في المنهج. دراسة نقدية في الفكر الماركسي ( الفصل الأول: منطق الفكر)


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 8181 - 2024 / 12 / 4 - 12:10
المحور: قضايا ثقافية     

1-ما بين الواقع والفكر
بين الفكر والوجود الواقعي مسافة تشغلها الفعالية الإنسانية. عبر هذه المسافة باتجاه الفكر أولاً ، ومن ثم باتجاه الواقع ثانياً، ثمة حركة دائمة تتسارع حيناً وتتباطأ أحياناً بعلاقة طردية لا تناسبية مع الميل نحو المحافظة في البناء الفوقي وبشكل خاص في حقل الممارسات السياسية(1). لذلك عندما يتخلف الفكر عن حركة الواقع لنبحث عن السبب لا في الفكر ذاته ولا في حقل إنتاج الفكر، بل فيما يشغل المسافة الفاصلة بينه وبين الواقع، أي في مجال الفعالية الاجتماعية وبشكل خاص في حقل تحقيقها السياسي. ومن البديهي أن السياسي هنا يجب فهمه بالمعنى الواسع كتعبير عن علاقات التسلط المتضمنة في مجموع النشاط الاجتماعي المنظم والموجه من حقل المشاريع الفكرية إلى الواقع بغرض إشباع الحاجات التي تقدم نفسها في صيغة مصالح.
لكن السياسي خلال نشاطه يقدم نفسه دائما" في إطار أيديولوجي (مشاريع فكرية) يشكل بدوره حداً ومعياراً ومرجعاً لنشاطاته في مختلف الميادين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – إن حركة مكونات البنية الاجتماعية المختلفة تتناسب طردا" مع حركة البناء التحتي في الاتجاه، غير أن وتائر هذه الحركة تختلف. فالميل نحو المحافظة في البناء الفوقي أكبر منه في البناء التحتي، وفي مجال السياسة أكبر منه في بقية المجالات الأخرى للبنية الاجتماعية. وإذا استمرت السلطة السياسية (أو أسلوب ممارستها) دون تغير، تزيد البني الأخرى من ضغطها عليها فترغمها على التغير، فتفتح بذلك فضاءً أوسعاً لتجديد نشاط البناء الاجتماعي كله. أما عندما تتمسك السلطة بموقعها، وبأسلوب إدارتها، تتحول عندئذ الأزمة في البنية الاجتماعية إلى أزمة عضوية يعاد إنتاجها باستمرار.
ومن الضروري أن الحد هنا يجب أن يفهم لا بمعنى العازل، الذي يحول دون تداخل الأيديولوجيات من خلال اشتراكها في الفضاء الأيديولوجي العام للمجتمع، بل كملتقى للتفاعل والتأثر مع البنى الأيديولوجية الأخرى في المجتمع. ومع أن معيار السياسة النهائي هو في نتائجها، إلا أن هذه النتائج تحتاج دائما" إلى مرجعية أيديولوجية لمعايرتها وتبريرها.
من جهة أخرى، الأيدولوجيا بصفتها وعياً اجتماعياً منظماً في مشاريع تأخذ بعد إنتاجها مساراً تفارقياً مع مسار حركة الواقع الذي يحتضن نتائج الفعالية السياسية على شكل وجودات اجتماعية جديدة. بمعنى أخر، الأفكار الإيديولوجية لا تتوافق مع الواقع إلا للحظة قصيرة لتسلك بعد ذلك حياة خاصة بها، من سماتها الرئيسية ميلها، بحكم العادة والتكرار، إلى المحافظة. ويتسارع هذا الميل نحو المحافظة عندما تتباطأ حركة انتقال المعلومات عن تغير الواقع، أو تضعف الحساسية بها، يعجز الفكر عن تقديم الصياغات النظرية الإيديولوجية المناسبة لتفعيل المتغيرات في الاتجاه المطلوب، فتضطرب حركة الواقع، وقد تتأزم إلى حد الانفجار، وقد تنفجر أحياناً (الثورات)، لعدم مناسبة الصياغات النظرية الإيديولوجية لما هو ناضج في الواقع للتغيير. نشدد على ذلك، لأن لكل شيء جديد في الوجود الاجتماعي دائماً، بداية فكرية (2) . وبالتالي عندما تنتقل هذه الصياغات الفكرية الإيديولوجية