|
شبح الطحان شمس الدين الكردي
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 3873 - 2012 / 10 / 7 - 21:37
المحور:
الادب والفن
إنه ربيع جديد! .. عاشق يلثم في خفر ثغر قريتنا الغافية في ركنها المهمل المنسيِّ من العالم؛ فيذوب الجليد، وتتطامن الريح، وتُهجع جوعَها المقرور إلى شتاء آخر. يتدفَّق الدفء، ينتشر الألق، تفغم أكاميمُ الورد والريحان؛ فيفوح الشذى في كل مكان. تدبُّ الحميَّا في عروق الشبان، تنفغر أحداقهم خلف الصبايا المكتنزات بلذات غير مباحة، إذا هنَّ خطرن بأردافهن المترجرجة، ونهودهن المشرئبَّة المتحدِّية في طريقهن إلى النبع لملء الجرار. ويغادر جارنا الهرم أبو نعمان فراشه الذي يلازمه طيلة فصل الشتاء، وهو رازح تحت وطأة سعال متصل يكاد يمزِّق صدره تمزيقاً، فيقعد على مصطبة مُدَّ له فوقها بساطٌ حائل تحت نافذة داره الخشبية المنخورة، لافّاً جسده المهزول المتداعي، رغم الدفء، بقباء من لبَّاد شبيه بقباء الرعيان، مستدفئاً بالشمس مستمتعاً بلحظات مهادنة السعال لرئتيه في صمت ذاهل ناعس رزين. في المراعي الفسيحة الممتدة الخضراء، تضع المواشي الدفعة الأولى من نتاجها؛ فتنشغل النساء والأطفال بمواليدها الثاغية القافزة قفزان اليرابيع على قوائمها الغضَّة. وينشط أهل قريتنا في هذا الوقت إلى فلاحة الحقول، وإلى العمل في الكروم المنتشرة في الجهة الشمالية الشرقية من القرية على خط أفقي منحنٍ فوق رقعة من الأرض ركحاء مشرفة تكثر فيها الصخور السوداء والنباتات الشوكية، وتكاد تلتصق بخط الحدود المزروع بالألغام، المسيّج بالأسلاك الشائكة المدببة؛ وهو خط الحدود الذي يفصل أراضي قريتنا عن الأراضي التركية، والخط الذي ينتصب من خلفه برج الحراسة المتطاول نحو قبة السماء حيث يرقب جنود الحراسة الأتراك من هناك بحذر وصرامة كلّ ما يدبُّ ويرتعش من حولهم. خرجنا مع ندى الفجر. شرعنا، كدأبنا في كل يوم مذ بدأنا العمل في الكرم، نقلِّم أغصان الدوالي النحيلة البنية المتعاظلة، ونعزق التربة الرخوة الحمراء، ونجدِّد بناء ما تهدَّم من السور الحجريِّ المحيط بكرمنا من أربع الجهات. ظللنا سحابة يومنا المستحم بضياء شمس ما كدِّرها غمام حتى كان المغيب، نكدح على وتيرة واحدة لم تقطعها إلا ساعة الغداء. كان علينا أن ننجز مهمَّتنا؛ أن نفرغ من عزق الكرم، مهما يتأخر بنا الوقت، ويبلغ منا الجهد؛ كي نستريح منه فلا نضطر إلى العودة إليه متى كان غدٌ جديد. بيد أن قرارنا المتهوّر هذا الذي اتخذناه، ونحن في حالة من العناد الأحمق، ستكون له نتائج وخيمة علينا. لقد أوشكتْ، من طول الكدح والتجالد، قوانا، حتى المدَّخرة منها، أن تتصدَّع وتشرف على الانهيار التام. (ولات) الذي ما انفكَّ يتظاهر بأن التعب لم ينل منه، والذي لم يتوان طيلة الوقت عن الدندنة بأغنيات تفصح عن شوقه إلى حبيبته (نيركز) المقيمة خلف الحدود، ما إن ابتلعت معازقنا آخر رقعة متبقية