2 للذكر مثل حظ الأنثيين
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن
-
العدد: 1855 - 2007 / 3 / 15 - 11:55
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
الثّغرة داخل الحصن
الثّغرة هي الفتحة التي تأخذ في الاتّساع داخل الحصن، إلى أن تحمل المتحصّنين داخله على استقبال المختلف الآتي من ذواتهم قبل أن يكون آتيا "من الخارج". والثّغرة التي نقصدها هي تلك التي تنفتح بالوعي بضرورة المساواة، أو بما يسمّى بـ"المسيرة المخلّصة نحو المساواة".
وتوجد كذلك الثّغرة التي تكون في البدايات، قبل أن يتمّ بناء الحصن وتحصينه، وفيما يخصّ الميراث يمكن أن نقول إنّ ثغرة البدايات تجسّدت في مطالبة النّساء من حول الرّسول بحصّتهنّ الكاملة من الميراث أو بحصّتهنّ من الجهاد. أغلقت هذه الثّغرة طيلة قرون طويلة، كانت النّساء فيها لا يحرمن من النّصف الآخر فحسب، بل كنّ كثيرا ما يحرمن من كامل نصيبهنّ من الميراث. فالذي يحرم من النّصف لأنّه أقلّ درجة، يمكن أن يحرم من الكلّ، والرّجل الذي يرث أكثر من المرأة لأنّه أفضل منها، ولأنّه يملك مفاتيح الحصن، من السّهل أن يتصوّر أنّ أفضليّته تملي عليه السّيادة التّامّة على الجنس الخاضع لمبدإ التّنصيف. ولذلك طالما سمعت في طفولتي نساء يردّدن عبارة ربّما ردّدتها جدّاتهنّ وجدّات جدّاتهنّ، وهذه العبارة هي : "لا حرّم اللّه وارثا" (اللّه لم يحرّم الميراث). كنّ يردّدن هذه العبارة كلّما تعرّضن إلى جور الإخوة الذّكور وأريد حرمانهنّ من ميراث آبائهنّ، بحجّة أنّ النّساء يرثن أزواجهنّ. قد لا تساوي حصّتهنّ من الميراث أحيانا أكثر من بيت خرب أو من بضعة أشجار زيتون. ولكنّ الشّعور بالضّيم كان يمتزج بمحبّة الأب الرّاحل، فكنّ يتحدّثن عن "شمّ الرّائحة"، رائحة الأب إذ يهزّهنّ الحنين إليه، ويعتقدن أنّ هذه الرّائحة يمكن أن تهبّ عليهنّ عبر البيت والشّجرة. وكثيرا ما كنّ يمتن بحسرتهنّ، دون أن يحصّلن متاعا ولا رائحة.
ثمّ فتحت الثّغرة في العصر الحديث، فتحها الطّاهر الحدّاد بمطالبته بجملة من الحقوق منها المساواة في الميراث في كتابه "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع" الصّادر سنة 1930. مات الحدّاد ضعيفا منبوذا، لأنّه ألحق بصفوف الضّعفاء الذين ناصرهم في زمن لم يستعدّ فيه الأقوياء بعد لاستبدال القوّة بالشّوق والطّموح.
