-الدّيمقراطيّة العرفيّة- أو لعبة إلغاء قواعد اللّعبة
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن
-
العدد: 4590 - 2014 / 10 / 1 - 21:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"إذا أعادكم الصندوق فسنكمل ثورتنا في الشوارع و الساحات حتى نقتلعكم من أرضنا".
هذا التّهديد موجّه إلى "رموز المنظومة القديمة"، وصاحبه إسلاميّ أنيق يرتدي ربطة عنق، وهو زعيم حزب "يخوض" الانتخابات التّشريعيّة، اسمه "حزب البناء". إنّه قابل مبدئيّا بقواعد اللّعبة الدّيمقراطيّة، لكنّه مستعدّ لنقضها وتعويضها بمقتضيات لعبته الخاصّة. فالدّيمقراطيّة وفق هذا التّصوّر أشبه بلعبة شطرنج بين شخصين أحدهما يستعمل يديه الاثنتين في شأنين مختلفين : اليد اليمنى تمسك بقطع الشّطرنج، واليد اليسرى تلوّح بسكّين سيقطع بها رقبة ملاعبه في صورة انتصاره عليه، والحال أنّه يشهر سكّينا. ويمكن أن نتساءل عن لعبة هذا الإسلاميّ الحقيقيّة، هل هي الانتخابات والدّيمقراطيّة، أم الغلبة والتّطهير، حتّى وإن اقتصر التّطهير مبدئيّا على "رموز المنظومة القديمة"؟ فمن هم هؤلاء الرّموز، وهل يمكن حصرهم، لا سيّما أنّ كلّ معارضي الإسلاميّين يصبحون في السّجال السيّاسيّ الإعلاميّ والفايسبوكيّ "أزلاما"؟ ألم يصفني أحد المناصرين للإرهاب بأنّني من الأزلام، لأنّني رفضت التّحاور مع من لا يحترم الحقّ في الحياة وينفي وجود الإرهاب ويبرّره؟ أي رفضت "اللّعب" من لا يحترم القواعد الأساسيّة للّعبة السّياسيّة بل ولشروط للعيش معا؟
ويمكن أن نتساءل عن مدى اختلاف صاحب ربطة العنق، زعيم حزب البناء، عن جهاديّي الشّعانبيّ. هؤلاء الجهاديّون يرتدون أسمالا تقرّبهم من أجواء طورا بورا وزعيم تنظيم القاعدة ابن لادن، والجميع يحاولون مسرحة الأجواء المفترضة للسّلف الصّالح الفاتح للبلدان، القاطع لرؤوس الكفّار. فهم لا يقبلون ربطات العنق ولا يقبلون الدّيمقراطيّة أساسا. لكنّهم يلتقون مع زعيم الحزب "الحداثيّ" في تقسيمهم سكّان البلاد إلى قسمين، قسم فاعل وقسم مفعول به، الفاعل هو المقتلِع، بكسر اللّام، أو القاتل، والمفعول به هو المقتلع، بفتح اللاّم، أو المقتول. وهم يشتركون في الإيمان بأنّ الخير خير والشّرّ شرّ فلا يلتقيان، بحيث لا يوجد من رموز المنظومة البائدة من يستحقّ البقاء، كما لا يوجد من أهل الكفر من يستحقّ نظرة عطف، ويشتركون في اعتبار مشروعهم جابّا لما قبله، فالهداية تجبّ الضّلال الذي يسبقها عند الجهاديّين، والثّورة حالة يجب أن تجبّ ما قبلها عند الإسلاميّ الثّوريّ. إنّها أسطورة "الجبّ" tabula rasa التي تنبع من أوهام النّقاء وفنتازمات "التّصفية" نشدانا لـ"الصّفاء". ويلتقي الجميع أيضا في عدائهم للدّولة ممثّلة في أعوانها، فرموز النّظام عند إسلاميّنا الثّوريّ هم المعادل لـ"الطّاغوت" عند الجهاديّين.