لنا من الأرض غير المحروثة، معلنة عن نهاية المهمة الشاقة، حتى ألقى معزقه على الأرض، وانطرح بجانبه على ظهره، وبسط ذراعيه مستسلماً لراحة آنيّة، وزفر في وهن: - وأخيراً... ثم سكت. قد لا يكون لسانه أسعفه من الجهد، الذي كان يحاول أن يراوغه، على أن يزيد على زفرته شيئاً. أما (جمشيد) فظل واقفاً على قدميه قابضاً على نصاب معزقه من نهايته مسنداً ذقنه إلى قبضته. كان وجهه المتقلِّص وقميصه المتهدِّل المفتوح ينضحان عرقاً. ولم أكن أنا في حال أحسن من حالهما؛ بل كنت، إن صحّ ظني، أكثر ضعفاً وخوراً وتلاشياً منهما؛ مما حملني على التمكَّث في المكان الذي احتواني دون أن أبدي حركة ظاهرة تدلُّ على احتفاظي بوفرٍ من طاقة، وجعلني ألهث في صَعَدٍ، وجلدي يزخّ عرقاً كهامل ينثُّه سحاب. انغمسنا على غير إرادة منا في استراحة قصيرة، تمكنّا خلالها من أن نلتقط شيئاً من قوانا الذاهبة. وما هي إلا أن ننتبه منها، حتى نجمع أدواتنا، فنحمل بعضاً منها بأيدينا وبعضاً منها فوق أكتافنا؛ لأنّ الحمار (نمروداً) الذي كان موكَّلاً بحملها، كان تسلَّل في غفلة منا عائداً إلى زريبته. تجوّلت ببصري في الكروم على ضوء الشفق القرمزي الشاحب، فلم أر من أهل قريتنا أحداً، ولا رأيت من العمال المأجورين أحدا. كان الجميع غادر قبل المغيب؛ فصار المكان خالياً إلا منّا، وإلا من الحارس التركي، الذي كان هبط من صندوق محرسه، وجعل يتمشَّى بالقرب منه جيئة وذهوباً، وهو متنكِّب سلاحه في انتظار أن يحلَّ موعد المناوبة. سلكنا الدرب المقفر المطبوع بآثار أقدام المشاة والأنعام، ونحن نغالب الإعياء، ونحلم بفراش ممدود وعشاء ساخن صامتين لا يكاد أحدنا ينطق بجملة واحدة لها مغزى مفيد. من بعيد، من باطن القرية، من حظائرها، من أنحائها وساحاتها، تنبعث جلبة مبهمة، وتتكسر أصداء الثغاء والخوار والنهيق المختلطة بزعيق الأطفال ونداء الأمهات ونباح الكلاب في أسماعنا وتترجَّع فيها مثل نغم غامض. كانت أمي قد أعدَّت مائدة العشاء بمساعدة أختيَّ مريم وفبرونيا قبل ساعة من وصولنا تقريباً. اطرحنا عن أجسادنا المتعبة ثياب العمل المتسخة. اغتسلنا بماء بارد في حجيرة الاستحمام. ارتدينا جلابيب النوم، ثمّ جلسنا إلى المائدة، وبدأنا الهجوم على صحاف الطعام المفروشة فوقها في شرهٍ. سألت أمي معاتبة وهي تنقِّل نظرة ارتياب بيننا: - لماذا تأخرتم إلى هذا الوقت؟ صمت جمشيد عن سؤالها، وصمت ولات أيضاً. كان فمهما محشواً بالطعام. فسمعتني أجيب وأنا أغرف بملعقتي من الصحن الكبير المشترك: - كان ينبغي أن نتأخر.. وأعقبت جوابي نظرة إلى وجه أمي، فرأيت الدهشة تعلوه، وسؤالاً فوق شفتيها يتهيّأ للنطق. ولكي أتوقَّى مشقة الإجابة عن سؤال آخر من أمي، عجّلت فسألت (دانيال) أخي الأصغر الجالس إلى جانبي باقتضاب: - هل عثرتم على العجل؟ أجاب دانيال: - لا.. قلت موبخاً: - ألم تبحثوا عنه؟ ردَّ حاتم كمن يدفع عن نفسه تهمة: - بلى! وكيف لم نبحث؟ لقد بحثنا عنه في كل مكان، ولكننا لم نجده في أيّ مكان. وسمعت أمي تعبر عن شعورها بالقنوط: - العجل ضاع ولن نراه ثانية، وا لهفي عليه وعلى أمِّه! أتكون الذئاب أو الضباع افترسته؟ اعترض حاتم: - كلا، لم تفترسه الذئاب! لو كانت الذئاب افترسته، لعثرنا على شيء من بقاياه. فأعدتُ سؤالي مع إضافة يسيرة: - ألم تبحثوا عنه في القرى المجاورة؟ - بلى، ولكن لا أحد من الذين سألناهم عنه، رآه. قالت مريم، وكانت تركت مكانها شاغراً، وانتحت ركناً بعيداً عن المائدة تحت الذبالة الحمراء للسراج المعلَّق على الجدار، إثر شجارها مع دانيال: - أظن أن والدي أخذه معه؛ ليقدِّمه هدية لمدير الناحية. زعق حاتم فيها: - كم من مرة ينبغي أن أقول لك فيها، إن بابا خرج على ظهر (مكحولة) آاا؟ فكري قليلاً: كيف لراكبٍ فرساً أن يحمل معه عجلاً؟ كيف؟ لو كان بابا ذهب بالتراكتور، لصدَّقنا ظنَّك، ولكن بابا لم يذهب بالتراكتور، فكيف يأخذ العجل معه؟ كيف.. ألا تفهمين؟ ولكن مريم لم تفهم، مضت تتساءل في عناد وازدراء: - ألا يمكن أن يكون جرّه وراءه بحبل؟ - يجرّه وراءه!؟ ما هذا الكلام؟ أيستطيع عجل بقوائم طريَّة كعساليج دالية أن يقطع كلَّ تلك المسافة مشياً على قوائمه؟ بدت فكرة دانيال معقولة، ولكنّ مريم لم تقتنع بها، أصرَّت على تغليب فكرتها، فزجرتها الوالدة، فانتترت من مكانها، وخرجت من حجرة الطعام كاتمة غيظها. عندها قال جمشيد مخاطباً أمي: - لا تيأسي يا خالتي! ما دامت الذئاب لم تفترسه، فسنجده في مكان ما غداً. ربما شرد العجل عن حدود قريتكم فاختلط مع قطيع قريتنا. انتظري! سأسأل راعي قريتنا محي الدين عنه، فقد يكون رآه، أو قد يكون علم شيئاً من أمره من رعاة القرى المجاورة، يرشدنا إليه. - ولكنَّ قريتكم بعيدة يا بنيَّ، وقطعانكم لا تأتي للرعي على حدود قريتنا، فأنَّى للعجل أن يختلط معها؟ اتضح من ردِّ أمي أن كلام جمشيد لم يكن غير محاولة للتطمين والتأميل. جمشيد يحب والدتي بمقدار حبه لوالدته. ولا غرو؛ فهي كثيرة الحدب عليه منذ ولادته. كانت أمي وهو طفل ضئيل ترضعه من ثديها، تشركه في حليبي، كلما زارتنا أمه الخالة (حكمية) التي تشدها إلى أمي آصرة صداقة متينة لم تنقطع نشأت بينهما مذ كانتا طفلتين تمرحان في قريتهما القديمة التي هُجرت بعد رسم الحدود الجديدة، وكانت أمي تخبِّئ له حصته من الأشياء التي كنا نحبها ونحن صغار؛ تلك التي كانت تشتريها من البائع الجوال (خدر) الإيزيدي، الذي كنا نفرح بقدومه علينا من بلدته البعيدة (عامودا) فرحاً لا يوصف، مع أنه كان بشاربيه الكثَّين كحزمتين من بصل أخضر، يخترق أبصارنا إلى حدّ الخوف، أو تلك التي يشتريها لنا والدي من سوق الناحية؛ ولهذا لم يكن مستغرباً أن يعزَّ عليه أن يراها تتوجَّع لضياع العجل؛ فيحبّ أن يواسيها. أغلب الظن أنه لو كان مؤمناً في قرارته بجدوى كلامه، ما تحيَّر في الجواب عن