|
لاهوت التنزيه
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 5496 - 2017 / 4 / 19 - 15:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
التنزيهية شذرة من شذرات اللاهوت. واللاهوت علم من علوم الدين يختص بمعرفة طبيعة الله وصفاته. وهي - كما هو ظاهر من لفظها – صناعة فكرية أو أداة ذهنية يُنزَّه بها اللهُ عن الصفات التي لا تليق به بحسب ذوق مالك هذه الأداة ومنطقه الخاص. وفاعل التنزيه فيها هو الإنسان؛ فيكون الله بذلك مفعولاً به يقع عليه فعل التنزيه من الإنسان. وقد يكون لنا مع هذا الاعتبار والتقدير شأن لاحق. فأما قبل ذلك، فلا بد من النظر في عقيدة التنزيه، من حيث إنها عقيدة لها مقومات ومنطق حجاجي، نظرةً نقدية غايتها الكشف عما فيها من فَنَد: تقوم عقيدة التنزيه على أن الله: "واجب الوجود، كامل، مطلق، فرد، صمد، بسيط، غني، منزّه…(1)“ وأول ما يستلفت الانتباه في هذا التحديد للذات الإلهية ومقوماتها، أن الله يتجلى فيه جوهراً تتبعه مقولات الكمال والمطلقية والإفراد والصمدية والبساطة والاستغناء بنسق شكلي يحاكي نسق نظرية أرسطو في المقولات. كما يستلفت الانتباه بعد ذلك، أن هذه (المقولات) أو الصفات – بتعبير أفصح - ليس بينها صفة واحدة جديدة تتفرَّد عن الصفات التي خلعها الفلاسفة الإلهيون، واللاهوتيون، وعلماء الدين على الجوهر الإلهي. مما يصح معه القول إن مقومات عقيدة التنزيه خليط من صفات مكررة مأخوذة من هؤلاء. فإذا جاوز المرء هذا، فألقى سؤاله: ما معنى أن يكون الله واجب الوجود، كاملاً، مطلقاً، فرداً، صمداً، بسيطاً، غنياً؟ ثم ما فائدة كل هذا الذي يوصف به الله بالإضافة إليه؟ تبين له في الجواب ما في عقيدة المنزِّه من الرِكَّة والكهامة: فأما واجب الوجود، فلفظ دال على أن الله، موجود وجوداً أزلياً أبدياً، وأن وجوده، لازم لا وهم منه. فأما الكامل، فالتام وهو ضد الناقص. فأما لفظ الفرد، فدال على الوحدانية؛ أي هو الله واحد لا يشاركه في الوجود إله آخر. فأما الصمد، فهو الخالد الباقي. فأما الغني، فهو المكتفي بذاته. فأما البسيط، فضد المركب. فأما المنزَّه، فهو الجوهر الذي أبعد عنه المنزِّه ما لا يحب له من الصفات. فيتضح من ذلك أن لكل صفة من هذه الصفات معنى قائماً فيها عبر عنه لفظ. واللفظ صوت. والصوت موضوع من قبل البشر بالاتفاق. ولأن الألفاظ من وضع البشر، فلا جرم أن تحتمل النبث في ما دلّت عليه من المعاني. والنبث في المعاني ههنا غايته النظر في الأبعاد الفلسفية والمنطقية لهذه المعاني؛ لمعرفة هل هذه الأبعاد متوافقة مع ما يرتضيه لها العقل؟ وها هي على التوالي: فأما معنى واجب الوجود، فيحتمل معنى جائز الوجود. إذاً فكيف سبيل المنزِّه إلى ترجيح الوجوب ونبذ الجواز؟ فإنه إن رجح الوجوب، فبم يكون قد أتى؟ أيكون أتى بغير ما أتى به الدينيون إذ قالوا مع الفلاسفة الإلهيين بأن الله واجب الوجود، وليس في جعبتهم من دليل على وجود واجب الوجود إلا اللفظ المرسل على عواهنه، والظن الأبتر؟ وأما صفة الكمال تضاف إلى الله – وبعض الدينيين لا يجوِّز إضافة هذا الوصف إلى الله - فلكالصلابة تضاف إلى الحجر. فكما أن الصلابة لا معنى لها عند الحجر يشاكل معنى الصلابة عند الإنسان، فكذلك الكمال لا معنى له عند الله يشاكل المعنى الذي له عند الإنسان. فإن أبى المنزِّهُ إلا أن يكون له عند الله عين المعنى الذي له عند الإنسان؛ فقد صار الله عنده حينئذ ليس شبيهاً بالإنسان فقط بل متبعّضاً أيضاً على أجزاء – وسيأتي تفسير التبعيض - وهذا مما يخالف عقيدته وينقضها. ثم ما معنى أن يكون الله كاملاً؟ أيشرف الشيء بالكمال ويتميز؟ فإن كان الشيء يشرف بالكمال ويتميز، فقد شرفت بالكمال وتميزت أشياء: فمن الأعداد ما هو كامل كالواحد، ومن الموجودات ما هو كامل كالطاقة، ومن الإنسان ما هو كامل كالخلية، ومن الهندسة ما هو كامل كالدائرة... بل إن كل موجود كاملٌ بذاته، فالناقص لا يوجد أصلاً. وإن تحقق في موجود نقصٌ بعد وجوده عرض لهذا الموجود الانقراضُ والزوال كما عرض لأسلاف البشر وللديناصورات إذ نقصت قدرتها على مغالبة ظروفها الطارئة، وكما سيعرض ذلك للشمس حين تستنفد طاقتها بالنقصان التدريجي. ومن جهة، فالله إذ هو كامل، لا بد أن يكون ضديداً لناقص. إننا لا نستطيع أن نفهم معنى كمال الله إلا بعرض كماله على ناقص؟ فأي شيء هو هذا الناقص الذي يمكننا أن نعرض الله عليه لنفهم حقيقة كماله؟ أهو واحد من الموجودات المادية؟ أهو الإنسان؟ أهو كائن آخر من الكائنات الحية؟ أهو العدد؟ أهو...؟ فإن كان واحداً منها، أو كان جميعها، فهل يجوز عرض كمال الله عليها – وهذا في حال الاعتقاد بأن هذه الأشياء ناقصة، وهي ناقصة في نظر المنزِّه - والله مفترق عنها بعظمته وجلاله؟ إن الله لكي تُفهم صفة كماله حق فهمها، يجب أن يقاس بذاته وبصفاته إلى إله آخر ناقص بذاته وبصفاته. ولكن هل ثمة إله آخر ناقص بذاته وبصفاته ليقاس الله عليه؟ فأما معنى الوحدانية، فإنه ليصك الجبين صكاً بسؤال: هل الله واحد في الوجود حقاً؟ ولا مفر للمنزِّه من الرد عليه بالإيجاب. وحينئذ يرد عليه المعترض بسؤال أيضاً: فما هذا الكون بإزاء الله؟ أليس وجوداً مشاركاً لوجود الله؟ فإن قال المنزِّه: كلا، ليس هذا الكون إلهاً ليكون مشاركاً لله في الوجود. قال المعترض: إن الوحدانية بالإضافة إلى الله مطلقة! ولأنها مطلقة، فقد وجب أن يمتنع امتناعاً على الإطلاق أن يكون بإزائها وجودٌ غير وجودها، سواء أكان هذا الوجود مادياً أم كان روحياً، وإلا كانت الوحدانية نسبية بين إله وإله وهذا خلف باطل. فإن قال المنزّه إثر ذلك: إنما الله روح ينفذ في الوجود المادي بلا عوائق، قال المعترض: إذاً فقد تحيز الله إذ ينفذ في الوجود المادي. وكيف يتحيز الله، والله في لاهوت التنزيه منزَّه عن التحيز!؟ فأما معنى الصمد الذي يضاد العدم – وهو المعنى المقصود عند المنزه - فيقابله وجود الكون. فإن الكون بما هو وجود، صمدٌ باق بهيولاه لا ينعدم في حساب علماء الفيزياء الكونية وإن استحال إلى نقطة أصغر بملايين المرات من نقطة في نهاية جملة. فإذا كان لصمدية الله مقابل، فما قيمة صمديته؟ فإن أنكر المنزه صمدية الكون، فعليه في هذه الحالة أن يأتي على ذلك الإنكار ببرهان رياضي ينقض برهان علماء الفلك، وإلا فلن يكون لإنكاره قيمة أو وزن. فأما إن الله غني مكتف بذاته، ففكرة لا تثبت أمام خلق الكون والإنسان… فإن الله لو قد كان غنياً بذاته عن كل شيء، فلماذا خلق الكون والإنسان؟ وكذلك إذا كان غنياً عن كل شيء، فلماذا ليس غنياً عن التنزيه؟ فأما أن يكون الله بسيطاً بحجة أن المركب ينحل ويتفكك إلى أجزاء، أما البسيط فلا … فمردود بالسؤال: ألا يمكن أن يكون الله مركباً، ولا ينحل؟ وبالسؤال: إن كان الله بسيطاً، فكيف للبسيط أن يخلق؟ وبالسؤال أيضاً: إن كان الله بسيطاً، فكيف يوصف البسيط بالكمال والكمال هو أن تتم أجزاء الشيء، والبسيط لا أجزاء له؟ فأما معنى الإطلاق، فأن يمتد المطلق في اللا نهاية. ولكن كيف يكون الله ممتداً بلا نهاية، وثمة عائق يعوق امتداده وهو الكون كما تقدم؟ فإن يكن الله مطلقاً يسد كل الجهات – إن جاز أن تنسب للمطلق جهات - من اللا نهاية إلى اللا نهاية، فأين موقع الإنسان في هذه اللا نهاية، أهو في داخلها أم في خارجها (والخارج ممتنع)؟ ويبلغ المنزِّهُ بمذهبه قصاراه حين يجعل الله منزَّهاً عما يستكرهه له من الصفات والأفعال. ولكن هل يجوز أن ينزّه الله عن صفات وأفعال يستكرهها المنزِّه؟ إن القول بجواز ذلك، يفضي إلى فكرة باردة كالجليد يتقرقف منها العقل ولا يدفأ. وتتمثل هذه الفكرة الباردة في تدمير قدرة الله المطلقة وحريته، إرادته، مشيئته. فإن الله يجب أن يكون حراً حرية مطلقة يفعل ما يشاء من خير ومن شر، وليس لبشر أن يقيده بقيد مما يحب له أو لا يحب من الصفات والأفعال. فماذا يكون البشر حين تكون له القدرة على أن يخضع إلهه ذا القدرة المطلقة والمشيئة المطلقة لإرادته!؟ وماذا يكون إلهه حين يرضخ لإرادة هذا البشر؟ هل يكون إلهه في هذه الحالة شيئاً آخر غير قطعة من الرخام بيد نحات، أو عجينة من الشمع بيد فتاة في حصة الأشغال؟ بيد أن للمنزِّه منطقه، فهو يرى أن الشرّ بكافة ألوانه إذا نسب إلى الله أضرت نسبته إليه بكمالاته. فإن نسب إلى الله أنه يتجسد، أو يموت، أو يظلم، أو يعبث، دل ذلك في منطقه على أن الله، وإن كان قادراً على أن يتجسد ويموت ويظلم…، لا يفعل ذلك – ولا أحد يدري كيف يكون للخالق قدرة مطلقة ثم إنه يعطلها ! - لأن ذلك ممتنع عنده في العقل أولاً، ومنقص من كماله ثانياً. فأما امتناع حدوث ذلك في العقل، فيرد عليه: بأي عقل.. أبعقل الله أم بعقل البشر؟ فإن قال بعقل الله، قيل له: وكيف علمت أن ذلك ممتنع في عقل الله؟ ثم كيف يكون شيء ممتنعاً في عقل الله؟ فإن قال بعقل البشر، قيل له: وهل يصح إن امتنع ذلك في عقل البشر، أن يمتنع في عقل الله؟ إن عقل البشر قاصر، ولكن عقل الله بريء من القصور. ومثال ذلك أن عقل البشر يعجز عن تصور أن جزيئاً من الذرة، يحل في مكانين متباعدين في آن واحد، فهل يصح أن يرفض العقل هذه الحقيقة لأنها من الحقائق التي لم يعتد على تصورها عقلُه؟ فأما امتناع حدوث ذلك، لأن ذلك ينقص من كمالات الله، فيرد عليه: ما هي كمالات الله بالإضافة إلى الله ذاته؟ هل كمالاته مثل الكمالات التي عند البشر؟ حسن! أفلا يكون الله كاملاً في نظر الله، إن هو استحال إلى بشر؟ فإن قال المنزّه إن تحول الله إلى بشر إهانة، قيل له: هي إهانة في نظرك أنت لا في نظر الله، ثم كيف تلحق إهانة بالله، والله لا يهان ألبتة؟ والأخطر من ذلك أن المنزِّه يصف الله بصفة البسيط، والبسيط لا يتغير. ولكن المنزِّه لا يراعي أنه يقوض هذه الصفة حين يجعل الله في حالة التحول متغيراً: فمن الكمال والكرامة، إلى النقص والمذلة. مما يوحي بأنه يطلق لفظه بلا روية! ___________________ (1) الأستاذ ضياء الشكرجي http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=547059
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مناظرة المسيحي والمسلم
-
قصة التحولات الفجائية 7
-
قصة التحولات الفجائية 6
-
قصة التحولات الفجائية 5
-
قصة التحولات الفجائية 4
-
قصة التحولات الفجائية 3
-
قصة التحولات الفجائية 2
-
قصة التحولات الفجائية
-
قضية الفعل (جَبَرَ) بين العقاد وجبران
-
ذهان رويدة سالم 4
-
ذهان رويدة سالم على منهج الأورغانون 3
-
ذهان رويدة سالم على منهج الأورغانون 2
-
ذهان رويدة سالم على منهج الأورغانون
-
العرقيون
-
حلم فرانتس كافكا
-
محاورة المؤرخ شلومو زاند
-
حديث الروح والمادة
-
ديالكتيك الدين والدَّيِّن
-
خابية الكنز المفقود 9
-
خابية الكنز المفقود 8
المزيد.....
-
هذا الهيكل الروبوتي يساعد السياح الصينيين على تسلق أصعب جبل
...
-
في أمريكا.. قصة رومانسية تجمع بين بلدتين تحملان اسم -روميو-
...
-
الكويت.. وزارة الداخلية تعلن ضبط مواطن ومصريين وصيني وتكشف م
...
-
البطريرك الراعي: لبنان مجتمع قبل أن يكون دولة
-
الدفاع الروسية: قواتنا تواصل تقدمها على جميع المحاور
-
السيسي والأمير الحسين يؤكدان أهمية الإسراع في إعادة إعمار غز
...
-
دراسة تكشف عن فائدة غير متوقعة للقيلولة
-
ترامب يحرر شحنة ضخمة من القنابل الثقيلة لإسرائيل عطّلها بايد
...
-
تسجيل هزة أرضية بقوة 5.9 درجة قبالة الكوريل الروسية
-
مقتل ثلاثة من أفراد الشرطة الفلسطينية بقصف إسرائيلي لرفح
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|