|
من سفر التطور – في النظام داخل العشوائية.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 02:21
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
اكتسبت العشوائية سمعة سيئة في أوساط المؤمنين بالخلق و نظرية التصميم الذكي نتيجة َ الفهم الدارج للكلمة على أنها نقيض النظام و الترابط الهادف و الذي يستطيع أن يُخرج نتائج متداخلة تعمل في منظومة و تحقق أهدافا ً و تكون قابلة للإستمرار و الاستدامة بدون انهيار، و كونها ما زالت تصف في الوعي الشعبي مرادفات الهدم و نواقض الُبنيان و انعدام الإنتاج.
تتبنى شعوبنا العربية المؤدلجة السببية الهادفة كتفسير لعلة وجود الكون و الكائنات، و تؤمن أن هذه الكائنات هي نتيجة ترجمه للرغبة الإلهية كما "شاء الله" في تصوره و حكمته، بمعنى و كمثال أن ظهور الإنسان في شكله الحالي المُنتصب بذات تركيبه الفقري و عدد عظامه و ترتيب أعضاءه في مواقعها و تحديد وظائفها هو إخراج ُ الله المقصود و الذي كان موجودا ً في التصور الإلهي لشكلنا كما أراده أن يكون، أي أن الله "قصد" و "أراد" و "خطط" و "نفذ" لكي يكون للإنسان خمس أصابع في الكف الذي هو جزء ٌ من اليد التي أراد الله أن تكون متصلة بالساعد الذي هو جزء ٌ من الذراع، و التي هي بذات المشيئة الإلهية واحدة ٌ من اثنتين، و هذا العدد أيضا ً مقصود، في جسد ٍ فيه كليتان، و قلب و كبد و أعضاء، كل واحد منها مُركَّب حسب المخطط الإلهي، لينتج في النهاية شكل الإنسان كما هو. و لكم أن تقيسوا هذا على كل الكائنات من حيوانات ثدية و غير ثدية و حشرات و أشجار و نباتات و حتى البكتيريا و الفيروسات، على هذا الكوكب الذي هو بحد ذاته قُصد له أن يكون موجودا ً بتكوينه الحالي في موقعه من المجرة التي هي موجودة ضمن مجرات أيضا ً بسابق تخطيط إلهي، في هذا الكون، الذي هو أيضا ً و بنفس الفكر و العقلية و الإيمان قُصد و أُريد له أن يعمل كما يعمل. و بهذا وقف تعقيد الكون و عجز الإنسان عن إدراك كنهه و قوانينه كحاجز يمنع اجتيازه نحو العشوائية لفهم ماهيتها و دورها في ظهور الكون و الكائنات.
سأقدم في هذا المقال فهما ً ميسرا ً للعشوائية كما يكشفها العلم الحديث حتى نتمكن من إعادة تعريفها العلمي الصحيح و إبراز مدى انسجامها مع النظام الموجود داخل الكائنات و وظائف أعضائها، و لكي نبدأ بداية ً صحيحة ينبغي أن نعود إلى ما كشفه العلم الحديث من عمر ٍ للحياة على كوكبنا، و سنعود بالتحديد إلى ما قبل ستمئة مليون عام (600 مليون) حين بدأت حيوانات ٌ بسيطة جدا ً بالظهور متطورة ً من أشكال من عديداتٍ لخلايا بدأت في الماء.
إن وجود عديدات الخلايا بتكوينها يقودنا إلى التفكير و البحث عن خصائص جيناتها و قدرة هذه الخلايا على التفاعل مع البيئة المائية المحيطة و الخلايا الأخرى الموجودة في البيئة المائية في ظروف حرارة و ضغط تثبت و تتغير مع حاجتها لنشاطات الأيض الكيميائي لتزويد ذاتها بالطاقة و التخلص من الفضلات و حفظ وجودها و تكاثرها، و كان لزاما ً على هذه الخلايا أن تتفاعل مع العناصر الكيميائية الموجودة في تلك البيئة و تستوعبها و تبني عليها و تكتسب حُلفاء ً لها من خلايا أخرى تندمج معها تؤدي لظهور كائنات أكثر تعقيدا ً بخلايا أكثر تقدر على أن تصمد و تستمر و تمرر جيناتها إلى كائنات ٍ أعقد تنتج عنها، و قد استمر هذا الأمر حوالي مئة مليون عام (100 مليون) لحين ظهور أسلاف الأسماك الحالية.
