للذّكر مثل حظّ الأنثيين (3) -كيف يمكن احتمال ما لا يحتمل-
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن
-
العدد: 1884 - 2007 / 4 / 13 - 11:54
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
للذّكر مثل حظّ الأنثيين (3)
"كيف يمكن احتمال ما لا يحتمل"
سبق أن بيّنّا انفتاح ثغرة المساواة بين الجنسين انفتاحا لا يمكن أن يطوى معه ملفّ المطالبة الحديثة بالمساواة في الميراث كما طوي في السّابق. ولكنّ هذا لا يعني أنّ محاولات سدّ الثّغرة ستزول، بل إنّ الرّاهن العربيّ، والثّقافة السّائدة يقومان عموما على محاولة سدّ كلّ ثغرة تنفتح، ولذلك تضخّم خطاب الإصلاح على نحو لافت للنّظر، وطرح الإعلاميّون والمثقّفون العرب إشكاليّات عجيبة لا أظنّ أنّ أمّة من أمم العالم طرحتها، من قبيل "هل يكون الإصلاح من الدّاخل أم الخارج؟" ووجدنا النّخب العربيّة تشكّك في ما طالبت طيلة سنوات طويلة لمجرّد أنّ الحكومة الأمريكيّة الحاليّة طالبت به، من ذلك إصلاح المنظومة التّربويّة نفسها.
يقول الفكاهيّ الجزائريّ فلاّق ما نحاول ترجمته إلى العربيّة كالتّالي : "إذا وقع الإنسان في جبّ، فإنّه عادة ما يخرج منه، أمّا نحن فنواصل الحفر".
يواصل الحفر من يكون مشدودا إلى الأصل، ويكون لعبة بيد دوافع الموت، فلا يرفع رأسه من الجبّ ليرى الأفق العريض فوقه، بل يبحث عن حتفه تحت باطن الأرض.
ورغم أنّ صورة الثّغرة مختلفة عن صورة الجبّ، فإنّني تذكّرت عبارة هذا الفكاهيّ الذي ما فتئ يُضحك ويبعث على الدّهشة وأنا أفكّر في مناهضة المساواة في الإرث. كان بودّي أن أحاكي فلاق لأقول باختصار: ما انفتحت ثغرة الأفق في حصن اللاّمساواة واللاّعدالة، إلاّ وسارع الجزائريّ والتّونسيّ والعربيّ المسلم الحاليّ عموما، إلى سدّها بركام من التّعلاّت والأوهام. ولكنّ الفكاهة شيء والتّحليل شيء آخر. الذي يريد أن يحلّل الظّواهر ويبحث عن البدائل لا يمكن له أن يقع في فخّ الإطلاق والفكر الماهويّ الذي يؤول بنا إلى نوع من العنصريّة ضدّ أنفسنا. هناك في عالمنا من يطمح إلى المساواة ويرى الثّغرة، وهناك من لا يريد أن يراها، وإن كان هؤلاء كثرا، والمجتمعات ليست كتلة واحدة، والذي لا يريد أن يرى الثّغرة اليوم قد يراها غدا، وأجيال الغد قد تكون غير أجيال الأمس، وعرب اليوم يمكن أن يرفعوا رؤوسهم من الجبّ، وأن يروا الأفق خارج الجبّ أو الثّغرة. وإلاّ فلا معنى للمطالبة وللكتابة، ولحبل الأمل الذي نتمسّك به.
فلندع التّعميم والنّبوءات جانبا، ولنتأمّل حجج المناهضين للمساواة في الميراث. إنّنا نذهب إلى أنّ هذه الحجج ليست من باب الحجج العقليّة التي تأخذ بعين الاعتبار تطوّر المجتمع من ناحية، ونموذج المساواة وحقوق الإنسان من ناحية أخرى، أي تأخذ بعين الاعتبار الحاضر والمستقبل المأمول، وهي تعيد قراءة الماضي لتتّخذ مسافة تأويليّة منه، وتبدع أوضاعا مختلفة عن أوضاعه دون أن تنساه وأن تتجنّب النّظر إليه. إنّها حجج تجعل نموذجها في الماضي ولا تريد أن ترى الحاضر وثغراته. ولذلك، فهي ليست حججا بقدر ما هي آليّات نفسيّة في الدّفاع، تسعفنا اللّغة العربيّة بكلمة تعبّر عنها أحسن تعبير هي "التّعوّذ": إنّها تستعيذ بالماضي من متطلّبات الحاضر ومن نموذج المستقبل. وأحيانا لا تعدو آليّات الدّفاع هذه أن تكون صراخا وتهديدا وشتائم، أي استعاذة من الشّيطان الرّجيم. وهي عموما نابعة من الخوف، والخوف وحده لا يمكن أن يؤسّس فكرا، بل التّجارب تبيّن أنّه كثيرا ما يكون قوّة دافعة إلى العنف والإسقاط أو إلى التّقوقع والخمول.
