سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 6264 - 2019 / 6 / 18 - 18:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- أنا فهمت الآن - الحزء الثالث .
- نحو فهم الحياة والوجود والإنسان (93) .
"أنا فهمت الآن" هى سلسلة جديدة من المقالات تأتى فى سياق مجموعة مقالات "نحو فهم الوجود والحياة والإنسان" هادفة سبر أغوار الألغاز والغموض الذي يحيط بفهمنا للحياة والطبيعة لتحرر الوعي من المفاهيم المغلوطة المتهورة التي لا تقدم أي شئ سوى وأد السؤال بإجابة متهافتة .. الولوج فى ألغاز وغموض الطبيعة والحياة شئ شديد الصعوبة والوعورة فأنت تبحث في الجذور والأعماق مخالفاً السابحين مع التيار , المستسهلين للحلول السريعة السهلة ولكن من قال أن أى إجابة ستكون صحيحة .
صعوبة الولوج فى ألغاز الطبيعة والحياة ليس لصعوبة البحث عن المعلومات العلمية فحسب , وليس لأن العلم لم يعطى إجابات كاملة لكل مظاهر الحياة والطبيعة , بل من سطوة الثقافة الميتافيزقية أيضاً التي تسللت داخل المفاهيم العلمية ذاتها لتشوه وتفرض رؤية ميتافيزقية , لذا فكثير من تلك المفاهيم المغلوطة التى تسللت لوعينا جاءت من قوة إرث الثقافة الميتافيزقية لذا سنتصدى لها هنا , ولن نكتفى بذلك بل سنؤسس لفهم مادي حقيقي للطبيعة بعد أن تشوه فهمنا للحياة والطبيعة بالرغم أننا نتبنى مفاهيم علمية جديدة .
- المادة سابقة على الوعي إحدى مفردات الفلسفة المادية الجدلية والتى تسجل العلاقة بين المادة والوعي لتخرج من باب رؤية فكرية فلسفية لتدخل فى ميدان البديهيات والمسلمات , فيستحيل أن يتكون وعي عن شئ بدون أن يسبق هذا الشئ وجوده قبل إنطلاق الفكرة عنه , فنحن نعرف التفاحة من وجود التفاحة , وإنعدام وجودها لن يخلق وعي بها لتشمل هذه الرؤية كل الأشياء المنطقية والخيالية , فحتى ما نراه خيالاً لن يتحقق كخيال إلا من خلال صور مادية سبقت الوعي , فمثلا عروس البحر هى تركيبات لرأس وصدر إمرأة مع جذع وذيل سمكة , كذا الفيل الطائر والحصان المجنح عبارة عن لصق أجنحة فى جسم الفيل والحصان , وهكذا من أشكال خيالية فنتازية هى تركيبات من عدة أجزاء مادية موجودة , ومن هنا نقول أن كل الصور والأفكار المعقولة والطبيعية والخيالية هى من منتجات صور مادية سبقت الوعي فى وجودها .
نضيف أيضا أن الصور والعلاقات المادية هى التى تشكل وعينا , فكل الأفكار الإنسانية منطقية أم خيالية تكونت من تأثير الوجود المادى المُدرك كما ذكرنا ليقوم الدماغ بعملية تركيبات ولصق وإقامة علاقات وفق حصيلة الصور والعلاقات المادية الساقطة على الدماغ .
-المادة سابقة على الوعى هو السر لفهم لغز الحياة والوجود , فالأسبقية هنا تعنى أن الوعي لاحق لوجود المادة , لأعيد وأكرر أن الوجود المادى هو الذى يُشكل الوعي بكل مفرداته من فهم وإدراك وإحساس وسلوك , فالوجود المادى من ظروف مادية هو الحقل الوحيد الذى يشكل وعينا , فالطبيعة بكل أشكالها هى المنتج الوحيد لمفردات وعينا .
لا تكون المادة سابقة على الوعى مجرد رؤية فكرية فلسفية فهى تطيح وتنسف كل أوهامنا وخرافاتنا وفهمنا المغلوط عن الحياة والوجود مثل :
- وهم الإله .
بداية عند مناقشة موضوع الإله فهو موضوع لامادي وفق ما يؤمن به المؤمنين , وهذا يعنى إستحالة الوعي بوجوده , فالوعي يُدَرك من الوجود المادي فهكذا هى شفرة الدماغ قبل ان تكون المادة سابقة للوعى أو العكس , فلا توجد أى وسيلة للوعي سوى الدماغ الذى هو مادة فى النهاية تتعامل مع ماهو مادي حصراً .
