في المنهج-دراسة نقدية في الفكر الماركسي( الفصل الثالث)


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 8204 - 2024 / 12 / 27 - 10:01
المحور: قضايا ثقافية     

الفصل الثالث
المادية الجدلية وسؤالها الأول

1- ما بين التحريفية والجمود.
إن البحث في النظرية الماركسية على ضوء طريقة التفكير التي نفكر بها (المنهج)، بحث معقد وإشكالي. تعقيد البحث ناجم عن تشعبه، وتعدد مجالاته، أما الإشكالية فيه، فهي تصدر عن وضعيتين: الأولى، كثرة الأسئلة التي تواجه الباحث ولا يجد لها جواباً، أما الثانية فتتمثل في الحساسية السياسية، والنفسية التي تولدت عن تقديس المبادئ النظرية الماركسية، وبعض الرؤى التي تزعم الانتساب إليها، و " الخوف " من الوقوع في مطب التحريفية، وبالتالي تقديم خدمات نظرية، وسياسية، مجانية للعدو الطبقي.
لقد كانت صفة " التحريفية " تستخدم على نطاق واسع كفزّاعة لكبح أي روح نقدية في مجال الممارسة النظرية داخل الاتجاه الماركسي الرسمي، أو غير الرسمي. واكتسبت هذه الفزّاعة للأسف فعالية كبيرة لأنها كانت تصدر عن/ أو تستند إلى وجاهة " الدولة الكبرى"، أو" الشقيق الأكبر"، إلى أخر هذه التسميات المعروفة .
من حيث المبدأ ليس للفكر دولة، ولا تقاس علميته بحجم الدول، فإما أن يكون فكرا، أو لا يكون، فليس هناك نصف فكر. مع ذلك بينت التجربة عكس ذلك، وأخذ الفكر يبرهن على صحته، ومدى انتشاره بالقياس إلى الدول التي تتبناه، أو يصدر عنها. لقد كانت الأحزاب الشيوعية تتلقف ما يصدر عن الاتحاد السوفييتي السابق من رؤى نظرية، أو مواقف سياسية، وتتبناها دون تبصر. بهذا الشكل نشأت بين المركز" الاشتراكي "، والأحزاب الشيوعية، والعديد من فصائل حركة التحرر الوطني العالمية، علاقات من التبعية لا تختلف من حيث الجوهر عن علاقات التبعية بين المراكز الرأسمالية والأطراف.
لم يكن غريبا ولا مستغربا أن" النضال" ضد التحريفية كان يخفي وراءه عمليا ظاهرة الجمود العقائدي، التي هي أشد وأفدح ضررا من التحريفية ذاتها. فالجمود العقائدي يعني ببساطة الانعزال عن مجرى الحياة الواقعية، والاكتفاء باجترار النص كوسيلة تفسيرية، وهذا يخالف جوهر الماركسية باعتبارها مذهبا نقديا يبحث في التغير والتطور الدائمين.
بطبيعة الحال لا الخوف من التحريفية، ولا الجمود العقائدي، كانا قادرين على إيقاف نبضات الزمن، فظهرت في صفوف الحركة الشيوعية الرسمية، وفي خارجها نخبة من ذوي التفكير الحر، خاضت نضالات حقيقية ضد ابتذال الماركسية كمنهج ونظرية، وضد محاولات عزلها عن مجرى الحياة الواقعية. غير أن أغلب المحاولات لإعادة قراءة الماركسية في ضوء مستجدات الحياة كانت تتحطم من جراء تدخلات " الشقيق الأكبر" الذي احتكر لفترة طويلة معيار الحقيقة. وفي بعض الحالات القليلة التي نجحت فيها بعض المحاولات، يكون الأوان قد فات ودفعت الحركة التقدمية العامة جراء ذلك ثمنا باهظا على شكل انشقاقات في صفوف مناضليها أولا، وعلى شكل انكفاء جماهيري عنها ثانيا (1).
