بحث في نظرية هوامية غريبة : المرأة ذات -الفرج المقلوب-
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن
-
العدد: 2075 - 2007 / 10 / 21 - 10:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المرأة ذات "الفرج المقلوب"
بحث في نظريّة هواميّة غريبة (1)
كيف بنى العرب القدامى الاختلافات التّشريحيّة والفيزيولوجيّة بين الجنسين، وما هي مدلولات هذا البناء؟ وما الذي جعلهم يتصوّرون أنّ للمرأة عضوا ذكوريّا باطنيّا أو "فرجا مقلوبا" حسب تعبيرهم؟ وما العلاقة بين هذا العضو المفترض والعضو الصّغير الآخر غير المفترض، وهو البظر؟
هذه الأسئلة توجّهنا إلى دائرة في البحث تغيّبها الدّراسات النّسائيّة والدّراسات الجندريّة لأنّها تقفز على الفوارق الجسديّة بين الجنسين لتهتمّ بالفوراق الثّقافيّة، أي لما يعود إلى التّنشئة الاجتماعيّة من اختلافات تراتبيّة وسلطويّة أساسا، والسّرّ في ذلك يضيق عنه مجال هذا البحث، أو لعلّ القارئ يتبيّنه في نهايته.
نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ من مظاهر تغييب الاختلاف الجنسيّ في الأبحاث العلميّة العربيّة المصير الذي لقيه كتاب توماس لاكور Thomas Laqueurوعنوانه "مصنع الجنس : الجنس والجندر من الإغريق إلى فرويد"، وقد صدر سنة 1990 بالإنكليزيّة وسنة 1992 بالفرنسيّة. هذا الكتاب الذي سننطلق منه وسنحاول محاورته على ضوء النّصوص العربيّة من ناحية، والتّحليل النّفسيّ من ناحية ثانية، لم يترجم إلى اليوم إلى العربيّة، ولم أجد له أثرا في الكمّ الهائل من الأبحاث الصّادرة عن المرأة أو عن تاريخ العلاقات بين النّساء والرّجال، رغم أهمّيّته ودقّته، ورغم أنّ صدوره مثّل حدثا مهمّا في تاريخ الفكر الطّبّيّ والتّشريحيّ وفي تاريخ التّصوّرات الغربيّة عن الجسد البشريّ.
ويمكن أن نذهب أوّلا إلى أنّ أهمّ النّتائج التي توصّل إليها لاكور في فضاء الفكر الغربيّ شبيهة في مجملها بالنّتائج التي يتوصّل إليها الباحث في فضاء الفكر العربيّ، وإن كنّا نفتقر إلى اليوم إلى دراسة ضافية للموضوع، في مثل جودة دراسة لاكور، ونقرّ بأنّ هذا البحث لا يسدّ هذا النّقص بقدر ما يقترح مقدّمات إليه.
توصّل لاكور في رصده للتّحوّلات في تاريخ المعرفة عن الجسد، إلى أنّ الاختلاف بين جسمي المرأة والرّجل مغامرة حديثة لم يخضها مفكّرو الغرب إلاّ في حدود القرن الثّامن عشر، وأنّ نموذج الجنس الواحد modèle unisexe المأخوذ عن الإغريق هو الذي ساد الفكر الغربيّ. يقول معرّفا بهذا النّموذج : "نموذج الجنس الواحد الذي سيطر على الفكر التّشريحيّ طيلة ألفي عاما فهم المرأة على أنّها رجل معكوس : فالرّحم هو مثانة المرأة، والمبيضان خصيتاها، والشّفرتان قلفتها، وفرجها عبارة عن عضو ذكوريّ."
