في المنهج. دراسة نقدية في الفكر الماركسي
منذر خدام
الحوار المتمدن
-
العدد: 8178 - 2024 / 12 / 1 - 14:12
المحور:
قضايا ثقافية
تقديم:
" الإنسان ذاك المجهول " عنوان كتاب للطبيب والكاتب الفرنسي الكسي كاريل (1873 –1944) مشحون بالإثارة والدهشة. يرصد الكاتب في كتابه المشار إليه، تعقيد بنية الإنسان من الناحية التشريحية والوظيفية، ورد فعل جسم الإنسان على مختلف التداخلات الخارجية، ويحفز على التساؤل دون أن يقطع في أجوبة محددة. وبالفعل، ورغم التطور الهائل في مختلف ميادين العلوم، والمقاربات الباهرة للعديد من التساؤلات المتعلقة بالعضوية البشرية، إلا أن العديد من التساؤلات الأخرى لم يجد لها العلم مقاربة معقولة بعد. يبدو لي أن التساؤل حول إمكانية استنفاد الإنسان معرفيا تساؤل خاطئ من حيث المبدأ، فالمعرفة بموضوعات الوجود هي دائما معرفة تاريخية، مفتوحة على التغير إضافة وإغناء، أو تقادما وانحيازا بالمعنى التاريخي.
الإنسان ليس معقدا" من الناحية البنائية العضوية فقط، بل هو أكثر تعقيدا" من الناحية الاجتماعية، فالإنسان الجمعي هو غير الإنسان الفرد والإنسان الجمعي في العشيرة هو غيره في القبيلة أو القوم أو الشعب أو الأمة. وهو مختلف بحسب مراحل تطوره وشروط وجوده التاريخية.
وإذا كان إنسان كاريل لا يزال مجهولا" بسبب بنائه المعقد والتكامل الوظيفي الذي تبديه مختلف مكوناته العضوية، فمرد ذلك لا يعود إلى التكوين العضوي البحت، بل والى التفاعل المستمر بين العضوية الإنسانية والوسط الخارجي. في سياق هذا التفاعل يتطور الإنسان ويتكشف عن جوانب مجهولة فيه وعن حقول بكر لم ترتد، وعن إمكانيات جديدة لم تستخدم. فالعضو بالمعنى البنائي هو حاجة بالمعنى الوظيفي، وهو علاقة اجتماعية في إطار الوجود الاجتماعي، وهو فعالية ذات انتظام قانوني من زاوية التاريخ.. الخ. إنه لمن الصعوبة بمكان، دراسة الإنسان ومقاربته معرفيا إلا إذا جُزّءَ. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى جميع العلوم باعتبارها علوما لهذا الإنسان المجزأ.
بعض العلوم تتخصص في دراسة مناحي ضيقة جدا من الإنسان، مثلا" علم التشريح، لكن بعضها الآخر قد يتخصص في مجال أوسع نسبيا مثل علم الوظائف، باعتبار أن الوظيفة التي يقوم بها عضو معين من أعضاء جسم الإنسان، هي في الواقع نتيجة لتكامل وظائف بقية الأعضاء. وثمة علوم تسائل الإنسان في وجوده الاجتماعي، أو في حراكه التطوري عبر التاريخ.. الخ. لكن مهما تعددت وتنوعه العلوم فإنها تظل تتحرك في إطار مجالات أربع هي:
أ –مجال الطبيعة، أي مجال الشروط الخارجية لوجود الإنسان.
ب – مجال الإنسان الفرد باعتباره عضوية واحدة أو فاعلا فردا.
ج – مجال الوجود الاجتماعي للإنسان، على اختلاف وتنوع أشكال هذا الوجود.
د- مجال العلاقات المشتركة أو المتبادلة بين المجالات الثلاثة الأولى، وهذا المجال هو اعقد مجالات العلوم على الإطلاق.
إن لكل من هذه المجالات انتظامه الداخلي، الذي يجعله إطارا لعائلات من العلوم المتقاربة.