ومما يثير الدهشة حقا أن دعاة النضال ضد التحريفية والجمود العقائدي الذين نشطوا في العقود الأخيرة وبشكل خاص بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي زعموا أن نضالهم يتوخى المحافظة على نقاوة الماركسية- اللينينية، وهذا يكافئ من الناحية العملية استمرار المركز كمعيار للحقيقة لكن تحت يافطة جديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-لقد وقف العديد من القادة المرموقين في صفوف الحركة الشيوعية ضد الجمود العقائدي مثل ديمتروف وتولياتي وتلمان وماوتسي تونغ وغيرهم كثير. بل وقبل ذلك كان كاو تسكي وبرنشتاين مرتدين، وكانت روزا لكسمبورغ تحريفية والمنشفيك خونة وتروتسكي متآمرا..الخ./ انظر مجلة " قضايا السلم والاشتراكية " العدد 1 (1989) ص 87 . ومجلة" الوقت" العدد الثامن ، آب (1989) ص 200 /
إن الزعم بنقاوة الماركسية منهجا ونظرية لا يقل فسادا عن التحريفية والجمود العقائدي، وقد عانت الحركة الشيوعية الرسمية من جراء ذلك أشد أنواع الانعزال خطورة، وأكثر أشكال الانقسام مأساوية (1) .
إن القول بنقاوة الفكر قول خاطئ علميا، وضار سياسيا. الفكر الماركسي مثله مثل أي فكر، هو فضاء عام أو بنية من تيارات عديدة متناقضة داخليا. أضف إلى ذلك فان التفاعل المستمر مع البنى الفكرية الأخرى في إطار الفضاء الفكري العام للمجتمع، وتبادل التأثير والتأثر معها يلقي بظلاله عليه فينوعه ويغيره.
إن رفض النقاوة في الفكر يمثل من الناحية النظرية رفضا للرومانسية والتأملية في الماركسية، ومن الناحية العملية يمثل رفضا لإمكانية الزعم بوجود مرجعية معينة تعاير" النقاوة "، وتسهر عليها. وان المحصلة من الحالتين تشجيع للحوار، وتضافر للجهود من أجل اكتشاف الحقائق الجديدة وإغناء النظرية وتفعيل الممارسة السياسية. ولقد عانى الحقل السياسي أكثر من غيره من التأزم، والتشرزم الناجمين عن الزعم بامتلاك الحقائق كاملة. لذلك فان رفض النقاوة في الفكر عموما، والفكر السياسي على وجه الخصوص، هو دعوة إلى المرونة المبدئية، والى الحوار، والعمل المشترك. باختصار إن التحريفية، والجمود العقائدي، والقول بنقاوة الفكر، جميعها أمراض تتطلب مقاومتها في الممارسة، أولا، وفي الفكر ثانيا. ولقد قيل قديما من اجتهد فأخطأ فله حسنة، ومن اجتهد فأصاب فله حسنتين، فهل من معتبر!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 _ " وبدعوى" الدفاع عن نقاوة " النظرية جرى الانزلاق إلى الجمود العقائدي ، وصوغ نمط من التفكير يفترض تكييف الوقائع مع القوالب الجاهزة وإفراغ المثل العليا والمبادئ من كنهها واغتصاب الواقع " / كاريه اندريه نيلسن ( رئيس الحزب الشيوعي النرويجي)،" من أجل صراع المتناقضات"). مجلة "الوقت" ، العدد 8 (1989) ص 8 / . وكالعادة لا يرضى الشيوعيون العرب بأقل من اعتبار مهمة صيانة نقاوة الماركسية اللينينية مهمتهم الخاصة ويضع هذا الصراع الشيوعيين(العرب) أمام مهمة صيانة نقاوة الماركسية – اللينينية " / النهج العدد 1 آب (1983 ) / .
2- مفهوم "المادة":
يلتبس الفكر الفلسفي الماركسي بشقيه المادي الجدلي، والمادي التاريخي، لدى المفكرين المدرسيين، بالمنهج الماركسي، ويعتبران في أوساط جماهير الفكر الماركسي بصورة عامة شيئا واحداً. وليس هذا الالتباس بلا أساس، فالفلسفة الماركسية تعرض بشكل متماسك منطقيا، أعم المفاهيم، والمقولات والقوانين التي تشكل بدورها الأدوات المفهومية للتفكير الماركسي. لكن ما يجري تناسيه هو أن حمولتها المعرفية لها قيمة تاريخية وحسب.