كما قام هذا النّموذج على التّناظر شبه التّامّ بين الرّجل والمرأة في عمليّة الإنجاب، فالجنسان يخضعان إلى نظام قذفيّ انتشائيّ واحد، ولكلّ منهما منيّ يساهم في الانعقاد (أي تكوّن الجنين). كان جسد المرأة صنوا لجسد الرّجل في التّشريح وفي نظام الأخلاط، أو إن شئتم كانت المرأة رجلا معكوسا يحمل أعضاء الذّكورة في الدّاخل لا في الخارج، لافتقارها إلى الحرارة الحيويّة التي يمكن أن تدفع بأعضائها إلى الخارج. هذا التّصوّر الموروث عن أبقراط وجالينوس كان معارضا إلى حدّ ما للتّصوّر التّكامليّ التّراتبيّ الرّاجع إلى أرسطو. لقد جذّر هذا الفيلسوف الاختلافات بين الجنسين فجعل المرأة عاجزة عن إنتاج المنيّ، وجعل دورها مقتصرا على توفير المادّة الدّمويّة التي تظلّ في الرّحم منتظرة إلى أن يمنحها السّائل المنويّ الذّكوريّ الصّورة. ورغم مكانة أرسطو في الفكر الغربيّ، فإنّ الغلبة كانت لنظريّة الجنس الموحّد التّناظريّة على نظريّة أرسطو التّكامليّة. ومن النّتائج المهمّة التي خرج بها لاكور أنّ الفوارق الاجتماعيّة والثّقافيّة بين الجنسين، أو ما يمكن تسميته بالجندر، كانت أهمّ من الاختلاف الجنسيّ.
ونكاد نجد اللّوحة نفسها لدى الأطبّاء والكتّاب العرب الذين كانوا ورثة للطّبّ اليونانيّ. فبقدر ما كانت ثنائيّة المذكّر والمؤنّث محوريّة في المجتمع، وبقدر ما كانت الأدوار الاجتماعيّة موزّعة بوضوح وموضوع رقابة مشدّدة، تعكس التّصوّرات التّشريحيّة والفيزيولوجيّة االعالمة نظريّة في الجنس الواحد، كانت هي السّائدة. فمن النّاحية التّشريحيّة، يقول ابن سينا (ت 428هـ) : " نقول إنّ آلة التّوليد التي للإناث هي الرّحم، وهي في أصل الخلقة مشاكلة لآلة التّوليد للذّكران، وهي الذّكر وما معه، لكنّ إحداهما تامّة متوجّهة إلى خارج، والأخرى ناقصة محتبسة في الباطن، فكأنّها مقلوب آلة الذّكران، وكأنّ الصّفن صفاق الرّحم، وكأنّ القضيب عنق الرّحم، والبيضتان للنّساء كما للرّجال، ولكنّهما في الرّجال كبيرتان بارزتان متطاولتان إلى استدارة، وفي النّساء صغيرتان مستديرتان إلى شدّة تفرطح، باطنتان في الفرج، موضوعتان عن جنبيه في كلّ جانب من قعره واحدة، متمايزتان يختصّ بكلّ واحد منهما غشاء لا يجمعهما كيس واحد، وغشاء كلّ واحدة منهما عصبيّ. وكما أنّ للرّجال أوعية للمنيّ بين البيضتين وبين المستفرغ من أصل القضيب، كذلك للنّساء أوعية للمني بين الخصيتين وبين المقذف إلى داخل الرّحم..."
ونجد هذا التّصوّر لدى المصنّفين لكتب الباه، إذ يقول التّيفاشيّ صاحب كتاب "نزهة الألباب" : "... آلات التّناسل في الإناث موضوعة داخل البطن ومطبوعة على الميل إلى ما هناك. وأمّا الذّكر فخارج البطن مجبولة ومطبوعة على الميل إلى ما هناك".
ومن حيث الوظيفة، أي من النّاحية الفيزيولوجيّة، إذا استثنينا بعض الفلاسفة الأوائل ممّن ينحون نحو أرسطو في اعتبار الجنين يتولّد من منيّ الرّجل ودم المرأة، أمكن لنا القول بأن نظريّة ازدواج المنيّ كانت هي السّائدة. انتقد الأطبّاء العرب تصوّر أرسطوطاليس، كما انتقده جالينوس، وانتقدوه في نقطة أساسيّة هي سلبيّة دور المرأة في الإنجاب، ونفي المنيّ عنها : يقول ابن سينا في كتاب الطّبيعيّات : "واعلم أن الولادة انما تكون إذا توافي الزّرعان من الذكر والأنثى معا، فان اختلف الوقتان لم يعلق… والمرأة والرجل يحتلمان جميعا ويصبّان المنيّ كل على نحو صبه. أقول: إنّه لا عذر لمن يسمع هذه الفصول وغيرها، ثم يظن أن المعلّم الأول يقول بأن المرأة لاتصب فضلة نطفية..." ولم يقتصر هذا الرّأي على الأطبّاء، بل إنّنا نجده لدى فقيه كالغزالي، فقد اعتبر ماء المرأة "شرطا في الانعقاد" ومتصوّف كابن عربيّ فقد خالف "أهل علم الطّبائع" في قولهم بأنّه "لا يتكوّن من ماء المرأة ولد" واعتبر أنّ عيسى بن مريم "من ماء أمّه" فحسب.