المجال الثالث، على سبيل المثال، يشكل إطارا للعلوم الاجتماعية، وهي تكوين من عائلات عديدة، بعضها يسائل الإنسان من ناحية الشروط الاقتصادية لوجوده وتطوره. فعلى الإنسان أن يوجد أولا ككائن حي، أي عليه أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن.. الخ. لذلك تعد عائلة العلوم الاقتصادية التي تعالج هذه الموضوعات، الأساس لبقية العلوم تنبني عليه بعلاقات ترابطية وظيفية بقية العلوم الأخرى بشكل مباشر أو غير مباشر. فالإنسان هو الغاية من تطور جميع العلوم، وفي الجوهر من هذه الغاية تحتل مكانها مسألة سعادة الإنسان في وجوده الفردي والاجتماعي.
لكن العلوم الاقتصادية كغيرها من العلوم الاجتماعية لا تستطيع أن تطور إلا بارتباط وثيق مع المصالح سواء مصالح الأفراد أو الجماعات (عائلات، عشائر، قبائل، فئات اجتماعية، طبقات)، بل ليس لها معنى إلا بدلالتها. الناس في المجتمع يختلفون في رؤيتهم لمصالحهم المادية والمعنوية، ويسعون بطرق مختلفة لتحقيقها، وعلى أرضية هذا الاختلاف يتصارعون باستمرار، ويتطورون، ويكتبون تاريخهم. من هنا جاء هذا الاعتقاد السائد، بأهمية العلوم الاجتماعية، التي تدرس تاريخ الإنسان وأشكال وجوده الاجتماعي، والطوباويات الكبيرة المتعلقة بهذا الوجود، والغاية من كل ذلك.. الخ.
غير إن الاشتغال على موضوعات العلوم الاجتماعية، بل على غيرها من العلوم، يعتمد، إلى حد بعيد، على توفر الأدوات المفهومية الصالحة والملائمة، والمناهج المناسبة كذلك، وهذه مسائل خلافية بين التيارات الفكرية المتعددة والمختلفة.
في هذه الدراسة المكثفة نحاول تقديم قراءة جديدة للمنهج المادي الجدلي والتاريخي، وللنظرية التي بُنيت من خلال استخدامه في قراءة التاريخ. يحفزنا على ذلك الأهمية الكبيرة للماركسية عموما في تطور المجتمع الإنساني، من حيث كونها فكرا نقديا ساهم في إنتاج المعارف المختلفة التي تضيء طريق هذا التطور، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإننا نزعم الانتماء إلى الفضاء العام للفكر المادي والجدلي، ونحن بالتالي معنيون قبل غيرنا بتفحص محتويات بيتنا الفكري، والعمل على تجديد بعض محتوياته، وإصلاح بعضها الأخر، أو مجرد نفض الغبار عن قسم ثالث منها، وإعادة صقله. ويستفزنا للقيام بهذا العمل ما حصل من تغيرات على الصعيد العالمي، وما أفضى أليه انهيار الأنظمة " الاشتراكية " السابقة، تلك التغيرات والانهيارات، التي استغلت للإفصاح عن نزعات انتقامية من الفكر النظري الماركسي، ودوره التاريخي، في إنتاج المعرفة عموما. ومما لا شك فيه أن كثافة الحضور الأيديولوجي في البلدان " الاشتراكية" السابقة، خصوصا في العلوم الاجتماعية، قد ساعد على ذلك. إن تزييف الواقع، وإلباسه ما ليس له، من قبيل إلغاء الاستغلال، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتطور الدينامكي للاقتصاد، أو انتصار الاشتراكية، أو حل المسألة القومية وغيرها، عملت جميعها على تأجيج ردود فعل عديدة تجاه الفكر النظري الماركسي، بعضها إيجابي، يحاول فهم ما كان قائما فعلا في هذه البلدان، وتحليل أسباب التغيرات التي حصلت فيها، وعلى الصعيد العالمي. لكن بعضها الأخر لا يخلو من الغلو يميناً أو يساراً. ففشل المشروع السياسي الذي كان يجري بناؤه في الدول " الاشتراكية " السابقة شيء، وبقاء الفكر النظري الاشتراكي (والماركسي منه خصوصاً) في الوجود والتطور والكفاح في سبيل مشروعه السياسي المطابق شيء آخر.