لقد بدأ مفهوم "المادة" رحلته منذ عصر السومريين، فالبابليين، فالمصرين مرورا بالعصر اليوناني القديم، وصولاً حتى الوقت الراهن، مغيرا مضمونه باستمرار مع كل توسع في حدود معارفنا عن الوجود العام. بهذا المعنى فإن الدلالة الاصطلاحية لهذا المفهوم كما قدمتها الماركسية ليست نهائية. وكنا أشرنا أثناء قراءتنا للمنهج الماركسي أن تعريف المادة بأنها" الوجود الموضوعي للأشياء والظواهر بغض النظر عن وعي الإنسان وإرادته" له قيمة منهجية فقط، فهو لا يفسر المادة فلسفيا، مع أن المقابلة بين "المادة" و "الفكر" بالمعنى المعرفي لها ما يبررها تاريخيا. لقد أخذ الإنسان في سياق تطوره العام، يقارن إمكانية التفكير عنده، وتحويل أفكاره إلى أشياء وظواهر مع ما يحيط به من أشياء وظواهر الوجود العام، فكانت هذه الثنائية المعروفة بين " المادة" و " الفكر " التي قام على أساسها السؤال الشهير أيهما وجد أولاً: المادة أم الفكر؟
لنفترض أن العلاقة " مادة – فكر " صحيحة بالمعنى الوجودي، عندئذ لا بد من قراءتها على الشكل التالي: بما أن المادة تدخل في علاقة ضرورية مع الفكر، فإنها تشترط وجوده، كما أن الفكر بدوره يشترط وجودها. غير أن المادة بالمعنى الفلسفي لا تدخل في علاقة ضرورية مع الفكر، أي أن وجودها لا يتوقف على وجود الفكر، في حين أن الفكر يدخل في علاقة ضرورية مع المادة، سواء بالمعنى الفلسفي، أم بالمعنى المميز، أي للدلالة على شكل محدد للمادة، يتمثل في الوجود الاجتماعي. نستنتج من ذلك أن مقابلة المادة بدلالتها الفلسفية مع الفكر تنطوي على مغالطة نظرية.
عندما أجابت الفلسفة الماركسية عن السؤال أيهما وجد أولا المادة أم الفكر؟ لم تقدم أكثر من حل منهجي لأوالية التفكير الإنساني. فالعلاقة بين المادة والفكر غير موجودة بالمعنى الفلسفي العام، الموجود فعلا هو علاقة بين طريقتين في التفكير، الأولى، تقدم المادة على الفكر من حيث الوجود، والثانية، تقدم الفكر على المادة. ليس للمادة بالمعنى الفلسفي من مقابل، فهي تدل على الوجود العام. على مستوى أدنى من ذلك يمكن أن تتقابل المادة المميزة، ومن بينها الفكر، والوجود الاجتماعي، مع أشكال أخرى مميزة لها(1) .
إن تعريف المادة بأنها الوجود الموضوعي بغض النظر عن وعي الإنسان وإرادته، أو كما عرفها لينين بأنها الواقع الموضوعي المستقل عن الروح، ولا تحتاج إلى روح لكي توجد، هو تعريف منهجي يفيد في تحديد موقع الإنسان كذات مفكرة من الموضوعات الأخرى للوجود العام التي يدخل معها الإنسان في علاقة معرفية. لذلك، ومن أجل تحديد المستوى الذي يتحرك فيه المصطلح، لا بد من التفريق بين أشكال وجود المادة كأشياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-(( لقد ميز لينين بين مسألتين يجري الخلط بينهما باستمرار. فهناك مسألة ما هي المادة؟ وتجيب المادية عن هذا السؤال بأنها الواقع الموضوعي المستقل عن الروح والتي لا تحتاج إلى روح لكي توجد. وهناك مسألة كيف هي المادة؟ وتجيب المادية عن هذا السؤال: هذه هي مهمة العلم بأن يعطي عن المادة تمثيلا تقريبيا متزايد الكمال على الدوام )) / روجيه غار ودي ( النظرية المادية في المعرفة) ، ترجمة إبراهيم عريط، دار دمشق ص 23 /
القول الأصح هو أن المادة هي الوجود الموضوعي أو هي الوجود العام بدون أية اشتراطات، حتى ولو جاءت من باب النفي كما في تعريف لينين للمادة جوابا على سؤال ما هي المادة؟
ولا نوافق على قول لينين في مؤلفه (المادية والمذهب التجريبي النقدي ص 209 " أن يكون الفكر والمادة واقعين هذا صحيح. غير أن يوصف الفكر بأنه مادي معناه الانزلاق نحو الخلط بين المادية والمثالية ".