نفهم العشوائية هنا في هذه المئة مليون عام على أنها تفاعل الكائنات مع الاحتمالات البيئية و حسب قدرتها في ذلك الظرف الكيميائي و البيولوجي لينتج عنها ما قدرت عليه تلك الكائنات، و هذه العشوائية بنتائج تفاعل الكائنات البسيطة و البدائية تفسر سبب ظهور أشكال عديدة من الكائنات، فكل كائن تفاعل مع البيئة بطريقته و حسب قدرته و إمكانياته و حسب سهولة أو صعوبة البيئة البيولوجية أنتج أسلافا ً سابقين و أنواعا ً مختلفة عن تلك التي نتجت من تفاعل مختلف لأسلاف أخرى كان لها تفاعلها الآخر، و هو التنوع الذي بعد أربعمئة مليون سنة (400 مليون) أدى إلى امتلاء الأرض ليس فقط بالأسماك لكن بالبرمائيات التي خرجت من الماء باحثة ً عن بقاء ٍ مزدوج فوق اليابسة غير مُتخلية ً عن بيئتها المائية الأصلية بينما اختارت بعض الأسماك بواسطة استقرارها "المعيشي" و توازنها التفاعلي أن تبقى في الماء أسماكا ً، في ذات الوقت الذي تخلت فيه بعض البرمائيات عن العودة للماء و اختارت ثبات اليابسة استقرار الأرض كبديل ٍ نهائي عن البيئة المائية، مُطورة ً في أجسادها التنفس الهوائي بواسطة "الرئة"، و نحو ظهور الثديات قبل مئتي مليون عام (200 مليون).
لا تستطيع نظرية التصميم الذكي تفسير هذا التنوع بين الأسماك و البرمائيات و الزواحف و الثديات، إلا بطريقة واحدة فقط و هي طريقة "اندهاش" المؤمن من الرغبة الإلهية بالتنوع و تسبيح قدرته الفائقة و إحالة الهدف و العلة و القدرة عليه، دون فهم التنوع بحد ذاته أو القدرة على تفسير وجود الأشكال البسيطة و الغائصة في قيعان المحيطات من أسماك عمياء لا هدف لها و لا غرض، أو حشرات تفقس بيوضها في أجساد ضحاياها من الحشرات الأخرى بعد تخديرها لتخرج اليرقات فتأكل الضحية و هي حية، في مشهد ٍ قاس ٍ بالمعيار الأخلاقي لكنه شديد الوضوح و شديد المنطقية بالمعيار العشوائي كنتيحة تطوير الكائن لتوازنه مع محيطه بفعل عشوائية تفاعله، هذه العشوائية التي معناها هو وجود البيئة مع وجود الكائن و الظرف و تفاعلها كلها مع بعضها حسب قانون الإمكانيات، فاختار كل كائن ما استطاع أن يفعل و ثبت اختياره في جيناته و استمر الاختيار كهوية مُعرِّفة لشكل هذا الكائن و طريقة حياته و خصائصه.
إن النظام المدهش للكائنات هو نتيجة مباشرة للعشوائية، التي أصبحت هنا و حسب ما يكشف العلم و تؤكده الأبحاث أنه انتخاب طبيعي بمعنى تفاعل الكائن مع محيطه و نتائج هذا التفاعل ثم مقدار تناسب هذا الناتج مع ما يحتاجه الكائن للاستمرارية، فإن تم التطابق استمر الكائن و إن فشل المنتوج في تلبية احتياج الكائن الدائم كان لزاما ً التغير فإن تم استمر الكائن و إن فشل انقرض. و بهذا نُفسر انقراض الأنواع التي كانت أقل قدرة على حماية نفسها أو تأمين مأكلها بينما ازدهرت و نمت و استمرت تلك التي استطاعت أن تجاري الطبيعة و تفهمها "بيولوجيا ً" لتستمر فيها و تنسجم معها.
