الختان والحجاب - 1
رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن
-
العدد: 1746 - 2006 / 11 / 26 - 11:15
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
قبل أن أعود إلى توضيح العلاقة بين ختان البنات وحجاب النّساء، لما يتّسم به الموضوع من دقّة وغموض، سأعلّق على بعض آليّات الدّفاع التي يحتمي بها بعضهم أو يشهرونها كلّما تعلّق الأمر بهاتين الظّاهرتين، وهي آليّات تنبني في كثير من الأحيان على إنكار الواقع، أو على المبادرة إلى اتّهام الآخرين لتجنّب مساءلة الذّات، أو على تداخل المرجعيّات وعدم وضوحها :
1-قد تريد لخطابك أن يكون إنسانيّا كونيّا، وتحاول أن تتحدّث عن الأشكال المستمرّة والجديدة لاستعباد المرأة والإنسان في كلّ مكان من العالم، وخاصّة في البلدان العربيّة، فيحصرونك في المحلّيّة ويخرجون خطاب النّعرات الوطنيّة، ويقولون : وماذا عن تونس، وعن شواطئ العري في تونس؟ ويعتبر كلّ بلاده "أمّ الدّنيا"، ويدافع كلّ عن قبيلته وعرض قبيلته. وقد يقول لك أهل بلادك أيضا : لماذا تتحدّثين عن ختان البنات وهو لا يوجد عندنا؟ وكأنّ الفكر والالتزام يخضعان إلى نظام التّأشيرات وجوازات السّفر وأماكن الولادة.
في هذه الرّدود شيء من ضيق الأفق، وعدم القدرة على الالتزام بقضيّة الإنسان عامّة سواء كان امرأة أو رجلا، وعدم القدرة على تجاوز الشّوفينيّة والنّرجسيّات الجماعيّة في عصر فلسفة حقوق الإنسان، وعصر تضامن المجتمعات المدنيّة من أجل دعم حقوق الإنسان في كلّ مكان.
فليترك كلّ منّا شيطان عصبيّته في جيبه، إذا أردنا أن نتحاور ونتجادل دون مصادرة للنّوايا ودون أفكار مسبقة عن المجتمعات.
2-إذا تحدّثت عن جريمة ختان البنات المتواصلة إلى اليوم بدون تدخّل ناجع للدّول لحماية الأطفال الإناث أخرج لك بعضهم فزّاعة التّمويل الأجنبيّ، وذكر بعض المشاريع المناهضة للختان وذات التّمويل الأجنبيّ، وكأنّ مسألة التّمويل أهمّ من تشويه الأجساد وقصف الأعمار، أو كأنّ هذا التّشويه أمر لا يوجد إلاّ في فلم أو في رواية، ولا تفوق نسبته 90 بالمائة في بعض البلدان العربيّة، ولا يؤدّي إلى حالات موت، ولا يؤدّي إلى معاناة دائمة لدى النّساء المختونات، وإن كانت هذه المعاناة صامتة لأنّها تتّصل بالجنس وبالمتعة في مجتمعات حريصة على تأمين المتعة للرّجال أوّلا وقبل كلّ شيء.
فخطاب المحافظة على الثّوابت حريص على عدم "تشويه صورة المسلمين" لدى الغرب، وكأنّ تحسين الصّورة أهمّ من تحسين الواقع البائس، وكأنّ الغرب عين جبّارة وكتلة واحدة ليس لها من همّ سوى الشّماتة في العرب والمسلمين.
3-إذا تحدّثت عن ختان البنات في كتب التّراث الإسلاميّ، أنكر البعض ذلك وتصايحوا قائلين إنّه عادة فرعونيّة.
ختان البنات ليس عادة فرعونيّة وكفى، وإلاّ ما كان متواصلا إلى اليوم. إنّ من أسباب عدم اضمحلاله إلى اليوم وجود خطاب إسلاميّ يبرّره، متمثّل في الأحاديث النّبويّة التي تحضّ عليه، وفي الفتاوى القديمة والمعاصرة ذاتها. فالختان قد يكون عادة ذات أصل فرعونيّ، منتشرة في وادي النّيل، وهو فعلا غير مذكور في القرآن، ولكنّه في بعض البلدان تمّ ويتمّ باسم الإسلام. ألم يُـفْت شيخ من شيوخ مؤسّسة دينيّة معروفة بأنّ "الختان" واجب لا يجوز لأي بشر أن يمنعه، وأن رأي الأطباء في هذه المسألة لا يعتمد عليه أو يؤخذ به، لأن الطب علم والعلم متطور، وأن من يمنع الختان كمن يمنع الأذان ويحق للوالي محاربته»؟ ألم يفت الشّعراوي بوجوبه؟ هل هؤلاء يمثّلون الفراعنة ودين الفراعة؟ ما عدد المفتين بعدم جوازه اليوم ومن ينصت إليهم، وهل اتّخذت الهيئات الإسلاميّة المعنيّة بالدّفاع عن المسلمين موقفا واضحا منه؟
4-إذا تحدّثت عن الأسطورة فقد يواجهونك بالتّاريخ، لينكروا وجود الأسطورة.