وظواهر مميزة (كمركبات علاقات أو قوى)، وبين وجودها بالمعنى العام (كعلاقة عامة).
إن المفاهيم التي تشير إلى المادة المميزة (الفيزيائية) تتحرك في مستوى التحليل الفيزيائي للمادة باعتبارها موضوعات للتجربة. أما مفهوم " المادة " بالمعنى العام، فانه يدل على وجود المادة مجردة من أشكالها المميزة، وهو في هذه الحالة أداة من أدوات التحليل النظري. وفي هذه الحالة أيضا يتحدد مضمونه الاصطلاحي كمركب علاقات (قوى) بين أعم الأشكال المادية تجريدا، أي بين الزمان والمكان والحركة (1) .
إن مركب علاقات الزمان والمكان والحركة بالمعنى الفيزيائي، يشير إلى الأشكال المميزة للمادة، كأشياء وظواهر، أي كمكونات للوجود العام. أما بالمعنى الفلسفي فإنه يشير إلى المادة المجردة، إلى الوجود العام مجردا من مكوناته. في إطار هذا الفهم لمفهوم " المادة "، وعند هذا المستوى من التحليل نستطيع أن نخطو خطوة جديدة باتجاه تعديل صيغة السؤال الأول في الفلسفة كما تطرحه الماركسية المدرسية، فالمادة بالمعنى الفلسفي لا مقابل لها، فليس ثمة وجود خارج الزمان والمكان والحركة، فكل ما هو موجود هو وجود مادي مميز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يحسب منير العاني أن الأشكال الرئيسية للمادة لا تقتصر على الزمان والمكان والحركة، بل تشمل التعاكس أيضا. وهو يستبدل الحركة بالتغي. وهذه الأشكال المادية الرئيسية هي أشكال مميزة أيضا، فحسب رأيه ليس للمادة بالمعنى الفلسفي أشكال رئيسية لوجودها.
في الحقيقة ثمة مفهوم عام للمادة يضمر مركب علاقات بين الزمان والمكان والحركة. وهذا المفهوم في دلالته الاصطلاحية يشبه أي مفهوم أخر. مثلا مفهوم " الأسرة " يشير مباشرة إلى أب وأم وأولاد، أو مفهوم " الشجرة " فانه يشير إلى الجذور والجزع والأغصان والأوراق. وهكذا بالنسبة إلى جميع المسميات المفهومية اللغوية في دلالتها الاصطلاحية. لذلك عندا نقول " مادة " في دلالتها العامة يجب أن يقفز إلى الذهن مباشرة الزمان والمكان والحركة في وحدتها، فالمادة بالمعنى الفلسفي ليست أي منها لوحده، بل جميعها في ترابطها وتعاكسها المتبادل. يبقى أن نشير إلى أن اطروحات منير العاني تفتح بابا للاجتهاد/ انظر مجلة " النهج "، العدد 18 و21 ( 1988 ) /
إن السؤال حول أيهما وجد أولا: " المادة أم الفكر"؟ يمكن أن يطرح على مستوى أدنى من التحليل، على مستوى الوجود الاجتماعي. وبطبيعة الحال لن نتوقع " في هذه الحالة أيضا " جوابا واحدا، ومن غير الممكن أن ينتهي بضربة واحدة، التصور القائم والمنتشر حول وجود ما، خارج الزمان والمكان والحركة، الذي يضمره السؤال في توجهه الفلسفي العام. غير أن السؤال (هل من وجود خارج الزمان والمكان والحركة؟) الذي يمكن طرحه على مستوى النقاش الفلسفي النظري العام، أو السؤال: أيهما وجد أولا المادة أم الفكر؟ الذي يمكن طرحه على المستوى الاجتماعي، فإنهما يأخذان الصيغة الصحيحة، ويرسمان حدا، بين ما هو علمي معرفي، وبين ما هو أيديولوجي.