وبعد أكثر من أربعين عاما، في سنة 1974 تحديدا، أراد الحبيب بورقيبة إعادة فتح الثّغرة في خطاب كان عنوانه : "الإسلام دين عمل واجتهاد"، وفي فقرة نورد منها ما يلي : "على أنّي أريد أن ألفت نظركم إلى نقص سأبذل كلّ ما في وسعي لتداركه قبل أن تصل مهمّتي إلى نهايتها، وأشير بهذا إلى المساواة بين الرّجل والمرأة، وهي مساواة متوفّرة في المدرسة وفي المعمل وفي النّشاط الفلاحيّ وحتّى في الشّرطة، لكنّها لم تتوفّر في الإرث حيث بقي حظّ الذّكر مثل حظّ الأنثيين. وهذا المبدأ له ما يبرّره عندما يكون الرّجل قوّاما على المرأة، وقد كانت المرأة بالفعل في مستوى اجتماعيّ لا يسمح بإقرار مساواة بينها وبين الرّجل. فقد كانت البنت تدفن حيّة وتعامل باحتقار، وها هي اليوم تقتحم ميدان العمل وقد تضطلع بشؤون أشقّائها الأصغر سنّا (...) فعلينا أن نتوخّى طريق الاجتهاد في تحليلنا لهذه المسألة وأن نبادر بتطوير أحكام الشّريعة بحسب ما يقتضيه تطوّر المجتمع، وقد سبق لنا أن حجّرنا تعدّد الزّوجات بالاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة. ومن حق الحكّام بوصفهم أمراء المؤمنين أن يطوّروا الأحكام بحسب تطوّر المجتمع، وتطوّر مفهوم العدل ونمط الحياة." (لطفي حجّي، بورقيبة والإسلام، تونس، 2004، ص233)
انطلق بورقيبة من وعيه الحقوقيّ بالمساواة، وهو رجل القانون المتخرّج من السّوربون، ورئيس الجمهوريّة ذات الدّستور المستوحى في جانب كبير منه من مبادئ حقوق الإنسان، وانطلق من تجربة النّساء اللاّتي أحطن به، ولكنّه أراد أن يتكلّم لغة يفهمها المسلمون ويقبلونها، كما فعل عندما اجتهد في إلغاء تعدّد الزّوجات، بل ذهب به الأمر إلى اعتبار نفسه جامعا بين السّلطتين الرّوحيّة والزّمنيّة، أي "أمير مؤمنين". حجّة السّلطة المتمثّلة في النّصّ الدّينيّ لم تسعفه، لأنّ آية المواريث لا يمكن الاجتهاد في تأويلها، وإن كان يمكن الاجتهاد في علّتها، والإقرار ببطلان حكمها لبطلان علّتها. وهذه الحجّة الممكنة أيضا لم يسعفه بها رجال الدّين من حوله، ولذلك نصّب نفسه سلطة دينيّة بدلا عن النّصّ الدّينيّ.
إلاّ أنّ السّياق الذي سمح له سنة 1956 بمنع تعدّد الزّوجات وفرض مجلّة الأحوال الشّخصيّة قد تغيّر. السّياق كان سياق هيمنة الآليّة الدّينيّة- الدّبلوماسيّة السّعوديّة، لاسيّما إثر الحصار النّفطيّ الذي خرجت منه المملكة السّعوديّة منتصرة سنة 1973، فتبادر للعرب لوهلة قصيرة أنّهم يمثّلون فعلا قوّة سياسيّة موحّدة. تحرّكت الآليّة الوهّابيّة السّعوديّة إذن بقوّتها النّفطيّة للضّغط على بورقيبة بسبب آرائه الواردة في هذا الخطاب، ومن بينها رأيه في المساواة في الميراث. يقول المفتي ابن باز في رسالة بعث بها إلى الوزير مدير الدّيوان الرّئاسيّ آنذاك، مفنّدا "شبهة" المساواة في الميراث، مذكّرا بمبدإ أفضليّة الرّجال على النّساء : "ثمّ يقال لهذا الرّجل وأمثاله إنّ مساواة المرأة والرّجل في كلّ شيء لا يقرّه شرع ولا عقل صحيح، لأنّ اللّه-سبحانه- قد فاوت بينهما، في الخلقة والعقل وفي أحكام كثيرة، وجعل الرّجل أفضل منها وقوّاما عليها لكونه يتحمّل من المشاقّ والأعمال ما لا تتحمّله المرأة-غالبا-، ولأنّ عقله أكمل من عقلها-غالبا-ولذلك جعله اللّه، سبحانه، قائما عليها حتّى يصونها... وجعل شهادة المرأتين تعادل شهادة الرّجل لكونه أكمل عقلا وحفظا منها..." (المرجع المذكور، ص217)
لم يكتف المفتي السّعوديّ بإبداء رأيه باعتباره رجل دين، بل اتّهم بورقيبة بالكفر الصّريح، وكانت رسالته إليه تحمل تهديدا واضحا : فهو مخيّر بين إعلان التّوبة النّصوح أو التّكذيب. وقد ذكر محمّد المصموديّ، وزير الخارجيّة في عهد بورقيبة أنّ الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود هو نفسه أرسل إلى بورقيبة هدّده فيها بالقطيعة في صورة إقراره المساواة في الميراث. ("حقائق"، عدد 954، 14 / 4 / 2004).