فكرة الإله فكرة متخيلة وليس وجود مُعاين , ولكن فكرة الإله منذ نشأتها وحتى الآن هى تجسيد وترميز لكيان مادى حتى يكون وجوده مقبولاً معقولاً , فالظواهر الطبيعية من أمطار ورياح وزلازل وأعاصير كانت عبارة عن آلهة تم ترجمتها فى طواطم وأوثان , فالإله كفكرة لم يخرج عن الحيز المادى , وحتى تلك المعتقدات والأديان الأحدث التى علقت الإله فى السماء عبرت عنه ككيان مشخصن فى صفاته وفعله وأسماءه وأداءه فهكذا الفكرة لم تخرج عن إطار مادى كإطار يفهمه العقل .
هنا الوعي الإنسانى الذى إعتبر الطبيعة إله كوعي جاهل خيالي منحرف عن الفهم الصحيح للوجود يأتى فى إطار جهل الإنسان بالظواهر الطبيعية وخوفه منها أو توسم الخير منها .
- وهم الأديان .
حجر الزاوية فى الفكر الإيمانى هو وجود الفكرة أولا ففى البدء كانت الكلمة كما فى الكتاب المقدس , لذا تقوم الأديان والمعتقدات على فكرة جوهرية بأسبقية الوعي على المادة وهذا ما يعنى بالخلق والخالق , فلا تقدم عليهما أى دليل ولا تكتفى بإنعدام الأدلة بل تخالف كل منطق , فعملية الخلق تشبه عملية التصميم وفقاً لإيمان المعاصرين بمقولة "التصميم الذكى" , فلا وجود لتصميم وفكر خالق مُصمم بدون وجود مادى , فالمُخترع يكون وعيه من وجود أشياء مادية متواجدة أساساً ليقوم بتركيبها وتنظيمها , فالوعى التصميمي جاء بعد وجود مفردات مادية , فكيف يكون هناك خلق وتصميم بدون وجود موجودات !.
- وهم الحرية .
فكرة المادة سابقة على الوعى ومُشكلة لكل فهمنا وسلوكنا ووعينا جاءت من تأملاتى قبل قراءة الفلسفة الماركسية وذلك فى المرحلة الإعدادية , لتتركز فى نقطة تأملية جوهرية وحيدة حينئذ تتناول سلوك الإنسان الذى يتشكل من الظروف المادية الموضوعية لأخرج بنتيجة أن الإنسان يفتقد الحرية فى مفهومها المثالى , فالسلوك والوعي الإنسانى نتاج تأثير أسباب مادية جمة بحتة تتمثل فى البيئة والثقافة والإعتقاد والتاريخ والجغرافيا ليضاف لفهمى لاحقاً مفهوم الجينات والعوامل الوراثية ,لأخرج بأول تأمل أعتز به حتى الآن وأراه حاضراً فاعلاً وهو أن "الإيمان هو نتاج تلقيح حيوان منوي ما , لبويضة ما , فى زمن ما , فى مكان ما" .
لا توجد حرية بالمفهوم المثالى , فما نتصوره حرية هو حراك نقطة داخل شكل هندسى كل أضلاعه وزواياه هى مادية حصراً ومؤثرة على مسار النقطة , ليكون حراك النقطة التى نتصورها حرية هى محصلة تفاعل تلك الظروف المادية وقوة حد عن آخر , بل هذا الحد المؤثر الفاعل ليس إختياراً بل حالة مادية مهيمنة ذات حضور قوى .
- وهم الجمال .
يتصور البعض أن الجمال مفهوم مُستقل ليكون هذا الفهم بمثابة الخطيئة الكبرى , فبداية الجمال مفهوم نسبي تقديري يجد وجوده من وعي وتقديرالإنسان , فلا يوجد جمال فى الشئ ذاته أى لا توجد جزيئات مادية إسمها جمال بل هو إنطباع وتقدير الإنسان للأشياء لذا فهو نسبى وفق الإنطباعات الخاصة بالإنسان .
الأشياء النى نصفها بالجمال والقبح موجودة قبل وعينا بها ليتشكل إنطباع وتفاعل شخصى بالأشياء وفق إحتياجاتنا وتفاعلنا مع الطبيعة المادية , فمشهد غروب الشمس نراه جميلاً فمن أين جاء جماله ؟ جاء جماله من إستحسان حلول الغروب الذى يعنى العودة من مشقة يوم عمل مضنى مرهق لنربط إحساسنا بالراحة بالإستحسان ليكتسب مشهد الغروب صفة الجمال ويتم توريث هذه المفردة الجمالية فى الثقافة .
إذن الوجود المادى يسبق وعينا بالجمال فلو لم يكن هناك صور من الطبيعة ما كنا أدركنا الجمال , ثم يأتى التفاعل والإنطباع مع الطبيعة المادية ليُكَون ذوقنا وإحساسنا بالجمال .
- وهم سوبرمان .
فى مقالي السابق طُرح سؤال عن أن هناك عباقرة أفذاذ غيروا وجه التاريخ كوجود محمد والمسيح ونيوتن وأينشتاين وهتلر ألخ , لأرى هذا الفهم خاطئ بالرغم من شيوعه فلا يوجد وهم الرجل السوبرمان , بل قل أن التاريخ والزمن والظروف الموضوعية أفرز محمد والمسيح ألخ , فالفضل يرجع لجدلية وصراع تاريخي مادي , فلو لم يكن محمد والمسيح بالصورة التى عهدناها لظهرت شخصيات أخرى تصنع تاريخاً مشابهاً لتاريخ الشخصيات التى عهدناها .