تساؤلها، وما انكبّ بتلك الهيئة الغريبة على الطعام يشغل به نفسه عن الجواب. وحتى أختي فبرونيا التي تصغر مريم، والتي لم تعزف عن مائدة الطعام كما عزفت عنها مريم الحردانة، رغم تعرُّضها أيضاً للتهكم والزجر من دانيال، لم يفتها ما في كلامه من الهلهلة؛ فتجاهلته وقفزت فوقه إلى رأي مختلف عنه تمام الاختلاف قائلة: - يخالجني الشك في (النَّوَر) أولئك الذين رأيناهم يعبرون بالجهة الغربية من القرية باتجاه الطاحونة حيث كان العجل يرعى وقتذاك. ولكنّ (ولات) لم يتقبل شكوكها؛ ولأنه لا يجيد الكلام بالسريانية، قال محتجاً بالكردية: - قد يلتقط النَّوَرُ أشياء صغيرة مهملة من هنا وهناك، ولكنهم لا يسرقون عجلاً في وضح النهار، هذا أمر لم يقع من قبل، لم نسمع قط أنهم ارتكبوا شيئاً قبيحاً كهذا. انفعلت فبرونيا، قالت بحدة: - فأين يكون اختفى إذاً؟ هل ابتلعته الأرض؟ . ردَّ ولات: - أعتقد بأن العجل مسروق. لماذا تستبعدون أن يكون العجل سُرق وبيع في البلدة؟ صرخت أمي في دهشة وجزع: - سُرق !؟ - نعم، ولم لا يكون سرق؟ - ومن الذي يسرق عجلاً في هذه الأيام؟ أيسرق أهل المنطقة عجلاً من جيرانهم!؟ يا إلهي! منذا الذي يلوّث سمعته بسرقة عجل؟ هذا لم يحدث في منطقتنا منذ (الفرمان) وانقضاء عام المجاعة. - بل حدث يا خالتي، أنت لا تتابعين ما يجري في القرى، ولا تصلك أخبار الفاسدين من فتيتها. قبل شهرين ضُبطت عصابةٌ من الأحداث في قرية (باشوت) وهي تسطو على حظائر الدجاج. - في باشوت؟ يا للعار! يا لخيبة الأهل بأبنائهم! أين سيخفي أهلهم وجوههم عن الناس إن صحَّ الخبر؟ - يبدو يا خالة، أن الناس لم تعد تهتم بما يجري من حولهم، لو كان في الناس بقيَّة من اكتراث، ما تجرأ أحد من أبنائهم على ارتكاب شَينٍ. نحن عندما كنا صغاراً مثلهم، لم يكن يخطر لنا قط أن نعتدي على ممتلكات الآخرين، مع أننا كنا نعاني الفاقة والجوع. (ولات) ابن عمّ جمشيد، يقاربه ويقاربني في السن، كما يقاربنا في البنية والملامح الخارجية باستثناء لون جلده المشرب بالحمرة، وكذلك لون شعره الذي من أجله سيحمل لقب (صُهْرُو. الأحمر). فرّ من قريته خلف الحدود التركية منذ ما يقرب من عامين، ولجأ إلى دار عمه أبي جمشيد؛ خوفاً من ملاحقة الأتراك له، من بعد أن حامت حوله شبهة المشاركة مع الثوار الأكراد في الهجوم على مخفر تركي. لم يكن ولات يفارق ابن عمه جمشيد لا في حلّه ولا في ترحاله. إنه لصيق به، دائم المصاحبة له حيثما اتجهت به قدمه: فكان إذا جاء جمشيدٌ لمساعدتنا في الأوقات التي لا يكون لجمشيد فيها عمل يشغله، جاء ولاتٌ بصحبته؛ فبذل مساعدته لنا عن طيب خاطر، رافضاً بإباء ونفور أن يتقاضى أجراً على عمله؛ بل إنه ليترفع عن أخذ الهدايا من والدي أو والدتي أو منِّي، ولا يمكِّننا من إقناعه بقبولها إلا بالحيلة وطول المجادلة. أما إذا أقسم بمبدئه وقضيته في محاولة منه أخيرة للتخلص من ضغط الموقف الشديد