إن السؤال الأول في الفلسفة الماركسية: "المادة أولاً أم الفكر؟ الذي عدل ليأخذ الصيغة الجديدة: هل من وجود خارج الزمان والمكان والحركة؟ أصبح بلا معنى من وجهة نظر المذاهب المادية، ويمكن تجاوزه تماما. لكنه يكتسب في صيغته الثانية المقترحة مضمونا معرفيا في مواجهة المذاهب الفلسفية المثالية. غير إننا في هذه الحالة نفتح الباب أمام تساؤل من نوع جديد وهو: ألا نعزل الفلسفة بذلك عن مصالح الناس؟ وهل يمكن تخليص الفلسفة من طابعها الطبقي؟
من حيث المبدأ جميع العلوم تتحرك في إطار مصالح الناس الطبقية، وان الفلسفة من أكثر العلوم التصاقا بهذه المصالح، فهي تساهم في تكوين نظرات الناس، وقيمهم، واستعداداتهم ..الخ. مع ذلك يمكن، بل مطلوب الارتقاء بالفلسفة إلى مستوى العلوم الطبيعية لتعمم منجزاتها. غير أنه في هذه الحالة، لا بد من التفريق بين الفلسفة كعلم، وبين الوظيفة الإيديولوجية للفلسفة. لا تستطيع الفلسفة أن تتطور كعلم إلا بترابط وثيق مع العلوم الطبيعية، أما الوظيفة الإيديولوجية للفلسفة، فإنها لا تؤدى إلا بالترابط الوثيق مع مصالح الناس الطبقية. فعند هذا المستوى تتمايز نظرات الناس الفلسفية إلى مادية،

ومثالية بكل تشعباتهما وتنويعاتهما الكثيرة (1).
الفلسفة من وجهة نظر البرجوازية مهمة بقدر ما تقدمه لها، في حقل الممارسات السياسية، من خدمات أيديولوجية، أما الفلسفة من وجهة نظر الماركسية، فهي علم يمكنه أن يقدم خدمات كثيرة لإيديولوجيات التغيير التطوري. بكلام أخر يمكن أن تتحول بعض حقائق الفلسفة كعلم في حقل الممارسات السياسية والأيديولوجية إلى نقيضها. فعلى سبيل المثال إن القول بالوجود المادي العام، وأنه لا وجود خارج الزمان والمكان والحركة، يقرر حقيقة علمية يمكن البرهنة عليها بضدها: هي نفي وجود الخالق. غير أن هذه الحقيقة العلمية تبدو خاطئة في حقل الممارسات السياسية والأيديولوجية في ظروف تاريخية محددة، نظرا لما يمكن أن يبنى عليها من استنتاجات تعيق النضال السياسي خصوصا، لجهة استقطاب القوى المعنية بالتغيير والتقدم. مثال أخر أن القول: "الدين أفيون الشعوب "، الذي قرأته الماركسية العامية خطأ، لا يعبر عن حقيقة علمية مستقرة، مع أنه يقارب هذه الحقيقة في الحقل السياسي، في ظروف تاريخية معينة، باعتبار أن الدين كان المعبر عن إيديولوجيا الحراك الاجتماعي، أو إيديولوجيا بعض أطرافه.
3 – مفهوم " العلاقة ".
لقد استعملنا مفهوم " العلاقة " بدلالة منهجية، ومعرفية، لذلك لا بد من تبرير ذلك. لا يوجد مادة مميزة في الواقع إلا ويمكن التعبير عنها بواسطة هذا المفهوم البسيط، والمعقد في آن واحد. الفوتون مثلا هو علاقة بين موجة وكتلة، المادة هي علاقة بين زمان ومكان وحركة، الزمان هو علاقة بين ماضي ومستقبل،المكان هو علاقة ثلاثية الأبعاد، الإنسان هو مركب علاقات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1– (( …فعند كل اكتشاف يفتح عهد جديد . وحتى في ميدان علم تاريخ الطبيعة ، كان ينبغي حتما على المادية أن تغير شكلها )) / إنجليز في ( لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ) مختارات ماركس إنجليز في أربع مجلدات . المجلد الرابع ، ص 25 ، دار التقدم موسكو 1977 /.


طبيعية واجتماعية، الذرة هي مركب علاقات بين نواة و وكتلة، المادة هي علاقة بين زمان ومكان وحركة، الزمان هو علاقة بين إلكترونات، السالب هو علاقة مع موجب أي هو سالب فقط بدلالة الموجب كما إن الموجب هو كذلك فقط بدلالة السالب ..الخ.
