صراع الرساميل في تركيا
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن
-
العدد: 4554 - 2014 / 8 / 25 - 07:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عبرت السياسة الأتاتوركية عن علمانية خفتتْ من الغلواءِ الدينية الاجتماعية، خاصة في عزل النساء عن سوق العمل، وتحجيم الوعي العقلاني، وأسستْ قطاعاً عاماً مسيطراً، إلى جانبِ قطاعٍ خاص كبير. لكن الفسادَ قللَّ الإيرادات كثيراً في القطاع العام، وتم استغلال هذا القطاع لأغراضٍ سياسية لدعم السياسيين المتنفذين. فاستمر العجزُ في الميزانية، وازداد التضخم، وفقدتْ الليرة التركية الكثير من قيمتها.
ومن الناحية السياسية استمرت البيروقراطية الحاكمة العسكرية – المدنية في الحكم وهو أمرٌ يشيرُ إلى وجودِ قبضةٍ سياسية قوية في العاصمة على الجمهور الشعبي، وعلى الأقليات القومية، وعلى الحركات الدينية والحركات اليسارية، من أجلِ تشكيلِ نهضةٍ وسطية تقاربُ الغربَ الديمقراطي حسب رؤية كمال أتاتورك. لكن هذه الطبقة الإدارية العسكرية واجهتْ الاختناق في هذا المشروع فالفسادُ الداخلي أهدرَ الكثيرَ من الفوائض، وقمعُ الأكراد والحربُ في قبرص وعدم تحرير الفلاحين أضعفت الحكومات التركية المنهارة المتعاقبة.
منذ الأربعينيات من القرن العشرين بدأتْ الحكوماتُ المختلفةُ في دعمِ القطاع الخاص، وغدت تركيا ذات بنية صناعية متوسطة، فالموادُ الخامُ محدودةٌ والعمالةُ المتخلفة وأتساع هجرة العمالة للخارج لم تجعل تركيا ذات صناعات ثقيلة وتقنية عالية.
كما أن ذلك يرجع للبنية الاجتماعية وتقسيم العمل الاجتماعي:
(هناك فرقٌ كبيرٌ في مستوى المعيشة والحالة الاقتصادية بين الغرب(التركي) الصناعي والشرق الزراعي. يعتبرُ القطاعُ الزراعي أكبر قطاع من حيث تشغيل العمالة، حيث تبلغ النسبة حوالي 40% من مجمل قوى العمل في البلاد، ولكنه ينتجُ ما نسبته حوالي 12% فقط من الناتج القومي. القطاعُ الصناعيُّ ينتجُ حوالي 29,5%، قطاع الخدمات حوالي 58,5% من الناتج القومي لتركيا. يعمل في قطاع الصناعة 20,5%، في قطاع الخدمات 33,7% من مجمل عدد الأيدي العاملة.)، موسوعة ويكيبيديا.
هذه النسب توضحُ الطابعَ الوسطي للصناعة، وإتساع حجم القطاع التقليدي، وهو المؤسسُ للحركات السياسية المحافظة عادة، ولكنه يشير كذلك إلى تنامي فئات البرجوازية المختلفة، وخاصة في الصناعة والخدمات.
قامت الحكوماتُ المتعاقبةُ بحماية الشركات الخاصة، ودعم التصدير إلى الاتحاد الأوربي، والابتعاد عن سياسات الحروب والمجابهة، فبدأ معدل نمو الاقتصاد في التغير والتذبذب عموماً، فكانت نسبة النمو في سبعينيات القرن الماضي بين 7% إلى 4%، بعد تنام سلبي لعدة عقود لكن مع زوال النظام العسكري في سنة 1982، وتدفق أموال العمال المغتربين من أوربا الذين يبلغ عددهم سبعة ملايين فرد، أخذ الاقتصاد التركي بالانتعاش.
ولكن قادت الخصخصةُ غير الشعبية والانتقال الواسع غير المبرمج لدعم القطاع الخاص في الثمانينيات إلى إحداث اضطرابات سياسية واقتصادية كبيرة، مما أدى إلى التضخم الواسع وانهيار الليرة التركية وإلى صراعات سياسية كبيرة وتفجر المسألة الكردية في تركيا.
لا بد أن نقول هنا بأن هيمنة القطاع الحكومي البيروقراطي في عقود طويلة يماثل جزئياً الرأسماليات الحكومية الشرقية الشمولية حيث إن تلك الهيمنة للقطاع العام لم تصل إلى اكتساح الاقتصاد كله، وحيث إستمرت التعدديةُ السياسيةُ والثقافية الهامتان في تركيا، لكن تلك الهيمنة للقطاع العام من جهةٍ أخرى خلقتْ طبقةً مستفيدةً من هذه البيروقراطية السائدة، وقامتْ بتقنينها فكرياً عبر تصوير البلد كبلدٍ ديمقراطي على الطراز الغربي، خاصة لما تسودُ فيه من حرياتِ العقائد التي غدتْ شأناً خاصاً بالمؤمنين بها، لكن هذه الديمقراطية الاجتماعية المحدودة لم تكن ذات عمق ديمقراطي سياسي، لكون الطبقة المسيطرة ذات حجم عسكري كبير ورأس مدني ضئيل، وهو أمرٌ تجسدَ في القطاعين العام المهيمن الفاسد والقطاع الخاص المُنتج شبه الملجوم.
ولكن جاءتْ موجاتٌ اجتماعية وسياسية داخلية أساساً وعالمية ثانوية متضافرة ومؤثرة لعبتا دوراً في الاتجاه بتركيا نحو آفاق جديدة.
إن سقوط المعسكر(الاشتراكي) لعب هنا دوراً إيجابياً فذلك (التهديد) التاريخي المزعوم زال، والمسألة القبرصية توجهت للتهدئة، والحركات اليسارية المتطرفة خفتتْ نيرانُها، وبقيتْ المسألةُ الكرديةُ ملتهبةً، وكلُ هذا أدى إلى تصاعدِ الحرياتِ وخفوتِ دورِ العسكر التاريخي، وتنامي دور القوى المدنية، وبقيتْ علاقاتٌ ضروريةٌ جدليةٌ لا بد من بروزِها بين البرجوازيةِ البيروقراطية الحربية الآفلة تلك والبرجوازيةِ المدنية الصاعدة وهي علاقاتٌ ذات أهمية في تشكيلِ وضعٍ سياسي جديدٍ مشترك، يجمعُ بين إيجابيات الماضي وإيجابيات الحاضر، وهذا لا بد له من جدلٍ تاريخي وصراع سياسي بين القوتين يكشفُ المضامينَ المتلبسة بينهما وهما لهما مصالح متقاربة وأن طمستها اللغتان الإيديولوجيتان لدى كل منهما، ولكن البرجوازية المدنية ارتبطت بقوى دينية ومؤثرات مشرقية عضدت القوى المحافظة الدينية فيما القوى الاتاتوركية تقلصت وغلبها المدنيون الدينيون بتوسع علاقاتهم بدول النفط.