ألا يعدّ هذا تدخّلا في شؤون بلاد مستقلّة ذات سيادة؟ هل هو الصّراع التّقليديّ بين كونيّة الأمّة وكونيّة حقوق الإنسان؟ ألم يتصرّف ابن باز وكأنّه بابا من العصور الوسطى، بل كأنّه البابا الأوحد لكلّ المسلمين بمختلف مذاهبهم، وكأنّ مسلمي تونس الحديثة يجب أن يخضعوا إلى فقه ابن تيميّة وإلى الفكر الوهّابيّ المحرّم لكلّ اجتهاد، والنّافي لكلّ تطوّر ممكن؟
ولكنّ الملفّ لن يطوى هذه المرّة كما طوي في الثّلاثينات، أو لن يطوى لفترة طويلة، لأنّ الثّغرة انفتحت ولن تغلق، ولذلك مظاهر عدّة.
أهمّ هذه المظاهر أنّ مبدأي أفضليّة الرّجال على النّساء والقوامة، وهما المبدآن اللّذان ذكّر بهما المفتي السّعوديّ، في تجديفه الأصوليّّ ضدّ التّاريخ، أصبحا متعارضين مع واقع الحال في سائر البلدان العربيّة، وفي تونس خاصّة.
لم يعد لهذين المبدأين أساس اجتماعيّ اقتصاديّ، بما أنّ المرأة أصبحت منتجة، أو متاح لها لأن تكون منتجة، وأصبحت تنفق على نفسها وتساهم في الإنفاق على الأسرة، وهو ما تبطل معه حجّة الأفضليّة والقوامة، بما أنّ مبرّرهما المعلن عنه هو إنفاق الرّجل على المرأة. فالأساس التّيولوجيّ لأفضليّة الرّجال على النّساء قد انهار في واقع الحال، وإن ظلت ظلاله الرّمزيّة تضفي قداسة على بعض الأحكام المتعلّقة بالقوامة، منها عدم المساواة في الميراث في تونس، وتعدّد الزّوجات وغير ذلك من الأحكام في البلدان العربيّة الأخرى.
وحتّى المهر الذي ذهب إخوان الصّفاء إلى أنّه يعادل النّصف الذي يقتطع من نصيب النّساء من الميراث، فإنّه لم يعد معمولا به في تونس، بل إنّه في الصّيغة الحاليّة لعقد الزّواج الذي يعقده ضابط الحالة المدنيّة أو عدل الإشهاد لا تتجاوز قيمته دينارا تونسيّا (أقلّ من دولار أمريكيّ). وهذا "المهر" الرّمزيّ عادة ما يكون محلّ تندّر بين المحتفلين بالزّواج، وهناك بعض الأزواج يحتفظون به في ألبوم صور الأسرة، على أنّه ذكرى لحفل الزّواج، أو ذكرى بعيدة للعصر الذي كانت فيه النّساء تباع لأزواجهنّ.
وفي هذا الوضعيّة الجديدة التي خلقها خروج النّساء وعملهنّ، لم تعد المرأة ملكا للرّجل، بل أصبحت عمليّا شريكة للرّجل وقرينة له، حتّى وإن كانت لا تعمل خارج البيت، حتّى وإن كانت غير مجبرة في القوانين الحاليّة على الإنفاق على الأسرة. وحلّت سلطة الأبوين محلّ سلطة الأب، بزوال مبدإ طاعة الزّوجة زوجها وتعويضه في القانون التّونسيّ بـ"حسن المعاشرة".