وفي مجمل الأحوال الفكر النظري الاشتراكي، معني بما يحصل على الصعيد العالمي من تغيرات، وهو يهتم بذلك فعلا، خصوصا تلك التغيرات التي حصلت في البلدان التي حاول بناء مشروعه الخاص فيها. إن إزاحة الضباب الأيديولوجي الكثيف الذي كان يغلف الواقع ويحجب مجال الرؤية، جعلت من الممكن إعادة فهم ما كان يجري فعلا، وتكوين رؤية علمية جديدة لأوالية الحراك الاجتماعي العام، وتقويم إنجازات هذه البلدان لا في ضوء المقارنة مع الدول الغربية المتقدمة، نظرا لاختلاف السياقات التاريخية لتطورها، بل في ضوء الحراك الخاص بهذه البلدان والإمكانيات التي كانت متاحة أمامها واقعيا، والسياقات الراهنة لتطورها.
إن التغيرات التي حصلت في البلدان " الاشتراكية" السابقة، والتغيرات التي لا تزال تحصل على الصعيد العالمي، قد أزالت الكثير من الأوهام من الحقل النظري، ومن حقل الممارسات السياسية كذلك، لا يتسع المجال هنا لذكرها. مع ذلك ثمة فسحة لكي نسجل لمفكرنا العربي البارز سمير أمين رؤيته الثاقبة، التي عبر عنها منذ أكثر من ثلاثة عقود من السنين خلت، وتفيد بأن ما كان يجري بناؤه في هذه الدول ليس الاشتراكية، بل نوع من “الاقتصاد الدولتي "، أسميه: رأسمالية الدولة الوطنية. استنادا إلى ذلك نستطيع القول: أن الثورات التي قامت في هذه البلدان على اختلاف ظروفها، لم تكن ثورات اشتراكية، بل ثورات وطنية ديموقراطية، قامت بها القوى الاجتماعية المكونة من المثقفين والعمال والفلاحين والجنود، بالنيابة عن البرجوازية، في ظروف خلقتها هذه الأخيرة، وأججها السعار الأيديولوجي المشبع بطوباويات العدالة، والتقدم، والمساواة، والرفاهية وغيرها. ومهما يكن من أسباب ومبررات هذه الثورات الوطنية، فلا يمكن تجاهل أهميتها التاريخية، سواء بالنسبة لمصير الدول التي قامت بها، أو بالنسبة لبقية الدول في العالم، بما فيها الدول الرأسمالية المتقدمة. فما أنجزه الاتحاد السوفييتي السابق خلال فترة وجوده القصيرة نسبيا، على كل الصعد، رغم ويلات الحروب ودمارها، الاقتصادية والثقافية، والاجتماعية، احتاجت الرأسمالية في نماذجها الكلاسيكية الغربية إلى عدة قرون لتحقيقه، حسب المصادر الغربية ذاتها. وأكثر من ذلك فان التطور الكبير الذي حققته الرأسمالية في الدول الغربية، وعلى الصعيد العالمي، خلال القرن العشرين، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن بالإمكان تحقيقه، لولا المحفزات الكبيرة والقوية على العمل، والتطوير، والمنافسة التي ولدتها صورة العدو في داخل هذه البلدان، كما قدمتها الأيدولوجيا، والدعاية البرجوازيتين.
من غير الجائز الآن التعلق بأوهام الاشتراكية، خصوصا في ظروف التخلف. فالانتقال إلى الاشتراكية، الذي بُسط إلى درجة الابتذال، ليس ممكنا إلا بعد أن تستنفد الرأسمالية إمكانياتها التاريخية في التطوير الاجتماعي، وتحديدا في تطوير قوى الإنتاج، على حد قول ماركس. السؤال الحق إذا، هو متى تستنفد الرأسمالية إمكانياتها التاريخية في تطوير قوى الإنتاج، وكيف يمكن الاستدلال على ذلك؟
في ظروف البلدان المتخلفة عموما، وفي ظروف البلدان العربية خصوصا، تتحدد المرحلة الراهنة من التطور بكونها مرحلة وطنية ديموقراطية، طابعها العام الصراع بين الميول والاتجاهات الوطنية والقومية والإنسانية من جهة، والنزعات اللانتمائية من جهة أخرى. الأولى تؤسس للاستقلال الوطني بالمعنى التاريخي. أما الثانية فتؤسس للاغتراب عن الوطن وتاريخه وقضاياه، وتعزز من التبعية الوحيدة الاتجاه، وبالتالي البقاء في دائرة التخلف.
