّذكير من مواليد سنة 1911، تماما كإسماعيل أدهم؟ هل أسعفه الحظّ لأنّه سبق زمان حملات التّكفير ودعاوى الحسبة أم لم يسعفه الحظّ لأنّه كان سابقا لزمانه أو ولد في غير مكانه؟
كان جسده ومصيره معنيّين بمعتقده، أو لنقل إنّه جسّد مصير "الملحد" المختلف في حياته ومماته. ولهذا السّبب نجد أحد مقالات الإسلاميّين عنه يحمل عنوان "انتحار ملحد" (سليمان الخراشي، موقع إسلام واي).
إنّه الصّورة المضادّة للشّهيد. الشّهيد يعزل بالتّضحية التي تنقله إلى دائرة القداسة، والمنتحر يعزل بتضحية فرديّة تعدّها المجموعة "هدرا" وهباء، أي مدنّسا ضديدا للمقدّس الإضحويّ. أمّا أن يكون المنتحر ملحدا، فتلك مسرحة لأقصى صور الغيريّة المرفوضة. الغيريّة التي تأتي من "الدّاخل" في عالم ما زال فيه الدّم وثاقا يشدّ الدّنيويّ إلى المقدّس لإنتاج العنف العتيق. الدّم بكلّ صوره : دم الشّهيد ودم المرتدّ المهدر، ودم البكارة، ودم جرائم الشّرف، ودم الحيض المانع من المساواة، ودم الختان، ودم القصاص والأيدي المقطوعة..
غيّبته أمواج البحر ثمّ أمواج الرّقابة. ثمّ طفت رسالته على بحر الكلام والفكر، كما طفت جثّته. فهي اليوم، وبفضل الأنترنيت منشورة في مواقع عدّة. كيف غُيّب وكيف عادت كلماته إلى البروز؟ بأيّ المفاهيم وأدوات التّحليل يمكن أن نقارب الرّقابة على الفكر والكلام؟ فالاستعارات والصّور لا تكفي.
لا تكفي استعارة العنكبوت وخيطها. لا تكفي استعارة الماء والغرق والطّفوّ. أو لنقل إنّهما لا تمكّنان من مواصلة التّحليل. فالرّقابة ليست قوّة حيويّة فرديّة كالعنكبوت، وليست أمرا هلاميّا سائلا كالماء، لأنّ الماء يجمع ويوحّد (كماء الرّحم مثلا)، والرّقابة تفصل وتعزل كما سنبيّن.
ربّما يكون مفهوم الجهاز كما عرّفه ميشال فوكو وكما طوّره -وعمّمه- الفيلسوف الإيطاليّ جورجيو أغمبن Giorgio Agamben أداة تحليل ممكن للرّقابة على الفكر وعلى الذّوات التي تحمل الفكر. ولا شكّ أنّ مفهوم الجهاز يضعنا في قلب لعبة السّلطة، وعلاقتها الوطيدة بالمعرفة، وبقولبة الذّوات.
يقول ميشال فوكو في تعريف الجهاز : "ما أحاول رصده من خلال هذا الاسم هو (...) مجموعة مختلطة فعليّا، تتضمّن خطابات ومؤسّسات وتهييئات معماريّة، وقرارات تنظيميّة، وقوانين، وإجراءات إداريّة، ولفيظات علميّة، وفرضيّات فلسفيّة، وباختصار : شيء من القول ومن عدم القول أيضا. والجهاز نفسه هو الشّبكة التي تجمع بين كلّ هذه العناصر." (نقلا عن كتاب أغمبن : ما الجهاز؟ بالفرنسيّة، باريس، 2006)
ولقد توفّرت على مدى عقود طويلة عناصر هذا الخليط في الرّقابة على فكر إسماعيل أدهم وصورته وذكراه كما سنبيّن، دون ادّعاء للاستقصاء، فالوثائق نادرة وغير متاحة، أوغير مباشرة، وإزالة ما علق من غبار رقابيّ قد يتطلّب جهودا طويلة من البحث والتّنقيب والجمع :
1. الخطابات التي تراكمت منذ صدور الرّسالة إلى اليوم. ويمكن أن نصنّف هذه الخطابات إلى أنواع شتّى. فمنها الاستنفاريّة التي نجدها في صيحة الشّيخ الأزهريّ يوسف بن أحمد الدّجويّ (1870-1946)، وقد كان أيضا من مناهضي علي عبد الرزّاق ، فقد "قام... بالرد على رسالة أدهم فكتب عدة مقالات في مجلة الأزهر تحت عنوان "حدث جلل لا يمكن الصبر عليه ǃ" (مقال "معركة الإيمان والإلحاد على شرف إسماعيل ادهم، ياسر حجازي، إسلام أون لاين)
ومن هذه الخطابات ما يصادر على النّوايا فيتّهم الرّجل برغبته في كسب الشّهرة، كما فعل أحمد حسن الزّيّات (1885-1968) في تأبينه له. ومن هذه الخطابات ما يهدف إلى إنتاج "العبرة" كما في مقالات الكثير من الإسلامويّين المعاصرين : "وتدرج في مهاوي الضلال إلى أن وصل إلى آخر دركاته وهي الإلحاد –والعياذ بالله- لتكون خاتمته في تكلم الجثة الطافية على مياه البحر آيةً لمن خلفه من شباب الإسلام النابهين أن لا يفتروا بذكائهم ومواهبهم، فيخوضوا –لأجلها- ذات اليمين وذات الشمال واثقين –زعموا!- من أنفسهم، معرضينها للفتن والانسلاخ من الدين." (سليمان الخراشي).