إذا ذكرت أسطورة تطليق هاجر وطردها، قالوا لك إنّ هذه من الإسرائيليّات المدسوسة التي لم تثبت تاريخيّا، وفاتهم أنّ الأسطورة لا تخضع إلى نظام الإثبات التّاريخيّ، بل تخضع إلى ما يسمّى في العلوم الإنسانيّة الحديثة بـ"النّجاعة الرّمزيّة". لا شيء يثبت تاريخيّا الأساطير القديمة، ولكنّها كانت محلّ اعتقاد لدى الجميع أو لدى الأغلبيّة، ولذلك فقد كانت مؤثّرة ولا تزال. افتحوا كتب السّيرة النّبويّة وكتب التّفسير وكتب التّاريخ الإسلاميّ وكتب الأدب، قبل أن تبادر المؤسّسة الدّينيّة المشار إليها آنفا إلى "تطهيرها" اليائس ممّا تعدّه إسرائيليّات، فستجدون حديثا عن قصّة هاجر وغيرة سارّة منها وخروجها إلى الصّحراء صحبة طفلها إسماعيل. قد تكون هذه الأقاصيص من الإسرائيليّات، ولكن ألم يذكر القرآن نفسه قصّة سارّة وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق؟ ما الفاصل من وجهة النّظر هذه بين ما هو إسرائيليّات، وما هو توراتيّ وما هو قرآنيّ وما هو جهاز تأويليّ أحيط به طيلة عهود طويلة؟ المهمّ بالنّسبة إلينا، وبقطع النّظر عن التّحقيق الفيلولوجيّ والتّاريخيّ، وبقطع النّظر عن اختلاف الرّوايات، هو أنّ هذه الأساطير التّأسيسيّة آمن بها المسلمون القدامى، في حين كبتها المسلمون المحدثون ولا يريدون أن يعرفوا عنها شيئا. وفزعهم وارتعاشهم عند ذكرها، وهجومهم الشّرس على من يذكرها ليس إلاّ علامة من علامات عنف المكبوت عندما يثار فلا يقابل بالتّذكّر المحمود المخلّص بل يقابل بالإنكار والجحود.
5-عندما تقدّم حججا على ارتباط حجاب النّساء بالنّظام الباطرياركيّ القائم على تبادل النّساء، وعلى مراقبة أجسادهنّ وتحرّكاتهنّ في الفضاء العموميّ، فهناك من يخرج لك حجّة ذات طبيعة ديموقراطيّة حديثة هي حرّيّة اللّباس، ولكنّهم قد يخرجون لك في الأثناء أو في أماكن أخرى حجّة مختلفة ذات طبيعة دينيّة، قائلين إنّ الحجاب فريضة وركن من أركان الإسلام.
وما أراه هو أنّ على مناصري الحجاب أن يختاروا بين الأمرين. فإمّا أن يكون الحجاب لباسا، مجرّد لباس، أو أن يكون فريضة. إمّا أن يخضع إلى منطق الحرّيّات الفرديّة الحديثة، وإمّا أن يخضع إلى منطق دينيّ. أمّا إذا كان الحجاب لباسا، فإنّ شأنه شأن اللّباس الخليع للنّساء والسّروال القصير للرّجال والجينز، ويمكن لأيّ دولة أن تمنعه في مؤسّساتها التّعليميّة والعموميّة، من باب الحرص على حياد الإدارة وهيبتها، أو من باب اشتراط المؤسّسات لبعض المعايير لدى مستخدميها كفرض ربطة العنق، أو فرض لباس الحفلات في بعض الملاهي، أو فرض لباس معيّن للتّلاميذ. وليكفّ أنصار الحجاب آنذاك عن لعب دور الضّحيّة، وليكتفوا بالدّفاع عن حقّ ارتداء الحجاب خارج مؤسّسات الدّولة وخارج المؤسّسات التي لا تريده.
أمّا إذا كان الحجاب فريضة وركنا من أركان الإسلام، فهذه الحجّة تستوجب تكفير غير المحجّبات وغير القائلين بأنّ الحجاب فريضة، وهم كثيرون، ومنهم متفقّهون في الدّين ومصلحون دينيّون. فهل يتحمّل دعاة الحجاب-الفريضة عبء تكفيرهم لغير المحجّبات ولمن يقول بأنّ الحجاب ليس فريضة؟ ما حكم مبطلي الفرائض في الدّولة الإسلاميّة التي يعدون بها؟ كيف يمكن للفريضة أن تكون لباسا وشارة، وللرّكن أن يكون خاصّا بفئة من المسلمين؟ وإذا كانوا ينعتون أنفسهم بالدّيمقراطيّة، فهل يحقّ لهم التّهجّم على من لا يقول بأنّه ليس فريضة، وأن يتملّصوا من التّعدّديّة التي هي جوهر الدّيمقراطيّة؟ أليس من باب النّزاهة أن يتنصّلوا من الدّيمقراطيّة التي يدّعونها وأن يكشفوا لنا بوضوح طبيعة مشروعهم المجتمعيّ؟ أليس الدّفاع السّياسيّ عن الحجاب حجبا للقضايا السّياسيّة التي لا يجرؤ على طرقها حماة الإسلام هؤلاء؟ ألا يتّجر هؤلاء بأجساد النّساء على نحو خاصّ ليبنوا أمجادهم السّياسيّة وسط خصومات عجيبة تغيب فيها أحيانا القواعد الدّنيا لحرّيّة الفكر والتّعبير؟
لست من أنصار الحجاب لأسباب بيّنتها منذ سنين وسأعود إلى بيانها في علاقتها بالختان، ولكنّني، وهذا من باب التّوضيح أيضا، لست من أنصار انتزاع حجاب النّساء بالقوّة في الشّوارع، وأكتب أوّلا للنّساء عسى أن ينتزعن حجابهنّ بأنفسهنّ، بشوقهنّ التّلقائيّ إلى الحرّيّة لا بحدّ عصا الشّرطي.