بل ربّما قطع الأطبّاء شوطا أبعد في الأخذ بنموذج الجنس الواحد، لأنّهم عندما تحدّثوا عن أمراض الرّحم، وهي المتسبّبة في الهستيريا حسب تصوّرات أطبّاء الإغريق، ذكروا اختناق الرّحم النّاجم عن انحباس دم الطّمث أو المنيّ، ولم يستبعدوا أن يصاب الرّجل بالأعراض النّاجمة عن ها النّوع من الهيستيريا : يقول الرّازي (ت313 هـ) :"... فإنّه كما يعرض للرّجال الكثيري المنيّ عند ترك الجماع من القلق وثقل الرّأس وسقوط القوّة والشّهوة كذا ليس ينكر أن تعرض أعراض أشدّ من هذه لهؤلاء النّسوة..."
فما نسمّيه "الشّرق" ونقصد به العالم العربيّ قد اشترك مع "الغرب" في إنتاج أو إعادة إنتاج التّصوّرات التّشريحيّة نفسها، ونسبوا إلى المرأة عضوا ذكوريّا مقلوبا ومنيّا. وربّما يتّضح لنا الآن تنسيب عبد الكبير الخطيبيّ لأهمّيّة الاختلاف الجنسيّ في القرآن، وقوله : "لكي نحسن تحديد موقع "الجنسانيّة" في الإسلام، يجدر بنا أن نعتبر الاختلاف الجنسيّ ثانويّا إذا ما قورن بالاختلاف بين الإيمان والكفر، وبين الوجود المطلق للواحد، و"إشراك" أيّ ثالوث أو آلهة أخرى أو عبادات وثنيّة به."
ويمكن الآن أن نحاول التّأويل وأن نتساءل عن أسباب غلبة نموذج الجنس الواحد غربا وشرقا وطيلة قرون طويلة، فلا تكفي عوامل التّداخل الثّقافيّ وتناقل الإرث الطّبّي اليونانيّ في تفسيرها. كيف يمكن أن نفهم إصرار المنظّرين القدامى للجسد على اعتبار فرج المرأة أيرا، وإصرارهم على عدم النّظر إلى الاختلافات التي تنتج الاختلاف الجنسيّ رغم وبعد كلّ ازدواجيّة جنسيّة بيولوجيّة أوّليّة؟
لقد انتبه لاكور إلى حدّ ما إلى طبيعة هذا الإصرار، وامتنع عن تفسيره بعامل قصور الذّكاء العلميّ لدى القدامى، لأنّه إصرار من لا يريد أن يرى، وليس إصرار من عجز عن الرّؤية. إنّه "عنت" أو "عمى" علميّ وصفه قائلا : "كان بإمكان التّشريحيّين أن ينظروا إلى الأجساد على نحو مختلف-كأن يعتبروا فرج المرأة شيئا مختلفا عن العضو الذّكوريّ-ولكنّهم لم يفعلوا هذا لأسباب ثقافيّة. ثمّ إنّهم لم يبالوا بالمعطيات التّجريبيّة-بالأدلّة مثلا على إمكان الحبل بدون انتشاء-لأنّ هذه المعطيات لم تكن تتّفق مع أيّ جدول علميّ أو ميتافيزيقيّ."