هناك أوّلا الحجّة التّكتيكيّة التي تنبني على منطق الأولويّات. يقال لنا إنّ المساواة في الميراث لم يحلّ زمانها لأنّها قد تثير الحساسيّات وقد تؤدّي إلى ردّة فعل تذهب بالمكاسب التي حقّقتها المرأة. وردّنا على هذه الحجّة أنّ كلّ ما بيّنّاه سابقا عن جرح الأفضليّة، وعن الضّيم الذي تشعر به النّساء، وعن تطوّر المجتمع وتزعزع نظلم القوامة، إضافة إلى أنّ الفقر في كلّ بلدان العالم يطال النّساء أكثر من الرّجال، إضافة إلى طبيعة المطالبة الحاليّة في تونس تحديدا، كلّ هذا يجعل رفع المظلمة ضروريّا. إنّ الوضع يتطلّب تدخّلا من السّلطات العامّة لإبطال قوانين غير دستوريّة، وغير متلائمة مع مبادئ حقوق الإنسان. فهذه الحجّة التّكتيكيّة تحقّق نصف شروط التّعوّذ، لأنّها هروب من مواجهة متطلّبات الحاضر ونموذج المستقبل.
ونجد ثانيا هذه الاستراتيجيّة الخطابيّة المتمثّلة في فرض خطوط حمراء، أو في إطلاق صيحة "ممنوع اللّمس" في مجال الفكر لا في مجال الأشياء الملموسة، وكأنّ العقائد والأفكار أوان زجاجيّة يمكن أن تنكسر بمجرّد التّفكير فيها. فمن هؤلاء المعتمدين لهذه الاستراتيجية من يعتبر المطالبة بالمساواة في الميراث "خروجا عن النص وتعدّيا على الأحكام الشرعية التي لا يجوز لأي كان الخوض فيها دون معرفة بأحكام الدين، زيادة على أنّ مثل هذه الدّعاوى غير واقعية وتجرح مشاعر المسلمين لانها تشكّك في عقائدهم." (جريدة الصّباح التّونسيّة 11 أوت 2006). فمن خصوصيّات هذه الاستراتيجية الخطابيّة أنّها لا تفتح الحوار بل تبادر بغلقه إبّان فتحه، لأنّ الكلام فيما يتعدّى الخطوط الحمراء، خروج عن المرافئ التي يركن إليه الفكر الوثوقيّ. ولأنّ سياسة وضع الخطوط الحمراء سياسة الضّعفاء فكريّا، فإنّ معتمديها كثيرا ما يلجؤون في استدلالهم إلى عكاّزة الشّتيمة والتّشويه، فيختزلون المطالبين بالحقّ في المساواة في صنف واحد هم النّساء المتطرّفات أو المترفات الطّامعات في ثروة آبائهنّ أو المستغربات أو المسترجلات، وقد يصبّون جام غضبهم على "الجمعيّة التّونسيّة للنّساء الدّيمقراطيّات"، وهي جمعيّة تتميّز في العالم العربيّ ببرنامجها الواضح ذي المرجعيّة المدنيّة الوضعيّة وتتميّز بكفاءة عضواتها العالية، فيعنّ لهم تسميتها بـ "جمعيّة النّساء الدّيمقراطيّين"، لمجرّد أنّها تطالب بالمساواة في الميراث وبرفع التّحفّظات على اتّفاقيّة مناهضة جميع أشكال التّمييز. وهذه أساليب عتيقة في "إلجام الخصم" لا تدلّ إلاّ على فقدان الحجّة لدى مستعمليها. فالذي يبصق في وجه خصمه هو الذي لا يملك قوّة كلمة الحقّ، فيعوضها بعنف الإذاية والرّجم.
ويطال "ممنوع اللّمس" الآيات القرآنيّة، وآية المواريث التي تعتبر "قطعيّة صريحة". ولكنّ هؤلاء الذين يتعلّلون بوجود نصوص صريحة، ينسون الكمّ الهائل من الآيات القرآنيّة التي أبطل العمل بها لبطلان حكمها نتيجة بطلان علّتها أو لعدم مسايرتها لتطوّرات العصر ومصالح النّاس، منها الآيات التي تتعلّق بالعبيد، وتلك التي تتعلّق بالعقوبات الجسديّة وقانون القصاص ومنع الرّبا.
وهو ما يدلّ على أنّ ما يراد منعه ليس الآيات القرآنيّة بل أمر آخر، هو آخر ما بقي من مظاهر تبجيل الرّجال، وتفضيلهم على النّساء، آخر ما يضمن بقاء ظلال الأسرة التّقليديّة التي يترأسها الرّجل.
