|
ما بين نظرية الوجود لأفلوطين ونظرية الانفجار العظيم
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 4831 - 2015 / 6 / 8 - 15:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
افلوطين، لمن جهل افلوطين أو نسيه، فيلسوف مصري – يوناني من العصر الهيلينستي، ترجم له (يوسف كرم) في كتابه المعروف (تاريخ الفلسفة اليونانية) ومما جاء في ترجمته له أنه: ((ولد في ليقوبوليس من أعمال مصر الوسطى سنة 205 ميلادية، وبقي بها إلى الثامنة والعشرين، ثم قصد إلى الاسكندرية وتتلمذ لأمونيوس الملقب بساكاس أي الحمال لأنه كان حمالاً قبل أن يشتغل بالفلسفة... وظل أفلوطين يأخذ عنه إحدى عشرة سنة. ثم أراد أن يقف على الأفكار الفارسية والهندية، فالتحق بالجيش الروماني المجرد على فارس. ولكن هذا الجيش بعد أن طرد الفرس من سوريا انهزم في العراق، فلجأ أفلوطين إلى أنطاكية ثم رحل إلى روما سنة 245 وأقام بها حتى مماته سنة 270. وكان مجلسه بها حافلاً بالعلماء وكبار رجال المدينة حتى لقد تتلمذ له الامبراطور والامبراطورة لسمو نفسه وعظيم حكمته في إرشاد مريديه في الحياة الروحية. ولم يشرع في الكتابة إلا حوالى الخمسين. كان يكتب أو يملي على عجل ويدع لتلميذه وكاتب سره فورفوريوس مراجعة الأوراق. كتب أربع وخمسين رسالة هي صورة لتعليمه الشفوي، وكان تعليمه شرحاً على نص لأفلاطون أو لأرسطو أو لواحد من شراحهما، أو على قضية رواقية أو على دعوى شكية أو جواباً عن سؤال أو رداً على اعتراض. فليست رسائله عرضاً منظماً لمذهبه ولكنها سلسلة محاضرات لتوضيح نقط خاصة بالرجوع إلى مذهب أفلاطون. والموضوعات المأثورة هي أقوال أفلاطون في الخير والجمال والحب والجدل كما وردت في تيماوس والمأدبة وفيدروس والمقالتين السادسة والسابعة من الجمهورية. والموضوع الرئيسي النجاة: نجاة النفس من سجنها المادي وانطلاقها من عالم الظواهر إلى موطنها الأصلي عالم الوجود والحقيقة. والمنهج تارة الجدل الصاعد من الظواهر إلى الوجود، وطوراً الجدل النازل من الوجود إلى الظواهر. وبعد وفاته جمع فورفوريوس الرسائل وقدم لها بترجمة لأفلوطين ووزعها على ستة أقسام في كل قسم تسع رسائل متابعة لاعتقاد الفيثاغوريين بمزايا الأعداد فسميت بالتاسوعات. ويمكن أن يقال إن التاسوعة الأولى خاصة بالإنسان، والثانية والثالثة بمحيطه أي بالعالم المحسوس، والرابعة بالنفس، والخامسة بالعقل، والسادسة بالوجود. )). فلما كانت الغاية من هذه الخاطرة الضئيلة، تبيين وجه الشبه بين تصور افلوطين للوجود في نشأته وبعض أحواله، وبين تصوره لدى علماء الفيزياء المعاصرة المؤيدين لنظرية الانفجار العظيم، كان من اللائق ألا تتجاوز الخاطرة غايتها المحددة إلى غايات أخر، وما أكثرها حينما يشرع دارس بالبحث في سيرة افلوطين العقلية والروحية، وفي تأثيراتها العميقة في عصرها وفي العصور اللاحقة بعصرها! إذن فإن مقارنة مبدأ الوجود لدى افلوطين، بنظرية الوجود الفيزيائية المعاصرة (نظرية الانفجار) هي الغاية التي تطمح إليها المقالة. فما هو مبدأ الوجود لدى افلوطين؟ وأين يقترن بنظرية الانفجار العظيم؟ يقوم مبدأ الوجود لدى افلوطين، على قاعدة الفيض: وتفسيرها أنه في البدء – ولا بدء – كان الأول (البارئ، الله) ففاض الأول بالعقل، ومن هذا العقل جاءت النفس الكلية، ومن النفس الكلية جاء عالم الذر، أو المادة المتنوعة الحية والجامدة (ولا جمود للمادة، فكل شيء في نظره حتى الحجر تسري فيه كهرباء النفس). وعلى هذا فإن كلَّ الذي كان، وكل ما هو كائن، وكل ما سيكون من موجودات، مصدرُه الأول. ولكن ما هو الأول؟ ما حقيقته؟ إن الأول عند افلوطين، جوهر خالص مفرد واحد عاطل من شوائب المادة ومن الانفعالات، إنه قوة فاعلة غير منفعلة سرمدية مولِّدة (خيّرة) تتمتع بوجود أزلي مطلق لا مثيل له بين الموجودات. بيد أنه، على الرغم من تمتعه بوجود حقيقي، فإن وجوده (ذاته) لا يدرك بالعقل ولا بالحواس؛ وذلك لأن وجوده، في اعتقاده، يسمو فوق كل مستويات الإدراك والحس؛ أي أنه، بتعبير آخر، يستحيل أن يعرف. ولكن كيف يجوز أن يوصف بأنه جوهر واحد خالص خير فاعل خالق، وهويته مجهولة ومعرفته في ذاته مستحيلة؟ كيف يمكن للمرء أن يتحدث عن جوهر ويسند إليه محمولات محددة، والمرء ليس يعقل هذا الجوهر، وليس يتحسسه؟ يجيب افلوطين على هذا الاعتراض بأن وجود الأول - وإن لم يكن معلوماً في ذاته كيف هو - يستطيع المرء أن يستشعره بالتأمل في طبيعة الموجودات. فإن جميع الكائنات تتوق إلى الخير (الحياة، السعادة، الجمال، النظام والكمال...) وتتشوقه، ولما كان الذي يتاق إليه ويُتشوّق، لا بد من وجوده، إذ من المحال أن يتاق إلى شيء لا وجود له، بات وجود الأول حقيقة ثابتة. ولكن لماذا الأول؟ لماذا الأول هو الخير؟ ألا يمكن أن يكون الخير جوهراً آخر غير الأول؟ ثم كيف يصح أن يكون الأول بوحدانيته الخالصة خيراً والخير ممتزج باللذة؛ أي أنه مركب من شيئين: النفع والمتعة، والتركيب يهدم الوحدانية؟ يستعين افلوطين في الرد على هذه التساؤلات بنظريته الوجودية المتمثلة في أقانيمها الثلاثة: الأول، العقل، النفس. فيستبعد أن تكون النفس المصدر الأول للخير؛ لأن النفس هي صورة العقل وهي تستمد خيرها منه، ثم يستبعد أن يكون العقل مصدر الخير؛ لأنه بدوره يستمد خيره من الأول (الآب) الكامل الذي يفيض كماله بالخيرات مثل كل الأشياء – يستخدم افلوطين التمثيل رغم أنه يرى الأول لا مثيل له - التي إذا اكتملت فاضت بخيرها، كالأنثى تضع، وكالوردة المتفتحة تعبِّق الجوَّ بأريجها، وكالشمس تنشر ضوءها، وكالنبع ينبجس منه الماء، وكالمزنة ترشّح بالقطر. ولكن ما علة وجود الأول؟ يجيب افلوطين إن الأول هو الذي خلق ذاته بذاته بفضل كماله الذي يمتلك حرية مطلقة. فإذا سئل: أيكون الأول قادراً بحريته المطلقة على ألا يوجد؟ رد قائلاً: لا ينبغي التفكير بهذه المسألة على هذا النحو؛ لأن التفكير بها على هذا النحو، يشتمل على خطأ في فهم الحرية إذ يعتقد أن الحرية قدرة الشيء على مفارقة طبيعته وهي ليست كذلك، ويفترض أنه كان خلاء وفجأة جاء الأول فملأ هذا الفراغ. والحق، في نظره، أن الأول لا يملأ مكاناً فارغاً لأنه هو المكان إطلاقاً وهو في كل مكان وكفى. وهذا التصور يكاد يضارع تصور العلماء لنشأة الكون. فالكون عندهم كان نقطة (ذرة بل ذريرة) وكانت هذه النقطة هي المكان ولم تكن في مكان، ثم انفجرت فصارت في كل مكان. ولو طرح عليهم السؤال كما طرح على افلوطين: ما علة وجود هذه النقطة؟ فإنهم - أغلب الظن - لن يجدوا غير أن يردوا بما يشبه ردّه قائلين: هي نقطة كانت (كائنة كانت) وكفى! ولا يقتصر التشابه بين النظريتين في هذا فحسب، فإن النقطة فضلاً عن ذلك، تشبه الأول: في أنها لا تدرَك بقوانين الفيزياء، كما لا يدرك الأول بالعقل والحس، وفي أنها أبدعت الكون بنفس التسلسل الذي أبدعه أولُ أفلوطين، فمن هذه النقطة التي تقابل (الأول) عنده ستنبثق النويّات الذرية (البروتونات النيترونات الالكترونات) كما انبثق بالفيض العقلُ بماهياته من الأول. ومن هذه النويات الذرية التي يتكون منها الهيدروجين والهيليوم والليثيوم وغير ذلك من المواد، جاءت الجاذبية التي ستقابل (النفس الكلية) لتخلق المجرات بنجومها وأقمارها وثقوبها السوداء... وهذه المجرات مجتمعة ستقابل (العالم) عند افلوطين. ولا ريب في أن العلماء لا يرون المادة الأولى ولا المواد التي انبثقت منها والتي تكوّن منها الكون، كما رآها افلوطين حية عاقلة، ومع ذلك فإن التماثل بين النظريتين خارج هذه الرؤية، ملحوظٌ، وإنه لمما يثير الدهشة، ويقوي الاعتقاد بوحدة العقل البشري وفاعليته على امتداد الأعصر وتنائيها.
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شرح مختصر على مبدأ الهوية
-
استحالة لاودي عن سنخه إلى إنسان
-
العازفة على الحروف
-
محاورة الربيعي
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة السادسة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الخامسة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الرابعة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الثالثة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الثانية
-
حدثَ في عرس رنيم (1). رواية قصيرة
-
محاورة الربضي
-
مسألة الضرورة والحرية، بما هي مسألة وجودية
-
وصيد المعنى
-
محاورة رمضان عيسى
-
ما العلة الحقيقية في انهيار سوريا
-
معضلة الروح
-
في رحاب المطلق
-
أنتي مالوم أبو رغيف. أو فلسفة التغيير
-
شبح الطحان شمس الدين الكردي
-
إلى السيدة الفاضلة الأديبة ليندا كبرييل
المزيد.....
-
إسرائيل تُعلن تأخير الإفراج عن فلسطينيين مسجونين لديها بسبب
...
-
الخط الزمني للملاحقات الأمنية بحق المبادرة المصرية للحقوق ال
...
-
الخارجية الروسية: مولدوفا تستخدم الطاقة سلاحا ضد بريدنيستروف
...
-
الإفراج عن الأسير الإسرائيلي غادي موزيس وتسليمه للصليب الأحم
...
-
الأسيرة الإسرائيلية المفرج عنها أغام بيرغر تلتقي والديها
-
-حماس- لإسرائيل: أعطونا آليات لرفع الأنقاض حتى نعطيكم رفات م
...
-
-الدوما- الروسي: بحث اغتيال بوتين جريمة بحد ذاته
-
ترامب يصدر أمرا تنفيذيا يستهدف الأجانب والطلاب الذين احتجوا
...
-
خبير: حرب الغرب ضد روسيا فشلت وخلّفت حتى الآن مليون قتيل في
...
-
الملك السعودي وولي عهده يهنئان الشرع بمناسبة تنصيبه رئيسا لس
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|