كما لم يعد لهذين المبدأين أساس دستوريّ وقانونيّ وخاصّة في تونس التي تتّسم فيه القوانين بالطّابع الوضعيّ، ولا تعدّ الشّريعة فيها مصدرا للتّشريع. فالدّستور التّونسيّ ينصّ في فصله السّادس على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وينصّ في فصله الخامس على أنّ الجمهوريّة التّونسيّة "تضمن الحرّيّات الأساسيّة وحقوق الإنسان في كونيّتها وشموليّتها وتكاملها وترابطها..." وعلى أنّها "تضمن حرمة الفرد وحرّيّة المعتقد وتحمي القيام بالشّعائر الدّينيّة ما لم تخلّ بالأمن العامّ". ثمّ إنّ الاتّفاقيّات والمعاهدات الدّوليّة التي أمضتها تونس تتنافى مع اللاّمساواة في الميراث، وهذه الاتّفاقيّات لها سلطة أعلى من سلطة القوانين. ولذلك فقد أمكن للقضاء التّونسيّ أن يحكم في مسألة المواريث بما يخالف مجلّة الأحوال الشّخصيّة التي تعتمد مبدأ عدم التّوارث بين المسلم وغير المسلم. "فقد صرّحت المحاكم التّونسيّة بأنّ "عدم التّفرقة على أساس دينيّ مبدأ أساسيّ يقوم عليه النّظام القانونيّ التّونسيّ وبأنّ التّمييز لاعتبارات دينيّة يتعارض مع الفصل السّادس من الدّستور التّونسيّ بإحداث فئتين اثنتين من المواطنين التّونسيّين". (انظر تقرير "دفاعا عن المساواة في الإرث"، إصدار جمعيّة النّساء الدّيمقراطيّات، وجمعيّة النّساء التّونسيّات للبحث حول التّنمية").
وما يجعل الثّغرة غير قابلة لأن تغلق هذه المرّة، هو نوعيّة المطالبة بها، فهي لم تعد مقصورة على مُصلح أعزل كالطّاهر الحدّاد، أو مستبدّ مستنير محاصر كبورقيبة. أو لنقل إنّ عبء المطالبة انتقل عبر الأجيال، ولم يُرم به على قارعة الطّريق.. إنّ المطالبين بالمساواة في الميراث اليوم، إضافة إلى مثقّفين بارزين أمثال العفيف الأخضر ومحمّد الشّرفيّ، ولطيفة الأخضر، وإضافة إلى ألف مواطن أمضوا عريضة في الموضوع، هي بعض فعاليّات المجتمع المدنيّ، مثل الجمعيّتان المحرّرتان للتّقرير المذكور آنفا والرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان، وفرع منظّمة العفو الدّوليّة بتونس. تحوّل النّداء الفرديّ إذن إلى مطالبة جماعيّة وسياسيّة، وهو ما ينفي عن هذا المطلب طابع الحلم الفرديّ أو الفكرة النّخبويّة، ويتطلّب تدخّلا من المشرّع التّونسيّ واستجابة لصوت العدالة والعقل.
والمهمّ هو أنّ النّساء لأوّل مرّة في تاريخ هذه المطالبة، خرجن من صمتهنّ وحوّلن الأمنيات والحسرات إلى فعل سياسيّ يلعبن فيه دورا أساسيّا.
ولكنّنا لا يمكن أن نكتفي بمثل هذا التّفاؤل، أو لنقل إنّ التّفاؤل النّاتج عن الإيمان بضرورة المساواة وعن واقع انفتاح أفق حقوق الإنسان يجب أن يكون موقفا مختلفا عن التّبشيريّة السّاذجة. فهذه المطالبة بالمساواة في الميراث لم تتبنّها بعد دوائر صنع القرار، وهي تظلّ مهمّشة في وسائل الإعلام الرّسميّة. الثّغرة انفتحت ولكنّ محاولات غلقها متواصلة، وهي متواصلة في منابر الصّحافة التّونسيّة شبه الرّسميّة والمعارضة، وهي تستخدم نوعا من أساليب الدّفاع التي لا بدّ من الوقوف عندها.