وليس من الغريب أن يكون السيّد الحامل لمشروع الاقتلاع قد انشقّ عن حركة النّهضة، لأنّ هذه الحركة قبلت التّخلّي عن نقائها الإسلاميّ أو الثّوريّ بعد الحوار الوطنيّ، وقبلت التّنازل عن الحكم لصالح "الانقلابيّين". إنّه لا يرى مانعا من الانقلاب على رموز النّظام السّابق إذا فازوا في انتخابات 2014، ويرفض "الانقلاب" على الإسلاميّين بعد انتخابات 2011، وبعد حكومتين اتّفق أغلب التّونسيّين على أنّهما فاشلتان. هناك إذن انقلابيّون يحقّ لهم الانقلاب، وانقلابيّون لا يحقّ لهم الانقلاب. الذين يحقّ لهم الانقلاب هم "نحن". "نحن" أصحاب الحقيقة المطلقة معرفيّا وأصحاب الشّرعيّة المطلقة سياسيّا، وشرعيّتنا لا تحتاج إلى "إرادة الشّعب"، لأنّ اللّه هو الذي أرادها. نحن المصطفون إذن. والمصطفون هم المؤهّلون إلى التّصفية نشدانا للصّفاء (الاقتلاع في خطاب الإسلاميّ الثّوريّ)، وهذا الاصطفاء تكتفي صناديق الاقتراع بتزكيته، أحيانا ولكنّه "سنّة" وليس فرضا. المهمّ ليس الانتخاب، بل انتخابنا نحن، من باب المضاعفة البشريّة للاصطفاء الإلهيّ.
لكن لو تأمّلنا أداء هذا الحزب الكبير الذي رضخ إلى مقتضيات الواقعيّة السّياسيّة، فانشقّ عنه صاحب مشروع الاقتلاع، لوجدنا شبها بينه وبين من انشقّ عنه، يتمثّل أيضا في محاولة إلغاء قواعد اللّعبة أثناء اللّعب، وأبرز قاعدة هي الإرادة الحرّة في الاختيار، واعتماد الاقتراع السّرّيّ العامّ المباشر في الانتخابات الرّئاسيّة استنادا إلى الدّستور وإلى القانون الانتخابيّ. فحركة النّهضة تخالف فلسفة الانتخاب وقواعده الدّستوريّة والقانونيّة بعرض فكرة "الرّئيس التّوافقيّ". الفاعلون في هذا التّوافق سيكونون أشبه بـ"أهل الحلّ والعقد" من زعماء الأحزاب والسّاسة الذين سيأمرون "رعاياهم" بالتّصويت على من أجمع عليه علية القوم، وفي هذا نسف للدّيمقراطيّة ولمبدإ الانتخاب، وتأكيد لمبدإ ضبابيّ أخلاقيّ هو "الشّورى". الدّيمقراطيّة وفق هذا التّصوّر أشبه بلعبة شطرنج، أحد لاعبيها يقرّر النّفخ على قطع الخصم، لجعلها تسقط بقوّة الهواء، دفعة واحدة، بدل أن تسقط بمقتضى قواعد الشّطرنج.
وبالتّوازي مع الخطاب الجديد الذي تبنّاه زعيم حركة النّهضة، وهو خطاب الانفتاح والتّوافق، ومدنيّة الدّولة، تنشط الجمعيّات الدّينية والخيريّة التي منها ما هو تابع لهذه الحركة، فتعمل على أدلجة الأطفال في المدارس القرآنيّة وغيرها، وتعمل على تأكيد مرجعيّة أخرى غير مرجعيّة الدّستور والقوانين. أحد لاعبي الشّطرنج هنا لا يلغي قواعد اللّعبة مباشرة، بل يرسل أياد خفيّة إلى خصمه لتضغط عليه حتّى يفقد التزامه بقواعد لعبة الشّطرنج، ويفقد توازنه وتركيزه.