من حيث الجوهر تمثل المرحلة الوطنية الديموقراطية، إزاحة كاملة للبنى الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، الإقطاعية، أو الكولونيالية، من المجتمع، ونشر وتعميم البنى الرأسمالية محلها، كقواعد أساسية لاشتغال النظام. في ضوء ذلك يمكن رؤية ثلاث محاور رئيسة تخترق كامل الزمن البنيوي للمرحلة الوطنية الديموقراطية هي الآتية:
أ – محور التنمية الاقتصادية. يتطلب إنجاز المهام المتعلقة بهذا المحور، تطوير قوى الإنتاج الاجتماعي، وبناء الهياكل الاقتصادية المناسبة، مع المراعاة الدقيقة للعلاقات الفنية والتوازنية، في داخل الفروع الاقتصادية، أو فيما بينها، وإقامة توازن محسوب بين دائرة الإنتاج ودائرة الاستهلاك، بين رصيد التراكم ورصيد الاستهلاك، وربط الاستهلاك بالقوة الإنتاجية المحلية بشكل رئيسي، والاستفادة القصوى من مصادر التراكم المحلية، والإقليمية والدولية، بما يحقق النماء الاقتصادي، وانتشار العقلانية الاقتصادية.
لا شك إن تحقيق المهام السابقة الذكر سوف يخلق اقتصاداً دينامياً، مندمجا بالاقتصاد العالمي، على أساس التكيف المتبادل، يستفيد من الاتجاهات الاندماجية العالمية، ويفيدها أيضاً.
ب – محور التنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية. تتوزع على هذا المحور مهام عديدة، متشعبة ومترابطة، نذكر منها ثلاثة عناوين رئيسة هي:
1 – العدالة الاجتماعية 2 –الديموقراطية 3 – الثورة الثقافية. سوف نتوقف عند كل منها قليلا:
لقد أدت العدالة الاجتماعية دورا رئيسا في الصراعات الاجتماعية الطبقية في الماضي، وسوف تظل تلعب ذلك في المستقبل. إنها أحد المحركات الرئيسة للتطور الاجتماعي، تقوم بذلك من خلال توليدها الصراعات الاجتماعية والطبقية. غير أن شكل الصراع، ودوره في التقدم الاجتماعي، كانا مختلفين من عصر إلى عصر، ومن مرحلة إلى أخرى، من مراحل التطور العام أو الخاص، بهذا البلد أو ذاك. ما يهمنا التذكير به الآن هو أن العدالة الاجتماعية التي تحرك نضال فئات وطبقات اجتماعية عديدة وواسعة، في ظروف المرحلة الوطنية الديموقراطية، لا تتطلب بالضرورة إلغاء الاستغلال الناجم عن النشاطات الاقتصادية الطبيعية، المطابقة للرواج النظامي لرأس المال، بل إلغاء الأشكال الاستغلالية الطفيلية، أو تلك التي تتحقق بالوسائل السياسية. إن إلغاء الاستغلال في ظروف الرأسمالية مسألة غير واقعية، ولا يمكن تبريره نظريا.
والحالة هذه، فإن موضوع العدالة الاجتماعية في الرأسمالية، الذي يمكن أن يشكل مطلباً سياسيا واجتماعياً، ليس أكثر من المطالبة بالتوزيع العادل للقيمة المنتجة الجديدة (الدخل الوطني)، حسب دور ومساهمة عوامل الإنتاج فيها. وهذا يعني إقامة توازن دقيق بين الطبقات والفئات الاجتماعية،الأمر الذي يمكن تحقيقه عن طريق سيادة القانون ، وتوسيع نطاق الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة ، أو المؤسسات الاقتصادية، وتعميم الضمان الاجتماعي، واحترام حقوق المواطنين في العمل والحياة.
باختصار لا بد من إقامة توازن دقيق بين مجال العدالة الاجتماعية ومجال التقدم الاجتماعي ،مع احترام أولوية ورجحان التقدم الاجتماعي ، على أن يتحقق هذا التوازن بالوسائل الاقتصادية حصراً، مثل الضرائب، والأجور، والريوع، والأرباح، والأسعار ، وهذه وظائف يقوم بها النقد والسياسات النقدية الوطنية المعدة جيداً، بكل كفاءة . من الناحية العملية يمتلك النقد قوة كبيرة على تحفيز العقلانية في جميع مجالات النشاط الاجتماعي ، وضبطها ومعايرتها .
