|
عبد الحليم حافظ .. مطرب ضد الموت
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 4770 - 2015 / 4 / 7 - 10:43
المحور:
الادب والفن
عبد الحليم حافظ حالة فنية نادرة لا تكاد تماثلها حالة أخرى ، فقد تسلل الفنان الموهوب إلى وجدان الشعب العربي وتغلغل في روحه على مدي يتجاوز ربع القرن من 1951 حتى رحيله الجسدي عام 1977، ولكنه بقي المطرب الأول حتى اليوم رغم انقضاض الموت عليه وهو في عز الشباب وسيظل كذلك لعقود طويلة قادمة لأن الخالق سبحانه وتعالي خلقه بصورة وسمات يمكن أن توفر له القدرة على أن يمتلك حضورا مثل حضور الثلاثة الكبار أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش ليتصدر الأربعة المشهد الغنائي خلال القرن العشرين وأحسب أن شمسهم لن تغيب خلال الفرن الواحد والعشرين أيضا .فما الذي أعد الله له وزوده به من منح ومواهب ومن شخصيات ساندته ووقفت إلى جانبه ومن معاناة وآلام ونجاحات وإلهامات ليكون عبد الحليم في حياته وفنه هذه البلورة الفنية التي طلعت علي الجماهير واجتذبت الأنظار و ليبلغ مكانة لافتة منذ السنوات الأولي ومضت شجرة الإعجاب به تنمو وتترعرع كلما مرت الأيام ونضجت التجربة رغم وجوده بين سادة الغناء ذائعي الصيت؟ • ولد عبد الحليم شبانة في 21 يونيو عام 1929بقرية الحلوات بمحافظة الشرقية وبعد أيام ماتت أمه وبعد شهور مات أبوه ،وهكذا انتقل بجدارة إلى عالم اليتم قبل أن يمشي على قدميه ، ليتولي تربيته خاله . • ذهب إلى الكتاب ليحفظ القرآن ويدرس اللغة العربية والحساب لكنه كان أكثر إقبالا على السباحة في الترعة التي شحنت جسده بالبلهارسيا وصالت وجالت في بطنه وكبده . • كان أخوه الكبير إسماعيل شبانة مطربا ومدرسا للموسيقى فالتصق به وبتلاميذه لينصت للفن الجميل الذي يحلق بأنغامه دون كلام في فضاء الروح والخيال . أخذ يتنسم عطر الموسيقي الرهيف الوديع حتى استقر في روعه أن الموسيقى هي الحياة وغيرها الموت ، وكل ما له علاقة بها له علاقة بالجمال والحب والتسامح . • جعلته الموسيقي يحب الطبيعة الجميلة الحنون وأدرك مبكرا أن الورود ذاتها تعزف الموسيقي ولا تفوح بالعطر فقط ، وبدأ يتعامل مع الطبيعة على أنها فرقة موسيقية لا تكف عناصرها عن عزف الألحان الجميلة والمتعددة ، فالتمس الموسيقى في مشية الفرس وفي دعاء الكروان وشدو العندليب وزقزفة العصافير وهديل الحمام واليمام وصهيل الحصان وخرير المياه ورقص الشجر مع الرياح ، وحنين القمر للسهر ، وشوق الأرض الظامئة للمياه واحتضان الأم لأطفالها ، كما التمس الموسيقي في الدعاء والصلوات والآذان في المساجد وأجراس الكنائس .. هكذا شربت روحه ونهلت من نبع الموسيقي الصافي. • التحق بمعهد الموسيقى العربية عام 1943 وتعرف على رفيق الدرب كمال الطويل ، وقرر عبد الحليم أن يدرس التلحين مثل أخيه وقرر كمال الالتحاق بقسم الغناء والأصوات ، وجمعتهما السنوات الطويلة معا وقدما أبدع الألحان ، وأكرم الله عبد الحليم بعبد الوهاب و الموجي وبليغ ، كما أكرمه بحافظ عبد الوهاب الذي رعي مسيرته في البداية وأول من قدمه للإذاعة ورضي أن يحمل اسمه بدلا من "شبانة " . • تخرج عبد الحليم من معهد الموسيقي عام 1948 وسرعان ما قبل العمل مدرسا للموسيقي في مدرسة طنطا الثانوية مثل أخيه إسماعيل لعدة سنوات ، ثم التحق بفرقة الإذاعة الموسيقية عام 1951 عازفا لآلة " الأبواه " . • أقنعه الطويل أن يغني في حين انتقل كمال للتلحين ، أي أنهما تبادلا المواقع والمهن واستجاب حليم وبدأ بغناء قصائد الشعر لصلاح بعد الصبور وأحمد مخيمر ومصطفي عبد الرحمن وغيرهم حتى التقي كوكبة من كتاب الأغنية المميزين مثل مرسي جميل عزيز ومأمون الشناوي وإسماعيل الحبروك وسمير محجوب وفتحي قورة وحسين السيد وصلاح جاهين وسواهم ممن أسهموا في بناء