عليه، فعندذاك يُخلى سبيله ويرتفع عنه الحصار. إلا أن هديته لا تردّ، تعطى لجمشيد في السرِّ من دون علمه، فيحملها جمشيد معه إلى القرية خفية، ثم يتحيَّن الفرصة الملائمة لتقديمها له وإقناعه بقبولها. أسمع ولاتاً يسترسل في الحديث، أسمعه يتكلم بحماسة؛ فأعجب من لسانه كيف يتحرك في فمه بطلاقة وليونة لا يشوبها تراخ ولا تقطيع ولا ثقل! بخلافي أنا؛ أنا الذي أجدني الآن مثل سراج يوشك أن يلفظ آخر قطرة من عمره، أجدني لا أكاد أقوى حتى على مضغ لقمتي الأخيرة. وأرى، كأنما من خلل سجْفٍ مسدل أمامي عينيَّ، مريمَ تقتحم الباب. عادت مريم لتشاكس الجميع برأيها. قد أرجّح أنها قبل اقتحامها الباب، كانت تتنصَّت من خلفه إلى الحديث الدائر في المجلس، وهي تتفلفل. أعرف طبع مريم. إنّ المعاندة صفة فيها لا تبارحها، تتصلَّب في رأيها وتستقرّ عليه بكل ثقلها، حتى لو تكشَّف لها خطلُ رأيها ببرهان جليّ. لم أتبين ملامحها بوضوح وهي تقطع حديث (ولات) بلسانها الفظِّ الجارح، لقد حال دون ذلك ذبول المصباح الأحمر المحتضر، وجفناي المرهقان المتهدلان فوق جفنيّ. بيد أنني استطعت أن أدرك بأذنيَّ؛ اللتين ما زالتا محتفظتين بقدرتهما النسبية على التقاط الأصوات وفهمها بخلاف حواسي المنهكة الأخرى، ما في كلام مريم من استفزاز واستعلاء: - لا أحد يعلم ما حلَّ بالعجل إلا والدي، فكفُّوا عن الكلام بما لا تعلمون، وانتظروا عودته. إن والدي هو الوحيد الذي يعلم سرَّ اختفاء العجل؛ بل هو الذي أخذ العجل معه.. وأنا أتحداكم أن تثبتوا عكس ما أقول. توقعت أن يلقى كلامها المستفزّ رداً يماثله، وأن تتعرَّض للزجر ثانية. ولكنّ كلام مريم مرَّ في أسماع الجميع كما يمرّ فيها طنين بعوضة مسالمة؛ لم يأبه به أحدٌ، حتى دانيال الذي اعتاد مناكفتها دون ملل أو كلل، آثر السكوت عنه كأنه لم يسمعه؛ ربما كفاه الزجر الذي نالته مريم من الوالدة، فلم يشأ أن يزيد عليه باعتراض خشن جديد شفقةً منه عليها ومراعاة لحالتها النفسية. وأنا أيضاً لم أحتفل بما سمعته من مريم في تلك اللحظة، ولم أتأثر بما في قولها من استفزاز وتحدٍ. أفقدتني حالة التخاذل والإعياء، التي تفاقمت بعد أن اكتظّت معدتي من الطعام، وبعد أن أخذ الوسن الثقيل يدبّ في أوردتي، القدرةَ على تحسُّس الأشياء من حولي بوعي وبصيرة، حتى لأبدو عاجزاً تمام العجز عن الاحتفال بشيء مما يقال على مسمعي، أو بشيء مما يدور من حولي. كان الخلود إلى نوم عميق فسيح مريح، هو أقصى ما أبتغيه، كان الأمنية الوحيدة المشوقة التي تستأثر حقاً بكل جوارحي. ولقد تنبَّهت أمي إلى حالتي المضعضعة، فجعلت تهزُّني من كتفي هزّاً شديداً لا رفق فيه، وتهيب بي أن أنهض إلى النوم بنبر ملحاح أرهقني: - أنت تعِب يا بني، أنت نعسان، جفناك مطبقان، قم اذهب إلى فراشك، وأرح نفسك! فأغمغم : - دعيني الآن يا أمي، للحظة واحدة.. أرجوك! سأقوم، سأقوم. - كلا، أبداً!.. لن أدعك تنام في