سيطرح سؤال ما علاقة المادة السابقة على الوعى بهذا المشهد لنقول : لا نهمل تأثير المادة على النموذج الإنسانى , فالظروف الموضوعية والتطورية والتاريخية والبيئية والجغرافية وعلاقات الإنتاج تكون الشخصية الإنسانية من نتاج دمج هذه الظروف المادية وقوة كل حد فيها كحال السلوك البشرى لتنتج شخصيات فذة ومبدعة أو قميئة مرعبة .
لا أنفى الحالة الذهنية والنفسية والكاريزما الخاصة فى إنتاج المشهد ولكن تلك الحالة الذهنية والنفسية لن تخرج عن واقع مادي موضوعي أنتجها , كحال تخصيب حيوان منوي واحد من ملايين الحيوانات المنوية لبويضة , فالشخصية التاريخية هو بمثابة حيوان منوي يُخصب وهو فى النهاية نتاج حالة مادية .
- وهم الحقيقة .
من فكرة أن المادة سابقة على الوعى ليتشكل من الوجود المادي فمن هنا نكتشف وهم الحقيقة ! .. لعل البعض يستغرب من هذا الحكم فكيف تكون الحقيقة وهماً وهى إنتاج الظروف المادية , لنقول أن الوعى هنا عبارة عن زاوية رؤية خاصة وتركيبات ذهنية خاصة ليتباين المشهد من إنسان لآخر , أضف لذلك التركيبة الذهنية والخبرات والثقافة , فما إستنتجه من المشهد المادى يختلف عن إنسان آخر وهذا شائع فى المجتمعات الإنسانية .
من هنا تصبح مقولة الحقيقة المطلقة واليقين مقولات مهترئة خيالية يستحيل أن تتواجد كون الحقيقة المطلقة تعنى التحقق التام من الشئ عبر كل زمان ومكان وهذا يستحيل أن يتحقق , كما أن قاعدة الوجود المادي والظروف الموضوعية تُشكل الوعى فمن العبث القول بحقيقة مطلقة واليقين بها لإستحالة التطابق .
من هنا لنا أن نضع بعض النقاط على الحروف :
- أن المادة سابقة على الوعي ومُشَكلة لمفرداته كقاعدة ذهبية لا يجب أن تغيب عن أذهاننا وجدالنا فهى تنسف فرضيات وأوهام وخرافات كثيرة لذا من يريد إحياء فرضياته وأوهامه عليه إثبات أن الوعى مستقل سابق للمادة .
- عندما نفهم معنى المادة سابقة على الوعي ومشكلة لمفرداته فلا معنى لحشر تفسيرات ميتافزيقية غير مادية فى تفسير الحياة والوجود .
- تتباين الأفكار من قراءتنا للظروف المادية لذا تعتبر الفلسفة الماركسية الأفضل والأثرى كونها تعتمد وعي جدلي من الظروف المادية الحالية مُدركة للتطور والتغيير الحتمى بينما تعتمد الأفكار الأخرى على قراءة ووعى إنسان قديم صاحب ظروف مادية إجتماعية خاصة وسابقة ذو رؤية ثابتة .
- المنطق هو القراءة الصحيحة والحقيقية للواقع المادى والظروف الموضوعية , ومن هنا فأسبقية المادة على الوعى تعطينا بوصلة الفكر المنطقى , وفيما عدا ذلك فهو إحتيال وتلاعب بالكلمات .
- لا يعنى قولنا أن المادة سابقة على الوعى أن ننسى جدلية الحياة فهناك تأثير للوعي الذى تكون فى الحياة من فعل المادة على المادة ولكن هذا التأثير لن يخرج عن قراءة جديدة للواقع والظروف المادية المتاحة .. ولن تخرج الأمور فى النهاية عن التعامل مع قوانين المادة .
- المادة سابقة للوعى ومشكلة لمفرداته فلا معنى لتعظيم التاريخ أو تسخيفه , ولا معنى لتعظيم وتقديس شخصيات تاريخية , فالأمور لا تزيد عن ظروف مادية قهرية أنتجت الأحداث .
دمتم بخير.
- أجمل ما فى الإنسان هى قدرته على مشاكسة الحياة فهو لم يرتقى ويتطور إلا من قدرته على المشاكسة ومعاندة كل المسلمات والصنميات والقوالب والنماذج , وأروع ما فيه هو قدرته على السخرية من أفكاره فهذا يعنى أنه لم يخضع لصنمية الأفكار فكل الأمور قابلة للنقد والتطور .. عندما نفقد القدرة على المشاكسة سنفقد الحياة .
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع.
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