إلى مجال الفعالية الإنسانية (مجال النشاط والممارسة)، فإنها ترغمها على العمل وفق متطلبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 – يقول ماركس في كتابه (رأس المال) إن العنكبوت يقوم بعمليات تشبه عمليات الحائك، والنحلة في بنائها، تبز الكثير من المهندسين المعماريين. غير أن ما يميز أسوأ معماري عن أبرع نحلة، هو انه يقيم البنيان في خياله قبل أن يبنيه من الشمع. ففي ختام كل عملية عمل نحصل على نتيجة كانت موجودة سلفا، في مخيلة العامل عند بدء العملية ".( رأس المال، الكتاب الأول، مبحث العمل وعملية تزايد القيمة، ص190 ، باللغة البلغارية، صوفيا 1979 ). انظر أيضا (رأس المال، المجلد الأول ، الجزء الثاني " تحول النقد إلى رأسمال" ص 52 . ترجمة فالح عبد الجبار، د. غانم حمدون وآخرون. دار ابن خلدون. الطبعة الأولى)
أخرى غير متطلبات الجديد الناضج موضوعياً، أي القابل للتحقيق. ومع استمرار هذه الحالة، يزداد التوتر عند الحد الواصل بين الفعالية الإنسانية(الاجتماعية)، والواقع (الوسط الصناعي) فيتباطأ تطور قوى الإنتاج، وتضعف إمكانية إشباع الحاجات الاجتماعية. الخ. وفي النهاية يفقد البناء الاجتماعي توازنه الداخلي النسبي، بحيث يصبح لزاما إزالة الباعث على التوتر في البناء الاجتماعي، خصوصا من الحقل السياسي، والذي يتجلى على شكل مصالح اجتماعية ضيقة، أو وعي محدود لمصالح عامة.
مرة أخرى نشدد على أن وضعية (مصالح) السياسي وما يمثله من أشكال متنوعة للتسلط، هي مصدر جمود الفكر عموما، والأيدولوجيا منه بشكل خاص. مع ذلك نحن هنا سوف نعالج الفكر الأيديولوجي كعامل خارجي يتحكم بالعامل السياسي ويرغمه على الاشتغال بطريقة محددة.
من الناحية الموضوعية يولد الإنسان في ظروف وشروط لم يخلقها، وليس له خيار تجاهها، ورثها عن أسلافه، ومنها بطبيعة الحال الفضاء الثقافي العام للمجتمع، الذي ينتمي إليه بما فيه من أفكار وأيدولوجيات وعادات وتقاليد واستعدادات. الخ. وثمة في إطار الفضاء الثقافي العام للمجتمع، فضاءات ثقافية عديدة تشكل مكونات بنيوية له وهي تعبر عن مختلف أشكال الوجود الاجتماعي للإنسان، تحيط بها، تحكم صيرورتها بدرجات مختلفة. من هنا كان النظر إلى الفكر والأيدولوجيا كعوامل خارجية بالنسبة للإنسان، له ما يبرره موضوعيا، وهو من الناحية المنهجية أمر مشروع يساعد على دراستهما كميادين خاصة للمعرفة.
بطبيعة الحال تضيف الأجيال المتعاقبة إلى هذا الفضاء الثقافي العام، والى مكوناته، منجزاتها الخاصة، فيحصل بالتالي في كل زمن تطوري نوع من التكوين الجديد، يتمفصل فيه التراثي مع المحدث بعلاقات تناسبية معينة، يتوقف على طبيعتها، وخصوصا قابليتها للانكسار والتجاوز، تسريع أو لجم الحركة الاجتماعية على مسار التطور العام. وإن الكشف عن وضعية هذه العلاقة ليس أمرا سهلا، بل ليس متاحا دائما، نظرا لان التراثي والمحدث ليسا مشخصين، خصوصا في ظروف التخلف والتبعية. إنهما، بالأحرى، موجودان على شكل مائع، ينتشر في كامل النسيج الاجتماعي. أضف إلى ذلك فان المصالح الفئوية، والطبقية، والمصالح الخارجية، تلقي ظلالا كثيفة عليهما، بحث يبدوان بأكثر من شكل للوجود، يخفي بعضه بعضا، منه ما هو رجعي يلجم الحركة التطورية العامة، ومنه ما هو تقدمي يدفع باتجاه التجاوز، من خلال توافقه مع ضرورات التطور المحددة تاريخيا.
2- مكونات الوعي الاجتماعي .