ومن هذه الخطابات ما يهدف إلى إنتاج "الوصمة"، كأن يوصف إسماعيل أدهم بالجنون والسّخف والحمق. وهذه الآليّة نجدها في مقال حديث، أقلّ ما يقال فيه أنّه بذيء وغير لائق، نشرته الصّحفيّة المصريّة صافيناز كاظم في الشّرق الأوسط السّعوديّة (31 أيّار 2007)، ووصفت فيه إسماعيل أدهم بأنّه "مخبول"، ووصفت رسالته بأنّها أوراق "عبيطة".
2. المؤسّسات، وأهمّ مؤسّسة حاصرت إسماعيل أدهم كما هو متوقّع الأزهر، لاضطلاعه إلى اليوم بدور رقابيّ أساسيّ. يقول إسماعيل أدهم في بعض مقالاته إنّ "شيخ الأزهر قرّر بمرسوم مسجديّ حرماني الجنّة جزاء لكفري..."
وقد عمد الشّيخ يوسف الدّجويّ إلى استعداء السّلطة السّياسيّة بقوله إنّ صاحب الرّسالة "يطعن في دين الدولة ومليكها حامي الدين والعلم، وأن ما جاء فيها يتناقض مع الفطرة الإسلامية التي جبل عليها سائر البشر." وهو ما يدلّ على تعاضد المؤسّستين الدّينيّة والسّياسيّة في محاصرة الفكر، كما سنرى من خلال "الإجراءات الإداريّة".
3. التّهييئات المعماريّة، فقد دفن في إحدى مقابر المسلمين، رغم أنّه أوصى بحرق جثّته، وتشريح دماغه. وإلى اليوم لا تقبل مجتمعاتنا إرادة الأحياء في اختيار موتهم، فتفرض الدّفن مصيرا واحدا لكلّ الموتى.
إنّه مختلف يشار إليه بالبنان على أنّه مختلف غير محتمل، ولكنّه عندما يتحوّل إلى جثّة، تتمّ إعادة إدماجه في المجموعة، وفق الآليّة الخاصّة بطقوس الموت، ويتمّ إخضاعه إلى هندسة المدينة، ويمنع من ترك أثر مغاير فيها.
4. الإجراءات الإداريّة : "وقد لبت وزارة النحاس نداء الشيخ يوسف الدجوي واستجابت للدعوة التي قدمها شيوخ الأزهر ضد إسماعيل أدهم، وقامت النيابة بالتحقيق معه ومصادرة رسالته وتفتيش منزله فوجدت فيه رسالة (لماذا أنا ملحد؟ )، وملفات أخرى تحوي بعض نسخ من بحوث متعددة عن فلسفة النشوء والارتقاء، وكتاب (لماذا أنا ملحد؟) لراسل، ومظروفا يحوي أكثر من ثلاثين صفحة من كتاب بخطه يشرع في تأليفه ينكر فيه وجود الله ويؤكد إلحاده. وقد حالت جنسيته التركية وحالته الصحية بينه وبين السجن واكتفت النيابة بتحذيره وتعطيل مجلة الإمام التي نشرت الرسالة لأول مرة." (مقال حجازي)
ولأنّ الرّقابة تنتقل بالعدوى، وتتّسع دائرتها تلقائيّا، فإنّ العزل الذي تقوم عليه طال محقّق أعماله الكاملة في السّنوات التّسعين من القرن العشرين. فقد ذكر لي أحد المفكّرين المصريّين المطّلعين (لا أذكر اسمه خوفا عليه من العدوى نفسها) أنّ أحمد الهراوي أطرد من جامعة صنعاء لأنّه درّس أحد مؤلّفات إسماعيل أدهم في النّقد الأدبيّ وصادف أن كان هذا المؤلّف منشورا في المجلّد الذي يتضمّن رسالته "لماذا أنا ملحد".