إن شكل الإنسان الحديث يعود إلى مئتي ألف عام فقط (200 ألف) بينما ترجع أسلافنا الأوائل تحت النوع Homo إلى ما يقارب الثلاث ملاين عام، و ينبغي أن أنوه هنا أن الإنسان لم يكن في أي مرحلة من مراحل تطوره قردا ً و لم يكن أي قرد في أي مرحلة من مراحل تطوره إنسانا ً، و قد قدمت هذا التفصيل في مقالي التالي رابطـُه حيث يمكن العودة إليه لمن رغب في الاستزادة، و لا أريد أن أكرر الأفكار لكي لا نتشعب عن الموضوع الرئيسي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=385873
تبرز ُ العشوائية كقدرة ٍ فريدة على استدامة الحياة حينما ننظر إلى جسم الإنسان، فالزائدة الدودية موجودة في أجسام البشر جميعا ً لكنها الآن لا تعمل و لا تشارك في الهضم بينما في الماضي السحيق كانت ً عاملا ً مهما ً في هضم السيليلوز حينما كان الإنسان يقتات ُ على العشب، ثم حين تغيرت حياته باكتشاف النار و الطبخ و توفر اللحوم قام الجسم بالاستغناء عنها فظلت شاهدا ً على العشوائية باعتبارها هنا "التفاعل مع البيئة و ظهور النتائج حسب الاحتمالات و بقاء النتائج الأصلح"، و مثل هذا أيضا ً يقال عن عظمة الذنب الموجودة لدينا، كلنا لدينا هذه العظمة شاهدة ً على "الذنب" الذي كان لنا قبل ملاين السنين، أما حين انتصبنا و أصبحنا قادرين على التوازن دون الذنب اختفى، و كذلك بعض عضلات الأُذن الموجودة لدينا و التي لا تنمو لكن تبقى عى بساطتها قاصرة ً و عاجزة ً لا تسمح لنا أن نحرك آذاننا كما تفعل القطط والكلاب بينما كنا نفعل ذلك في الماضي السحيق حينما كانت المُفترسات تطاردنا و كان لا بد لنا من أن نلتقط الأصوات و نهرب و كما يقول المثل الأردني "الفليلة ثلثين المراجل"، (الفليلة أي الهرب).
إن النظام الموجود في الكائنات الآن هو ترجمة لـ "قيم" بيولوجية، و القيمة هي حكم على سلوك بالقبول و التبني و الاستحسان أو الرفض و الإدانة، ثم السلوك بحسب هذا الحكم، و نستطيع أن نعمم مفهوم "القيم" من الحيز الأخلاقي نحو الحيز البيولوجي حينما ندرك أن الجسد بجيناته و ديناميكيته يصدر الأحكام على "جودة" تكوين ما و الحاجة إليه من عدمها، و هذا الحكم خاضع للظرف البيولوجي و البيئي المتغير و المجهول لكن الواقع و الحاصل، فُتصبح العشوائية هنا سيدة الموقف و أساس النظام الذي وُلد من رحمها بحسب الحاجة لا بحسب تصميم ٍ ذكي.
هذه هي العشوائية و هي أصل كل شئ.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الحب بين الذكر و الأنثى – نبؤات ٌ تتحقق
-
من سفر الإنسان – الوحدة الجمعية للبشر و كيف نغير المجتمعات.
-
من سفر الإنسان – الأخلاق و الدين
-
من سفر الإنسان - خاطرة قصيرة في معالجة مشاكل الحياة و صعوبات
...
-
الانعتاق من النص – إملاء الحاجة
-
بين داعش و النصرة و الفصائل الإسلامية المقاتلة
-
-ثُلاثيو القوائم- – حينما يخدم الخيال العلمي الواقع
-
الرسالة إلى الدكتور حسن محسن رمضان
-
دراما المشاعر – اللاوعي و ندوب نفسية
-
ما هي المسيحية – تأمل صباحي قصير
-
قراءة في بواعث الفعل عند السلفين التكفيرين
-
-ثُلاثيو القوائم- – نظرة إلى أدب الخيال العلمي الأول
-
من سفر التطوير الديني - إصلاح الكنيسة – الطلاق
-
هل المسلمون طيبون؟ هل المسيحيون أطيب؟
-
عن الله و الشيطان – وصف ُالمشهد
-
من سفر التطور – أين ذهب الشعر؟
-
من سفر الله - في مشكلة التسليم – إن شاء الله و ألف ألف مبروك
-
الفصح الميلادي – تأمل
-
عشتار – 1- الله و الشيطان، مُلحق إغنائي
-
انخماد الوهج – مسيحيو الشرق بين عدم اكتراث الأكثرية المعتدلة
...
المزيد.....
-
جنسيات الركاب الـ6 بطائرة رجال الأعمال الخاصة التي سقطت وانف
...
-
الدفعة الرابعة في -طوفان الأحرار-.. 183 فلسطينيا مقابل 3 إسر
...
-
-كتائب القسام- تفرج عن أسيرين إسرائيليين وتسلمهما للصليب الأ
...
-
بعد 50 يومًا من التعذيب.. فلسطيني يعود بعكازين إلى بيته المد
...
-
توأم الباندا في حديقة حيوان برلين: التفاعل بين الأم وصغيريهْ
...
-
دراسة تكشف حقيقة الفرق في الثرثرة بين الرجال والنساء
-
هل صورك الخاصة في أمان؟.. ثغرة في -واتس آب- تثير قلق المستخد
...
-
تاكر كارلسون يصف أوكرانيا بـ -مصدر الجنون-
-
لا يوم ولا مئة يوم: ليس لدى ترامب خطة سلام لأوكرانيا
-
الصداقة مع موسكو هي المعيار: انتخابات رئيس أبخازيا
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|