يتكون الوعي الاجتماعي من ثلاث مستويات متداخلة هي:
المستوى الأول: يشغل هذا المستوى التكوين النفسي الذي يتكون من مجموع الاستعدادات، والقابليات الخاصة، التي تؤسس لاتخاذ المواقف المختلفة. هذه الاستعدادات والقابليات لدى الإنسان، تتكون تاريخيا في سياق الممارسة، وهي تختلف عن الاستعدادات والقابليات الوراثية، إنها تجمع لخبرات الممارسة. غير إن بعض هذه الخبرات قد يكون مترسبا في قاع النفس (في اللاوعي) دون أن يندثر، في حين أن بعضها الأخر يقف مباشرة خلف السلوك اليومي يحفزه أو يلجمه.
إن العلوم المتخصصة في مجال دراسة النفس أصبحت من التنوع بحيث لم يبق مجال من مجالات الحياة الاجتماعية، الجماعية أو الفردية، إلا وله علم متخصص بنفسيته. وإن اكتشافات هذه العلوم بدأت تقدم خدمات ممتازة للمجالات الأخرى، الاقتصادية، أو السياسية، أو الثقافية، أو الاجتماعية. الخ. ومن الناحية المنهجية، فقد دخلت المفاهيم الخاصة بالعلوم النفسية مثل الشعور واللاشعور، الوعي واللاوعي، المكبوت، المسكوت عنه.. الخ المجالات العلمية الأخرى، فأفادت في تكوين فهم أعمق للعديد من الظواهر الاجتماعية.
بطبيعة الحال لا بد من الحذر المنهجي عند استخدام بعض مفاهيم علم النفس في دراسة الظواهر السياسية، أو الاقتصادية، أو الثقافية.. الخ. ومن باب الحيطة نؤكد أنه لا يمكن أن يظهر أي راسب في اللاوعي (قاع النفس) ويعاود اشتغاله من جديد، إلا إذا كان ثمة ما يحفزه على ذلك من دوافع اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية، قد تتكثف على شكل أزمات، أو اختناقات، في حركة القوى الفاعلة في الواقع أو في مجرى التطور العام(1).
المستوى الثاني: تشغل هذا المستوى الأيدولوجيا، التي تتكون بدورها من مجموع الأفكار المنظمة التي تصوغ علاقات الوجود الاجتماعي، أو تقدم صياغات لعلاقات اجتماعية محتملة (مشروع)، وتوجه سلوك مختلف الفئات الاجتماعية.
لكي توجد علاقة اجتماعية ما، لا بد لها أولا من المرور عبر الوعي، الذي يقدمها، في البداية، على شكل مشروع، يسعى الفاعل الاجتماعي إلى تحقيقه. هذه قاعدة عامة للحراك الاجتماعي سوف نفصل القول فيها لاحقا.
المستوى الثالث، ويشغله العلم الذي يشمل بدوره مجموع المعارف المتعلقة بموضوعاته المختلفة، معروضة على شكل مفاهيم ومقولات وقوانين ونظريات. يتوصل العلم إلى معارفه عادة عن طريق البحث والاستقصاء المنهجي المنظم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-" قد يكون من السهل جداً بالطبع صنع تاريخ العالم لو كان النضال لا يقوم إلا ضمن ظروف تؤدي حتما إلى النجاح. ومن جهة أخرى قد يتسم التاريخ بطابع صوفي جداً لو كانت " الصدف " لا تضطلع بأي دور. فان هذه الصدف تدخل هي ذاتها بالطبع كجزء لا يتجزأ في المجرى العام للتطور وتوازنها صدف أخرى. ولكن التسارع والتباطؤ رهن بمقدار كبير بهذه " الصدف " التي ترد بينها أيضا " صدفة " مثل طبع الناس الذين يقفون في البدء على رأس الحركة" /رسالة من ماركس إلى لودفيغ كوغلمان في هانوفر، مختارات ماركس إنجليز، الجزء الرابع ،ص 152 ، دار التقدم ، موسكو ، بلا تاريخ نشر /
يشكل كل من المستويات الثلاث السابقة الذكر تكوينا بنيويا يتمايز داخليا بحسب المصالح الاجتماعية الطبقية والفئوية في كل مرحلة تاريخية، تتفاعل مكوناته (بناه) فيما بينها، وتتبادل التأثير والتأثر. فيما يخص العلوم على سبيل المثال، فان الأثر الاجتماعي يظهر فيها بحسب اقترابها، أو ابتعادها عن المصالح الاجتماعية الطبقية، أو الفئوية. فالعلوم الطبيعية مثلا أقل تأثرا بالتمايزات الاجتماعية، معبرا عنها على شكل مصالح، مقارنة مع العلوم الاجتماعية البحتة.