5. اللّفيظات العلميّة، أو "المتعولمة" بالأحرى، ونقصد بها اللّفيظات التي تحاول إيجاد سببيّة علميّة ما لإلحاد إسماعيل أدهم أو انتحاره. والملاحظ أنّ هذه السّببيّات تخدم الحصار الرّقابيّ، فتبقى فجّة غليظة، لا تأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة خطابه ولصوته الذّاتيّ، ومبدإ تضافر العلل كما تبرزه المعارف الحديثة. فإلحاده قد يعلّل مثلا بـ"إدمانه" على قراءة النّصوص الإلحاديّة الشّيوعيّة، أو بـ"استعماله" ذكاءه الخارق في غير محلّه...
6. "عدم القول" كما جاء في تعريف ميشال فوكو نترجمه بمحو الأثر، لإنتاج النّسيان. فالكثير منّا لا يعلم بوجود أعمال كاملة للرّجل، أو علم ونسي. والذين يعلمون بوجودها لا يجدونها بيسر، والمبحر في الشّبكة العالميّة لا يجد حتّى صورته في محرّكات البحث. وهذا مجال المسارات (لا الإجراءات) الصّامتة التي تكاد تكون لاشعوريّة.
ولقد كان روّاد النّهضة والتّنوير من المصريّين كالطّهطاوي وقاسم أمين، وعلي عبد الرّازق وطه حسين، ركنا أساسيّا في التكوين الثّانويّ والجامعيّ للجيل الذي أنتمي إليه بتونس. ولكنّني لم أسمع بإسماعيل أدهم إلاّ خارج الجامعة، وخارج مسار التّكوين الرّسميّ. كان التّنوير الذي درّسناه تنويرا "لطيفا خفيفا" لا يطرح الكثير من المشاكل، لأنّ المؤسّسة التّعليميّة هي نفسها جهاز لقولبة الذّوات، مهما أوتي القائمون عليها من بعد نظر تحديثيّ أو تنويريّ.
فما حصيلة عمل جهاز الرّقابة من خلال هذه العيّنة الدّالّة؟
الحصيلة هي أننّا إذا استثنينا بعض المختصّين، لا نكاد نجد من يعلم شيئا يذكر عن فكر إسماعيل أدهم وكتاباته، سوى ما نجحت الرّقابة في جعله بصمة ووصمة، ووسما وعنوانا، وهو أنّه ألحد وانتحر، والعياذ بالله. لسان حال الرّقابة هو دائما : "هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب". هكذا تشتغل : تنتج الوصمة لتعتّم عن الأثر. تضع الوصمة حجابا على كلّ الوجوه.
والحصيلة أيضا هي أنّ عمل جهاز الرّقابة يعطّل ما يسمّيه فرويد بـ"عمل الثّقافة". وعمل الثّقافة لا يعني فقط انتشار المعارف وتراكمها وتناقلها بين الأجيال، بل يعني كلّ المسارات اللاشّعوريّة التي تساعد البشر على أن يعيشوا معا، ويحوّلوا ذواتهم بحيث يحدّون من نزعاتهم التّدميريّة والقتليّة. غيّب إسماعيل أدهم، بحيث لا يتماهى معه النّاشؤون، ولا يتذكّرونه، فيبقى عدم الإيمان أو "الإلحاد" ثقبة سوداء لا يمكن عيشها ولا يمكن التّعبير عنها إلاّ في دائرة من الخطر والعنف.
ولكنّ عمل الرّقابة يوازيه فعل آخر تحرّريّ، يعتبره أغمبن من باب التّدنيس profanation بالمعنى اللاتينيّ الدّينيّ-القانونيّ القديم، وهو إعادة الشيء المعزول والمحجوز إلى الاستعمال المشترك.
فالرّقابة إذ تحجز، فتعزل وتطمس، تؤدّي إلى محاولات فكّ الحجز، بما يقوم عليه من عزل وطمس. هذا ما قام به بعض معاصري إسماعيل أدهم ممّن دافعوا عن حقّه في التّعبير، أمثال سلامة موسى (1887-1958) وأحمد زكي أبو شادي ( 1892-1955). وهذا ما قام به جامع أعماله أحمد الهراوي، وهذا ما قامت مواقع الأنترنيت عندما نشرت رسالته وعرّفت به بعد حوالي سبعين عاما من النّسيان المنظّم، وهذا ما قام به أنسي الحاج، فقد كان مقاله "إسماعيل أدهم" (الأخبار، 22 أغسطس 2007) ردّا بليغا أنيقا على كلّ البذاءات الإسلامويّة المتراكمة، وافتكاكا إبداعيّا لما قبضت عليه يد الرّقابة.
فالرّقابة ككلّ جهاز، لا يمكن تدميره. ولكن يمكن الحدّ من سطوته، بأن نستردّ ما احتجزه، ونخرجه من عمله الآليّ، وبأن نحوّل هذا الاسترداد إلى فعل متكرّر وملحّ.