يترتب على الفهم السابق للعلاقة، أن أي تغيير في طرف من أطرافها يترتب عليه بالضرورة تغير في الأطراف الأخرى، وفي الوجود الذي تعبر عنه، وإن زوال طرف يعني زوال الأطراف الأخرى، بل والعلاقة ذاتها(الوجود الذي تعبر عنه).
قبل أن نختم هذا المبحث نود التأكيد على أن القوانين العامة للديالكتيك ومقولاته، تعتبر من أهم وأعظم الاكتشافات الإنسانية، وهي تصير أكثر كمالا ونضجاً، مع كل انزياح في حدود معارفنا عن الطبيعة، والمجتمع، والفكر. مع ذلك فهي لم تنج من الابتذال جراء الممارسات الإيديولوجية، والسياسية الخاطئة، وطغيان النزعة المدرسية في الفلسفة.
فعلى سبيل المثال قانون تحول التراكم الكمي إلى كيفي، هو قانون عام للوجود الطبيعي، والاجتماعي، يفسر الاوالية العامة للتغير المستمر، غير أنه يشتغل في المجتمع بطريقة مغايرة عن طريقة اشتغاله في الطبيعة. في المجتمع يلعب الوعي دورا كبيرا في تسريع أو إبطاء وتائر التراكم، وفي تحديد لحظة التحول إلى كيف جديد. أضف إلى ذلك قد يحصل التراكم بالمعنى التطوري في مكان معين، ويحصل الانتقال، أو التحول في مكان أخر مختلف تماما.
من جهة أخرى لا يجوز المماثلة بين مفهوم " القفزة " ومفهوم " الطفرة" كلحظة للتحول من الكم إلى الكيف في المجتمع والطبيعة. التطور الاجتماعي أكثر تعقيدا وأن الثورات الاجتماعية كتعبير عن لحظة التحول " القفزة " ليست انتظاما عاما للتاريخ، قد تصح في سياقات تاريخية معينة، ولا تصح في سياقات أخرى. كما أن التاريخ ليس خطا صاعدا لدى جميع الشعوب، بل قد ينكفئ، وقد يندثر الشعب مع حضارته، فقاع التاريخ مليء بالشعوب والحضارات المنقرضة.
من جهته، قانون نفي النفي الذي يحدد اتجاه التغير في الطبيعة والمجتمع، فهمته الماركسية المبتذلة على أنه نفي مطلق وكامل للقديم من قبل الجديد على الصعيد الاجتماعي. في الحقيقة والواقع، الجديد لا ينفي القديم بل يبني عليه . وحتى المفوت في القديم لا يندثر نهائيا، بل يبقى محفوظا في الذاكرة الجماعية على شكل رواسب في اللاوعي، قد يعود إلى ظروف معينة إلى البروز على السطح، والاشتغال فيه، والقيام بعمليات نفي جديدة.
في مجال الطبيعة من الصعوبة بمكان التحدث عن نفي النفي إلا من خلال القوانين الخاصة بالمادة المميزة (الأشياء والظواهر الفيزيائية). هنا في الواقع تجري عمليات تحليل وتركيب دون أية أضاف جديدة. في المجتمع أيضا، تشتغل القوانين العامة للديالكتيك بمراعاة تامة لمتطلبات القوانين الخاصة بالظواهر الاجتماعية، لكن مع حصول إضافات جديدة إلى الوجود الاجتماعي. ويصح ذلك على جميع الكائنات الحية بشكل من الأشكال ، فهي أيضا ميدان للتطور .
لكن ألم تحصل الحياة من المادة غير الحية؟ ألم يكن ذلك تطورا وإضافة؟ بلا شك حصل ذلك، وبهذا المعنى فإن المادة تتطور من خلال تفاعل معقد بين أشكالها المميزة. ومنذ أن وجد الإنسان (شكلها المفكر) أخذت ترتسم في إطار حركتها العامة، حركة غائية جديدة، حركة يقودها ويوجهها الفكر. بهذا المعنى فان الفكر شكل من أشكال الحركة، وبالتالي فهو مادة مميزة. بصورة أعم يمكن القول إن المادة تفكر من خلال شكلها المميز الذي يمثله الإنسان.