إسرائيل امام القضاء الدولي
منذر خدام
الحوار المتمدن
-
العدد: 7898 - 2024 / 2 / 25 - 09:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إنه لحدث مهم بالمعنى السياسي أن تنظر محكمة العدل الدولية بالدعوى المرفوعة أمامها من دولة جنوب افريقيا ضد إسرائيل بسبب ما أسمته عملية الإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان غزة من قبل القوات الإسرائيلية. تأتي الأهمية السياسية من كون اسرائيل، الدولة "المغنجة" عالميا، والمتمردة على الشرعية الدولية، تجر من أنفها هذه المرة للمثول امام القضاء الدولي ممثلا بمحكمة العدل الدولية للدفاع عن نفسها ضد التهم الموجهة لها من دولة جنوب أفريقيا.
بالطبع كان بإمكان إسرائيل الامتناع عن المثول أمام المحكمة؟ لكنها في هذه الحالة كانت سوف تتعرض لأضرار سياسية وادبية أكبر بكثير. كان لغيابها ان يثبت مباشرة التهم الموجه لها، في حين تستطيع من خلال مثولها امام قضاة المحكمة أن تدافع عن نفسها، مستندة إلى مبدأ " حق الدفاع عن النفس" الذي هو أحد مبادئ الشرعة الدولية، خصوصا وان حماس كانت البادئة بالهجوم عليها في السابع من أكتوبر لعام 2023.
السؤال لماذا دولة جنوب أفريقيا التي تقدمت بالدعوى، وليس أي دولة عربية أو إسلامية؟ في الواقع من حسن حظ الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة أن تقدمت بها دولة جنوب أفريقيا، وليس أي دولة من الدول العربية او الإسلامية، فهذه الأخيرة يسهل الطعن بمصداقيتها، ويؤيد أغلبها، سواء في العلن ام في السر، إسرائيل. أما دولة جنوب أفريقيا فهي تحظى بمصداقية عالية نظرا لإرثها التاريخي في النضال ضد الظلم، وفي تقديمها مثلا غير مسبوق في التسامح. أضف إلى ذلك فهي دولة ليست طرفا مباشرا في الصراع، بل كانت تحتفظ بعلاقات جيدة مع طرفيه إسرائيل والفلسطينيين. ويبدو لي أن دولة جنوب أفريقيا عندما رفضت انضمام بعض الدول العربية إلى جانبها كطرف ادعاء كانت تدرك أن قبولها بذلك سوف يضعف القضية على الأقل من الناحية الإجرائية، ويخدم إسرائيل.
لقد استندت جنوب أفريقيا في دعواها ضدّ اسرائيل إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، المصادق عليها سنة 1948. بموجب هذه الاتفاقية يحق للمحكمة مساءَلة الدّول عن سياساتها وتصرّفات هيئاتها الاعتبارية او موظفيها عما يمكن أن يمثّل انتهاكًا لالتزاماتها الدولية المنصوص عليها في هذه المعاهدة. تنصّ المادة التاسعة من الاتفاقية والتي استندت عليها جنوب أفريقيا في دعواها، على أنه: " يُعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أيّ من الأطراف المتنازعة، النزاعاتُ التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادةٍ جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة".
يكاد يتفق جميع الملاحظين لمجريات المحكمة في جلستي تقديم الادعاء والدفوع في 11 و12 من شهر كانون الثاني لعام 2024 ان إسرائيل في ورطة قضائية حقيقية تسبب بها قادتها بالدرجة الأولى من خلال تصريحاتهم التي استند إليها الادعاء لإثبات وجود النية للإبادة الجماعية التي تشكل الركن الأول لجواز نظر المحكمة بالدعوىـ، اما الركن الثاني فتمثله الوقائع الملموسة على الأرض وهي أكثر من ان تحصى. فمنذ اليوم الأول لتفجر الصراع وصف وزير الدفاع الإسرائيلي الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية ينبغي ابادتهم"، وأمر بقطع " الماء والغذاء والكهرباء عنهم ". ليضيف أحد زملائه في الحكومة بإمكانية استخدام "السلاح النووي لمحو غزة من الوجود"، لينضم إليهم أحد اعضاء الكنيست بالمطالبة بـ" حرق الفلسطينيين". وبالطبع لم يتأخر عنهم رئيسهم بنيامين نتنياهو في الكثير من تصريحاته النارية التي تفيد المعنى ذاته.
وإذا كانت عملية اثبات وقائع الابادة الجماعية للفلسطينيين من قبل الجيش الاسرائيلي وتوصيفها القانوني، وكذلك اثبات وجود النية لارتكاب هذه الأفعال الجرمية، قد شكلت الجزء الأهم في المرافعات التي استمرت ليومين (11و12 كانون الثاني) فإن مطالبة الجهة المدعية للمحكمة باتخاذ "تدابير احترازية مؤقتة" قد اثارت جدلا قانونيا مهما حول مدى وجود حقوق ذات أولوية لفرض هكذا تدابير، وهذا ما كانت تخشاه إسرائيل. فهي لا تريد أن تصدر المحكمة أمرا تنفيذيا بإيقاف الحرب ريثما تنظر في اًصل الدعوى وتصدر الحكم الذي تراه مناسبا.
ولم تتأخر المحكمة كثيرا لتصدر قرارها بشأن التدابير الاحترازية مثار الجدل، وهذا بحد ذاته كان لافتا لكثير من الملاحظين السياسيين والإعلاميين. وعلى ما يفهم من نص القرار فهي لم تطلب وقف الحرب بكلام صريح مما اراح نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، لكن جميع التدابير الاحترازية التي طالبت بها المحكمة لا يمكن تحقيقها إلا في ظل وقف شامل للحرب. فكيف مثلا يمكن تجنب جميع الاعمال المشمولة في المادة الثانية المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية من قبيل منع التسبب بأضرار جسدية او عقلية للمدنيين، او خلق ظروف تؤدي إلى وفيات جماعية وغيرها وهي جرائم تحصل يوميا في غزة. وطالبت المحكمة أيضا انه على إسرائيل أن تتأكد من ان جيشها لا يرتكب اعمالا تؤدي إلى حصول جريمة الإبادة الجماعية، وأن تمتنع عن التحريض عليها وهذا ما أزعج كثيرا المسؤولين الإسرائيليين.
لقد حظي القرار بتأييد الفلسطينيين رغم عدم نصه صراحة على وقف الحرب، كما لقي صدا إيجابيا لدى حكومة جنوب أفريقيا صاحبة الدعوة، ولدى العديد من الحكومات العربية والإسلامية، والرأي العام العالمي المناصر للقضية الفلسطينية.
بالطبع لن تلتزم إسرائيل بالقرار كعادتها في رفض كل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مع ذلك فقد أبدت دول عديدة مؤيدة لإسرائيل استعدادها للالتزام به، والامتناع عن تقديم الدعم لإسرائيل وهذا بحد ذاته سابقة مهمة في تاريخ القضاء الدولي، وفي تاريخ القضية الفلسطينية.