ولكنّ تفسير لاكور لهذا العنت لم يكن بحجم العنت نفسه. لقد قدّم عاملين مختلفين لتفسير نموذج الجنس الواحد وطول عمره، العامل الأوّل ثقافيّ ويتمثّل في تسليط الثّقافة نظامها ومراتبيّتها على عالم الأجساد من الخارج، بحيث أنّ الأجساد مجسّدة لأفكار وغير محدّدة، والعامل الثّاني له علاقة بالسّلطة المرتبطة بالجنس : فهذا النّموذج يقوم دليلا على أنّ الرّجل هو مقياس كلّ شيء، وأنّ المرأة "ليس لها وجود باعتبارها مقولة أنطولوجيّة منفصلة".
إنّنا نرى أوّلا أنّ هذا التّفسير ليس مميِّزا مخصِّصا، فهو ينطبق على كلّ التّصوّرات التّشريحيّة القديمة، ولا ينطبق فحسب على نظريّة الجنس الواحد وفكرة العضو الذّكوريّ للمرأة. فالرّجل كان المقياس مثلا في نظريّة أرسطو التي تعتبر المرأة رجلا منقوصا ضعيفا. ونرى ثانيا أنّ عامل الهيمنة الذّكوريّة لا يكفي لتفسير هيمنة هذه النّظريّة وطول عمرها. لا شكّ أنّ تصوّرات الجسد لا يمكن أن تفلت من نظام الهيمنة الذّكوريّة باعتباره ركنا أساسيّا من أركان الحضارات التّقليديّة. إلاّ أنّ النّظريّة التّشريحيّة الأقدر على توفير دعامة تبريريّة إيديولوجيّة له ليست نظريّة الجنس الواحد، بل النّظريّة الثّنائيّة الأرسطوطاليسيّة بما أنّها تقوم على الفصل التّامّ بين الجنسين، وبما أنّ التّراتبيّة بين الجنسين أوضح فيها. ولو تأمّلنا مكوّنات هذه النّظريّة لوجدناها في تطابق تامّ مع آليّات قمع النّساء : فالإعلاء من شأن الأمومة على حساب الأنوثة يتطابق مع حديث أرسطو عن الوعاء السّلبيّ الذي توفّره المرأة، والاعتقاد في نقص النّساء عقلا ودينا يمكن أن يستند إلى تصوير أرسطو المرأة على أنّها كائن مجبول على النّقص والمرض. وهو ما يفسّر عودة الخطباء الإسلاميّين اليوم إلى النّموذج الأرسطوطاليسيّ، ربّما بصفة لاشعوريّة، ليجعلوا المرأة "سلبيّة" والرّجل "إيجابيّا"، وليجعلوا المرأة الكائن الوحيد المجبول على الخصاء والنّقص.
فعندما يتعلّق الأمر بأفكار ملحّة رغم أنّ الإدراك والواقع التّجريبيّ يكذّبانها، تبدو لنا العوامل النّفسيّة أعمق وأكثر تجذّرا من عامّة العوامل المعرفيّة والثّقافيّة، ويبدو لنا الحديث عن العنت اللاّواعي أكثر جدوى من الحديث عن "خطإ يكذّبه الفهم وتكذّبه التّجربة". ربّما تقف هنا حدود البحث في تاريخ الفكر، ليبتدئ التّساؤل عن تجذّر الفكر في اللاّمفكّر فيه، أي فيما يرفض التّفكير فيه، وفي علاقة الفكر بالجنسانيّة وبالكبت.
هذه الخطوة هي التي لم يقم بها لاكور، نظرا إلى المنزلة التي خصّ بها التّحليل النّفسيّ ومؤسّسه فرويد. ففي هذا الكتاب لم يكن فرويد ندّا ومحاورا بإمكانه تقديم مبدإ تفسير للعضو الذّكوريّ النّسائيّ ولنموذج الجنس الواحد، بل كان موضوع دراسة من بين المواضيع المختلفة. لقد خصّص لاكور لفرويد فصلا أخيرا وقدّمه على أنّه وريث لنموذج الاختلاف الجنسيّ الحديث و"مطيح به" في الوقت نفسه، نتيجة فرضيّته في الأحاديّة اللّيبيديّة.
فنظريّة النّموذج الواحد لا تعدو أن تكون نظريّة جنسيّة ولكنّها من صنع الكبار، لا الأطفال، أو من صنع الكبار من حيث أنّ الطّفولة النّفسيّة تلاحقهم من المهد إلى اللّحد.