عمارته الشاهقة وقد انضم إليهم بعد ذلك عبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور . • بدأ يشعر بالآلام الجسدية من تأثير الكبد منذ عام 1956 والذي استمر يتفاقم بمرور الأيام حتى اختطفه الموت . • قدم للسينما ستة عشر فيلما ، و235 أغنية تناولت كل ألوان المشاعر والأفكار ، منها السياسي والعسكري والغرامي والإنساني والديني وما يخص الطبيعة والنيل وغيرها. • كان حليم منظومة من المشاعر تمشي على قدمين ،وهو دون منازع نجم الرومانسية الأول في القرن العشرين . عبّر عن شتى العواطف الفياضة واستلب القلوب وزرع فيها بأدائه البديع والشجيّ الميل للحب والوطنية. • كانت الثورة المصرية وزعامة العظيم عبد الناصر مصدر وحي وإلهام له ، وكان ذا تعاطف ومؤازرة دائمة لها في كل المواقف سواء في الانتصار أو الهزيمة ، وكان بهذا نموذجا رائعا للفنان العضوي الذي يلتحم بالجماهير وتطلعاتها ويصبح المعبر عن معاناتها والمضمد لجراحها. • غرس اليتم في روحه الإحساس بالوحدة وغياب الحنان ، وتسلل هذا الإحساس إلى نبرات صوته التي تشربت الأسى وتشبعت بالشجن ،وتأكد هذا مع تغلغل المرض وابتلاء كبده بالفيروسات التي اقتضت إجراء أكثر من ستين عملية بين بسيطة ومعقدة في داخل مصر وخارجها، وصدق من قال :إن الألم العظيم كثيرا ما يخلق المجد العظيم . عرفت عبد الحليم في الستينيات إبان عملي في استديو مصر منذ عام 1962 ، وكان لقاؤنا دائما في قاعة التسجيل الصوتي إذ لم يكن في مصر كلها قاعة كبري ومجهزة على أعلى مستوي لتسجيل الأغاني إلا في استديو مصر وكان مهندسها البارع صديقي نصري عبد النور صاحب الأخلاق الرفيعة ، واعتاد الكبار عبد الوهاب وأم كلثوم وحليم الحضور نحو العاشرة مساء لتسجيل أغانيهم الجديدة حيث يحتشد كبار العازفين الذين يتجاوز عددهم السبعين عازفا ، وكنت قد اتفقت مع نصري على أن يبلغني كلما حضر أحد من الكبار للتسجيل حتى أنتظر وأسهر معهم . لاحظت أن حليم يعترض كثيرا على عزف بعض العازفين ، فيدهش نصري ويقول له : كل الأجهزة تدل على أن العزف جيد وكل الآلات متناغمة ومنسجمة فلماذا الاعتراض . يقول حليم بمنتهي الرقة : إن حلمي عازف الكمان الثالث من اليمين في الصف الخامس تأخر عُشر ثانية .. يدهش الجميع بمن فيهم نصري وأنا أكثرهم ويصر حليم على الإعادة ، ويظل يعترض حتى تشرق الشمس وتكون الفرقة قد سجلت " كوبليه " واحد بالعافية . وأسأل نفسي : إلى هذه الدرجة يمكن لشخص أن يكون أدق من الأجهزة الحساسة التي جددها مديرنا موسي حقي شقيق أديبنا الكبير يحي حقي ، والحديث يطول عن حساسية الرجل وعشقه العجيب لفنه. أما معاناته الحادة فقد شهدها آخر أفلامه " أبي فوق الشجرة " خاصة في مشاهد الكباريه التي اقتضت تعرضه لدخان سجائر متواصلة من نادية لطفي فتاة الليل ، وحسين كمال مُصر أن يعيد ويعيد ويعتذر لحليم لكنه يطلب الإعادة ،وقد اضطر حليم للسفر للخارج عدة مرات للعلاج أثناء التصوير ويسرع بالعودة كي يكمل تصوير الإخراج المبهر للأغاني .
#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اذكروا هذا التاريخ
-
رسالة إلى إرهابي
-
استيقظوا واتحدوا أو موتوا (2)
-
استيقظوا واتحدوا أو موتوا 1
-
سليمان فياض .. الحكّاء الفريد
-
أنا والحكيم والسقف
-
تقدموا للجنائية الدولية بهذا الفيلم
-
الحكمة تقتضي تحريرهم
-
صعود كتابة المرأة المشهد والأسباب
-
فرانداعشتاين
-
مستقبل النفط العربي مهدد
-
لماذا تحكم علي مفكر بالإعدام ؟
-
كشف حساب 2014
-
صديقي الضخم بحجم عصفور
-
يجتهدون لتمزيق الوطن
-
من يشتري الأحزاب المصرية؟
-
مقاييس التعاسة في مصر والعالم
-
رحلة ممتعة إلى أيرلندا
-
في حضرة شيخ الأدباء
-
رحيل مبروك .. رحيل عصفور الكناريا
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|