في هذه الدراسة، سوف يتركز اهتمامنا على الأيدولوجيا، وبالتحديد على النظرية الأيديولوجية، بسبب دورها الكبير في التطور الاجتماعي. فالأيدولوجيا، باعتبارها وثيقة الصلة بمصالح الطبقات، والفئات الاجتماعية، تؤثر بقوة، وفعالية، في النفسية الاجتماعية الجماعية والفردية، تعمل على تكيفها، بحيث تخدم في النهاية قوى السيطرة المختلفة، الطبقية أو الفئوية أو الحزبية أو السياسية أو الثقافية.. الخ (2). تؤثر الأيدولوجيا، أيضا، في العلوم الاجتماعية، تحفزها على التطور أو تعيقها.
ومما يزيد في فعالية النظريات الأيديولوجية، تطور وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، التي تعمل على صوغ الوعي الاجتماعي، الجماعي أو الفردي، الطبقي أو الفئوي، وفق منطلقات أو اعتبارات معينة تعبر عن مصالح محددة. يجري الحديث الآن عن إمكانية صوغ العقول مسبقا وفق متطلبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-الطوباويات الدينية على اختلافها تقارب كثيرا بين معتنقيها من ناحية التكوين النفسي، فتميزهم باستعدادات معينة للتفاعل مع الغير، الخارج، وتهيؤهم لتقبل علاقات السيطرة بينهم وبين القائمين على سلك الكهنوت، على أنها طبيعية تماما. ينطبق ذلك على جميع الأيديولوجيات الكبيرة منها والصغيرة بدرجات متفاوتة . الماركسيون مثلا أو القوميون يشتركون بشكل عام باستعدادات وقابليات معينة لاتخاذ المواقف المتشابهة تجاه مختلف القضايا الاجتماعية. من هذه الناحية فان الأيديولوجيات الكبيرة تؤثر في العلوم الاجتماعية فتحدد لها اتجاهها ونطاق اهتماماتها وطرق معالجاتها إلى هذه الدرجة أو تلك.
مشروع أيديولوجي معين.
إن تطور وسائل الاتصال والإعلام سرع كثيرا من عمليات الاندماج الثقافي على الصعيد العالمي، واكسب الأيديولوجيات طابعا كونيا وفعالية متزايدة.
لقد انتشر في الثمانينات من القرن العشرين، قول يفيد بموت الأيديولوجيات، وارتفع الصخب في بداية التسعينات منه عن جملة من العمليات التي تجري على الصعيد العالمي قيل أنها بطبيعتها " تنفي" الأيدولوجيا، مثل عمليات التقارب والدمج ذات الطابع العالمي، التي هي نوع من عولمة العالم، ولا يخفى ما في ذلك من إيهام. فإذا كانت ظاهرة العولمة ملموسة، ولها انتظامها القانوني، باعتبارها النتيجة الطبيعية لتطور الرأسمالية، ولها بلا شك أبعادها التقدمية من المنظار التاريخي، فلا يعني ذلك أبدا أن الأيديولوجيات قد ماتت وانحجزت بالمعنى التاريخي. ثم أليس التفكير العولمي هو نوع من الأيدولوجيا؟
باختصار الأيدولوجيا ضرورية في مختلف الأحوال والظروف، ومهما انهارت أنظمة، أو ولدت أخرى، تبقى الأيدولوجيا ضرورية في البداية للتحضير للتغيرات وتسويغها، وهي ضرورية، في النهاية أيضا، للدفاع عن الواقع القائم وتبريره. وإذا كان القائلون بموت الأيدولوجيا، يعززون مقولتهم بالاستشهاد بالتغيرات التي حصلت على الصعيد العالمي في بداية التسعينات من القرن العشرين، وأدت إلى انهيار الانتظام العالمي السابق، فإن ما حصل لا يبرهن أبدا على موت الإيديولوجيات، بل على حيويتها وتجددها واستنفارها أيضاً.
في هذه الدراسة التي بين أيدينا سوف نكرس اهتمامنا لتقديم قراءة نقدية مختلفة للمسائل المنهجية والنظرية في الفكر الماركسي، خصوصا لبعض مفاهيمه ومقولاته المفتاحية. إنها محاولة للتجديد والتطوير فان أخطأت فتكفينا حسنة واحدة، وإن أصابت، فالحسنتين أُهديهما لكل من يساهم في وحدة وازدهار بلدنا وتقدمه.