هذه الأبنية المفهوميّة المنتجة لنموذج الجنس الواحد تنطق ولا شكّ عن فكر قائم على التّناظر وعلى منطق الهويّة، واختزال المختلف، ولكنّنا نجد فيها أصداء لهوام المرأة ذات العضو الذّكوريّ، وهو هوام تبيّن مختلف الميثولوجيات والتّعبيرات الفولكلوريّة والأحلام أهمّيّته منذ العهود السّحيقة وفي كلّ مكان. إنّ الأساس في نظريّة الجنس الواحد هو نفي خصاء المرأة ومنحها أيْرا داخليّا قد لا يرى، أو لا يهمّ أنّه يرى أو لا يُرى ولكنّه يفترض، ولذلك ليس من الإجحاف اعتبارها شبيهة من حيث الوظيفة بأولى النّظريّات الطّفوليّة الجنسيّة الثّلاث التي وصفها فرويد سنة 1908 : "أولى هذه النّظريّات الجنسيّة ترتبط بإهمال الاختلافات بين الجنسين، إهمالا نبّهنا منذ البداية إلى أنّها من خصائص الأطفال. وتتمثّل هذه النّظريّة في إسناد عضو ذكوريّ كالذي يعرفه الصّبيّ انطلاقا من جسده إلى كلّ الكائنات البشريّة بمن في ذلك الكائنات الأنثويّة." وفي الصّفحة نفسها، وقبل أن يتحدّث سنة 1937 عن "صخرة الأصل" كتب فرويد : "وبعد ذلك يعود تصوّر المرأة ذات الذّكر إلى الظّهور من جديد في أحلام الكهول."
إنّها أحلام يقظة، أحلام كهول تلبس قناع البناء المفهوميّ العالم وتسمح بمداراة الخوف من الثّغرة المخيفة التي يمثّلها العضو الأنثويّ "بطريقة ملتبسة، إمّا لأنّه يصبح مصدر التّهديد للعضو المتّهم، أو لأنّه على العكس يمثّل نموذجا لاختفاء العضو." كان الرّجال إذن مستسلمين إلى هوامات وتخاييل نظريّة تجعل المرأة كائنا مماثلا لهم وتسند إليها عضوا ذكوريّا من نوع خاصّ. ومن البديهيّ أنّ منح المرأة هذا العضو لا يمكن أن ينجرّ عنه أيّ مبدإ من مبادئ المساواة بين الجنسين، لا لأنّ النّشاط الذي ينتجه ذو طبيعة خياليّة، بل لأنّ العضو الذّكوريّ الذي يفترضونه لدى المرأة، يبقى غائرا كـ"عيني الخلد" حسب عبارة جالينوس ، خافيا محجوبا في حضارات تمجّد الظّهور والانتصاب والقوّة القضيبيّة. ويمكن أن نعتبر هذه المعاني مكثّفة في دالّ "البيان" باعتباره ظهورا ووجودا وقوّة قضيبيّة ترمز إليها القدرة على الخطابة، وهي قدرة منسوبة أساسا إلى القرآن وإلى الرّسول والرّجال الفصحاء.
ولكنّ قلق الإخصاء وما ينجرّ عنه من هوامات مطمئنة لا يكفيان لتفسير هذه البدعة النّظريّة الغريبة، لوجود سؤال أساسيّ يمكن أن يطرح هو : لماذا لم يكن البظر أساسا لنموذج الجنس الواحد، رغم انّ شبهه بالعضو الذّكوريّ أوضح، ورغم أنّ هذا العضو الصّغير هو الحاضر في جنسانيّة الطّفل الأنثى ، وفي أحلام الكبار والنّظريّات والممارسات الجنسيّة الطّفوليّة التي تمّ وصفها وتوثيقها في أدبيّات التّحليل النّفسيّ؟ لماذا لم يؤسّس منظّرو الجنس الواحد نموذجهم على اعتبار البظر عضوا ذكوريّا والشّفرتين خصيتين؟ إذا كان الحافز على إنتاج نظريّة المرأة ذات الفرج المقلوب إنكار خصاء المرأة وحجب ثقبها الغوريّ الباعث على الخوف، فما كان موقع بظر المرأة من هذه النّظريّة ومن هذه الحوافز اللاّشعوريّة؟