والنّوع الثّالث من الحجج يقوم على آليّة الإنكار، وهي آليّة معقّدة تختلف عن الرّفض البسيط. فهي تتمثّل في رفض الاعتراف بمعطى يعتبره الرّافض سلبيّا مع إقراره ضمنيّا أو لاشعوريّا به، بحيث يبقى المعطى السّلبيّ حاضرا ومنفيّا، وينجرّ عن ذلك انشطار وتناقض وتلجلج. والإنكار في هذا الصّدد يتمثّل في رفض مبدإ أفضليّة الرّجال على النّساء والقول بأنّ الإسلام كرم المرأة وساواها بالرّجل، مع الدّفاع في الوقت نفسه عن ميزات الرّجل المنجرّة عن هذا المبدإ : "حيث ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الحق بالميراث من حيث المبدأ لكن عند التفاصيل يدخل في ذلك الكثير من الحقوق والواجبات والتوازنات التي يجب أن تؤخذ بالاعتبار..." (المرجع نفسه). "التّفاصيل" الذي يذكرها هذا المناهض للمساواة في الميراث ألا تلغي المساواة؟ هل من باب التّفاصيل أن ترث الابنة نصف أخيها الذّكر لمجرّد أنّها أنثى؟ هل مبدأ التّنصيف الذي يحكم المنزلة القانونيّة للمرأة كما بيّنّا هو من باب الفروع التي لا يؤبه بها؟ إنّ العنصر المرفوض لا يذكر، ولكنّه يظلّ محلّ اعتراف ضمنيّ، فيصاب الخطاب بانشطار يصبح فيه التّفكير متهافتا لأنّه يقول ما معناه إنّ الإسلام ساوى بين المرأة والرّجل وإن لم يساو بينهما.
ومن المهمّ أن نميّز بين هذا الموقف القائم على آليّة الإنكار وموقف المفتي السّعوديّ الذي اعتبر المساواة في الميراث كفرا صريحا دون أن ينكر أفضليّة الرّجال على النّساء ودون أن يخفيها. فهو يقول في مجادلته للرّئيس بورقيبة : "سبحانه قد جعل الرّجال قوّامين على النّساء بما فضّلهم اللّه به عليهنّ في الخلق والعقل-كما تقدّم-وبما ينفقونه من الأموال عليهنّ، كما قال : (الآية) فأطلق سبحانه في هذه الآية قيام الرّجال على النّساء. ولم يخصّ ذلك بوقت دون وقت. وهو سبحانه يعلم ما يكون في آخر الزّمان." (بورقيبة والإسلام، ص217)
نجد في هذا الموقف إطلاقا أصوليّا، وانغلاقا أسطوريّا للأوّل على الآخر، وللبدء على المصير، بحيث أنّ الماضي يكتنز الحاضر والمستقبل، والإرادة الإنسانيّة عديمة لأنّ عينا إلهيّة جبّارة رأت كلّ شيء وقدّرته منذ البداية. هذه الأصوليّة الأسطوريّة تختلف عن الأصوليّة الانتقائيّة التي تحيل إلى المنظومة التّيولوجيّة وتحيل في الوقت نفسه إلى النّموذج الدّيمقراطيّ، فتنكر ما يتعارض مع المنظومة الأخيرة، وتريد أن تبيّن أنّ الإسلام احتوى على المساواة والدّيمقراطيّة وإن كانت مقرّراته متناقضة معها. والأصوليّتان في نهاية المطاف تلتقيان في الحفاظ على اللاّمساواة، إلاّ أنّ الأولى لم تعد مقبولة عموما إلاّ في أدبيّات تنظيم القاعدة والإسلام الجهاديّ التّكفيريّ، والثّانية تحسب على الاعتدال والتّوسّط، وتمثّل برنامجا لحركات الإسلام السّياسيّ أو لبعض أنصار "النّسويّة" الإسلاميّة.
"كيف يمكن الدّفاع على ما لا يحتمل، وكيف يمكن احتمال ما لا يحتمل؟" هذا ما قاله رجل كان حاضرا في جلسة نقاش دارت مؤخّرا حول المساواة في الميراث. ما لا يحتمل أو ما لم يعد بالإمكان احتماله هو مبدأ التّنصيف في حقوق المرأة، ومبدأ أفضليّة الرّجال على النّساء في صيغته الصّريحة أو الإنكاريّة. إنّ ما يجعل "ما لايحتمل" محتملا، بل يجعله مصدرا للذّة من نوع خاصّ هو المازوشيّة وقريتنها السّاديّة. المازوشيّة التي تجعل ضحايا اللاّمساواة يتحمّلون هذه المظلمة، والسّاديّة التي تجعل المحظوظين يستمتعون بسلطتهم على ضحايا اللاّمساواة المستمتعين بخضوعهم. فأيّ مجتمع ديمقراطيّ يمكن أن يقوم على السّاديّة المازوشيّة بدل قيامه على علاقات المشاركة والمساواة؟ وأيّ رسائل متناقضة وباعثة على الجنون يمكن أن نوجّهها إلى أبنائنا، عندما نقول لهم إنّ المرأة مساوية للرّجل إلاّ أنّ الرّجل أفضل منها في بعض الأمور؟