العنوان الثاني يتعلق بالديموقراطية، وإشاعتها في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية . في هذا المجال يمكن التأكيد على أن إنجاز مهام المرحلة الوطنية الديموقراطية بشكل سليم وناجز، يتوقف إلى حد بعيد على تعميم الديموقراطية ، في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، وفي المقدمة منها، في المجال السياسي .فالديموقراطية كما نفهمها تمثل الاوالية العامة لظهور وحل التناقضات في المجتمع ، وخلق التوليفات المناسبة بينها ،وإيجاد أفضل تقاطع ممكن واقعيا بين القوى الاجتماعية الفاعلة في التقدم الاجتماعي. إنها المناخ الذي تتنفس فيه مبادرات وإبداعات الشعب ، ويدونها يكاد يختنق .
العنوان الثالث يتعلق بالثورة الثقافية .الثقافة للتقدم الاجتماعي كالماء بالنسبة للسمك . ليس من ظاهرة اجتماعية إلا ولها إطارها ،وفضاؤها الثقافيان ، بل لها مقدماتها الثقافية أيضاً .من غير الممكن تجاوز أي شيء في الواقع الاجتماعي ، إلا إذا تحقق حد معين من تجاوزه على صعيد الفاعل الاجتماعي ، أي حصول تغير مناسب في وعيه ،يجعله يعرض الموضوع الذي يود تجاوزه، كأطروحة أيديولوجية (مشروع) أولا، ومن ثم يعمل على تحقيقه ." لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ونظراً لان التغير مستمر في الزمن ، فان الثورة الثقافية مستمرة أيضا ً، تغير وعي الناس وواقعهم الاجتماعي ..الخ.
المحور الثالث هو المحور الوطني والقومي . على هذا المحور تتوزع مهام تحرير الأرض ، وتعزيز الوحدة الوطنية ، وتحقيق الدولة القومية.
إن المسألة القومية ، وفي القلب منها تحقيق الوحدة العربية، عليها أن تتقدم في جدول الأعمال للحركة الاجتماعية والسياسية العربية، ليس لأنها حق من حقوق الأمة في قيام دولتها، بل لأنها المجال الاقتصادي الحيوي للتنمية الوطنية. المستقبل هو للتكتلات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة. من خلال ذلك وحده، يمكن الحديث عن الاستقلال الوطني الحقيقي بالمعنى التاريخي،الاستقلال الذي يعيدنا للتاريخ، للمساهمة من جديد في صنعه كفاعلين ،لا كمنفعلين فحسب ، نتبادل التأثير والتأثر مع غيرنا من الشعوب.
لا شك أن العقبات التي تحول دون تحقيق الوحدة العربية كبيرة جداً ، فليست خافية الميول والنزعات المعاكسة لذلك سواء في داخل البلدان العربية ، أو بين الدول العربية ذاتها . مع ذلك لا بديل عن الوحدة للحفاظ على مستقبل الأمة ،ولا شك بأن العمليات الجارية موضوعيا سوف تدفع العمل الاجتماعي والسياسي العربي في هذا الاتجاه .
إذا كانت الوحدة العربية ضرورة موضوعية،هي في منطق التاريخ خلال المرحلة الوطنية الديموقراطية،مهمة في مقدمة جدول أعماله،إلا انه على ما يبدو لا يطرحها بشكل محدد ، ولا يشير إلى مداخل أو أولويات معينة كمعالم على طريق إنجازها، و لا يحدد طريقا معينة لإنجازها. ولا يدعو ذلك للاستغراب، فعملية التوحيد القومي عملية معقدة جداً، تتدخل فيها مصالح عديدة منها ما هو محلي ، ومنها ما هو عالمي،منها ما هو معادي لها بشكل سافر، ومنها ما هو معادي لها بشكل مستتر . وحتى في صفوف مؤيديها هناك اختلاف وتباين حادين تجاهها ..الخ.
وعلى خلاف الخطاب الوحدوي السابق، الذي كان لا يرضى بأقل من تهديم الدولة القطرية، ليبني على أنقاضها الدولة القومية الواحدة ،نرى أن الوحدة المنشودة عليها أن تحافظ على الدولة القطرية إلى أجل غير معروف. وان الطريق إلى الوحدة يمكن أن يبدأ بمشروع اقتصادي مشترك بين دولتين أو أكثر ،أو بتكتل اقتصادي على شكل سوق حرة ، أو سوق مشتركة، وصولا إلى تحقيق نوع أو شكل من أشكال التوحيد القومي السياسي . ومما لا شك فيه أن تحقيق الوحدة القومية العربية، سوف يستغرق زمنا طويلا ، قد تسارع إليه بعض الأقطار العربية ، وقد تتباطأ أقطار أخرى ، لكن في النهاية لا بديل عن الوحدة القومية إلا الموت الحضاري، وامتنا كما خبرها التاريخ لا تعرف الموت ولن تموت .