إنّها لعبة إعادة تأسيس ما تأسّس، أي إعادة البدايات على نحو أكثر مأساويّة من مأساة سيزيف. فسيزيف له صخرة واحدة يجتهد في رفعها إلى قمّة الجبل، والإسلاميّون يغيّرون الصّخرة، أو يحاولون مغافلة الجميع لدحرجتها إلى الأسفل عنوة.
ولهذا السّبب، ليس من الغريب أن تتأكّد لعبة إلغاء قواعد اللّعبة بسياسة صامتة تعمل على إلغاء فاعليّة الدّستور بإعادة فتح الملفّات التي أغلقت وقالت فيها السّلطة التّأسيسيّة كلمتها. بحيث تتسابق في لعبة الانتخابات في أكتوبر 2014 أحزاب تتجاهل دستور جانفي 2014. إنّها الأحزاب الإسلاميّة التي تطالب مثلا بتطبيق الشريعة، وكأنّ شيئا لم يكن منذ 23 أكتوبر 2011، وكأنّ مسألة الشّريعة لم تأخذ حظّها من النّقاش داخل المجلس التّأسيسيّ وخارجه.
وهكذا فإنّ السّلطة المعياريّة العليا التي تضع الدّستور، والسّلطة المعياريّة المشتقّة منها التي تسنّ القوانين ستظلّ تنافسها سلطة معياريّة أخرى ذات مصدر دينيّ، وهذه السّلطة ينصّب الإسلاميّون أنفسهم أوصياء عليها، لأنّهم "المصطفون"، حتّى وإن أبدوا تعلّقهم بما سمّي في الدستور "الدولة المدنيّة"، ولهذا السّبب لا يقبل الإسلاميّون بقواعد اللّعبة الدّيمقراطيّة إلاّ بإلغائها أو إرباكها.
هذا هو مشروع الإسلام السيّاسيّ، وهو حسب رأيي يشترك مع المشروع الإرهابيّ في كونه يحمل بذرة قائمة على نسف العقد الاجتماعيّ لإقامة عقد بديل، عبر صيرورة سلبيّة مشدودة إلى الموت ونوازعه، هي صيرورة "الإنهاك". فالإرهاب يهدف إلى الإنهاك الأمنيّ كما ينظّر له صاحب كتاب "إدارة التّوحّش"، والإسلام السّياسيّ، على نحو إراديّ أو غير إراديّ، يسعى إلى الإنهاك السّياسيّ حتّى لا تستقرّ سلطة معياريّة واحدة، ولا تستقرّ قواعد لعبة واحدة، هي التي يقتضيها الدّستور باعتباره تجسيدا للعقد الاجتماعيّ. إنّه حسب تقديري يقترح علينا عقدا اجتماعيّا شبيها بالزّواج العرفيّ : عقد يتحكّم في فصوله طرف واحد هو الزّوج القوّام، بحيث يمكنه أن يلغي العقد متى أراد ويمكنه أن يمزّق ورقته إن كان مكتوبا، ويمكنه أن لا يعترف بالولد، إلخ. هذا النّوع من العقد الغائم الذي لا تراعى فيه أيّ قاعدة واضحة هو ما سمّيته بـ"الدّيمقراطيّة العرفيّة"، التي لا ضمان فيها لأيّ قاعدة ديمقراطيّة.
متى تخرج الحركة الإسلاميّة الكبرى، حركة النّهضة، من مشروع الإنهاك السّياسيّ الموازي لمشروع الإنهاك الإرهابيّ؟ ومتى يصبح الدّستور ناجعا فلا تقدم الحكومات القادمة على التّرخيص للأحزاب التي تسعى إلى نقضه؟ ومتى تصبح لدولتنا مناعة كافية ضدّ كلّ نوع من الإنهاك والعودة إلى ما قبل دستور 2014؟ متى يحترم الجميع قواعد اللّعبة؟