بقي أمر واحد في هذا المجال لا بد من التأكيد عليه، باعتباره المسرع الأقوى لعمليات التوحيد القومي والمحافظة عليها ، وهو الديموقراطية . فمن المعلوم أن الخطاب الوحدوي السابق ، تعددت اشتراطا ته ، تارة يشترط لتحقيق الوحدة ، تحرير فلسطين، وتارة أخرى يشترط انتصار الاشتراكية ..الخ ،فلم تتحق الوحدة ولا تحققت اشتراطاتها، لسبب بسيط هو أن الخطاب الوحدوي كان فوقيا، بعيدا عن فهم الواقع، وأن القوى الاجتماعية التي نادت به لم تكن وحدوية فعلا.
وعندما نشترط لقيام الوحدة ، تعميم مناخ الحرية و الديموقراطية ( مع إنها يمكن أن تتحقق بدونها )،فلأنها تمثل المناخ الأفضل الذي تعبر فيه ومن خلاله ، مختلف القوى الاجتماعية والسياسية عن مصالحها الحقيقية ، ومنها مصلحتها في قيام الوحدة .الحرية و الديموقراطية تجعلان قضية الوحدة قريبة من وعي الناس ، تقوم على ركائز قوية من المصالح الطبقية والوطنية والقومية .
كلمة أخيرة ، إن ما نكتبه في هذه الدراسة لا يشكل رؤية نظرية كاملة ونهائية للقضايا التي تطرحها المرحلة الوطنية الديموقراطية، إنها بالأحرى محاولة للوقوف عند منطق نوع من التفكير، نقرأه في ضوء المعطيات الجديدة في الثقافة والحياة الاجتماعية .وان انشغالنا به ( الفكر المادي الجدلي والتاريخي )، يعود لأهميته الكبيرة في إنتاج المعارف العلمية المتعلقة بالقضايا التي تواجهنا، ومن ثم تقديمها كاطروحات إيديولوجية قابلة للتنفيذ. لا نقدم أجوبة نهائية وحاسمة ، بل نحفز على التساؤل وحسب.
إن حركة ما يكتب في الزمن هي حركة تفارقيه ، مع الموضوع الذي يكتب عنه،الحياة تجري بلا توقف، تغير معها شروط حياة الناس ومعارفهم، وحاجاتهم .ما يكتب يمثل صورة فوتوغرافية لمستوى معين من المعارف العلمية حول موضوع محدد ، لكن العلم والنشاط المعرفي عموما ، يمثل شريطا متحركا متغير السرعات ، تتقادم معلوماته باستمرار، وهذا يتطلب من الكاتب أو الباحث إجراء مراجعة مستمرة لما يكتب، فيطوره ليواكب تطور العلم نفسه، ومستجدات الحياة . لكن مهما بلغ المؤلف من الكمال المنهجي والمعرفي، لا بد أن يترك بعض الثغرات، التي قد لا يلاحظها في حينه أثناء الكتابة ،لذلك فان أراء الزملاء وملاحظاتهم، وانتقادات القراء ، سوف تكون ذات فائدة عظيمة لإنضاج ما نفكر فيه وبه ، ويشغلنا في هذه الدراسة، وسوف نعيرها الاهتمام الكبير بكل احترام وتقدير .
لقد كانت هذه الدراسة جاهزة للنشر منذ نحو عشر سنوات تقريبا ،لكن ظروفا معينة حالت دون نشرها، ونرى أن الزمن الذي مر وانقضى منذ ذلك الحين لم يقادم شيئا من اطروحاتها، بل على العكس جعلها أكثر راهنيه. نأمل أن يحوز اجتهادنا على الاهتمام المناسب من قبل المعنيين بالحقل النظري والسياسي ، وان تحفز على إعادة طرح الأسئلة الكبرى باستمرار، ففي إعادة طرحها بحث عن الجديد، توق إلى تفعيل النشاط ، سباق مع الزمن .
اللاذقية في 10-1-1998
د. منذر خدام