مكانك. فإنك إن تنم، فلن يوقظك شيء ولا مدافع الأتراك، أعرف نومك.. - دقيقة واحدة، غمضة عين واحدة وأنهض. - ولا دقيقة، هيا انهض في الحال! ولما لم أجد مهرباً من إلحاحها المتكرر المتلاحق، وقد بدأ يحاصرني ويضايقني كقَرْص البراغيث، نهضت من مكاني مكرهاً متحاملاً على نفسي بإعياء، غير أنني لم أتمكن من الانتصاب فوق ساقيَّ اللتين زعزعهما الإرهاق والنعاس والخدر.. ترنّحت في أثناء النهوض، وكدت أسقط في مكاني على الدكَّة، لولا أن تداركتني مريم بمساندة عاجلة سريعة من ذراعها، يسّرت لي الوقوف على قدميّ. ورغم ذلك فقد وجدتني من قبل أن أخطو باتجاه الباب إلى حجرة النوم، وقد حلَّقت في خاطري المكدود فكرةٌ جديدة، فكرة مفاجئة كان من تأثيرها عليَّ أنها استوقفتني، على الرغم من أنها لم تكن مجتمعة واضحة في ذهني بما يكفي أن يتيح لي أن أعبِّر عنها بلغة مفهومة. تجمَّدت هنيهة في مكاني – وأنظار الجميع تحدق بي – محاولاً جهدي أن أتدبرها بما بقي في حوزتي من طاقة. وما زلت بها حتى استطعت أن أجمع شتيتها في ذهني، وأرتِّبه فيه على نسق مفهوم، غير أنني لم أتمكّن مع ذلك من أن أنطق بها إلا بلسان متعثّر كلسان مخمور: - إذا كااان العجل... في ذلك الوقت.. يرعى على جانب الطريق المؤدية إلى.. إلى الطاااحونة، كما ذكرت فبرووونيا، فمن المحتمل أن، أن .. يكون سرح حتى وصل إليها، إليها.. أليس من الواجب إذاً أنْ، أن .. يتحقَّق المرء من وجو.. وجوده دااخل الطاحونة؟ أليس محتملاً أن يكون دخلها، ثم، ثم، لم لم يع يع..رف كيف يخرج منها؟ والحقيقة أن الغرض من إعلاني عن هذه الفكرة الطارئة المفاجئة، وأنا في هذا الموقف الغريب الشديد، لم يكن نقض فكرة مريم أو مماحكتها على غرار دانيال - وإن تك فكرتي في الواقع نقيضَ فكرتها- كان غرضي، إن لم يخني الحدس، أن ألفت انتباه دانيال إلى مكان جديد، مكان لم يسبق له أن فتَّشه، مكانٍ قد يحتمل وجود العجل فيه؛ فلعله بعد ذلك يبادر مع انبلاج الصبح إلى استكشافه. وأحسب أن دانيال فهم غرضي هذا، وأدرك أنه المعنيُّ بالخطاب لا مريم ولا الآخرين؛ ولذلك انبرى إلى الجواب قائلاً: - لا، لم نبحث عنه داخل الطاحونة. باب الطاحونة كان مغلقاً كما في كل يوم جمعة، وكان الطحان شمسو (تصغير شمس الدين) غائباً عن الطاحونة، فلم.. فقاطعته مريم بلهجة الظافر، وقالت قولاً لم أعِ له ارتباطاً بالذي قاله دانيال: - أرأيت؟ فوالدي إذاً، هو الذي أخذ العجل معه. ألم أقل لكم هذا منذ البداية؟ حسناً حسناً.. انتظروا، سترون، سيأتي الغد قريباً، ويعود والدي من سفرته، وستعلمون عندئذ أنني على حق، أراهن.. غضب دانيال منها، رد عليها رداً فظاً: - عن أي حق تتحدثين؟ وعن أية مراهنة خاسرة؟ أنتِ لا تملكين غير أن تصدِّعي رؤوسنا بهذيانك.. عند هذا تعالت الأصوات واختلطت؛ فتركت مكاني واتجهت إلى حجرة الضيوف للنوم من دون أن أغسل يديَّ أو أتمضمض، وأنا أتمايل على جنبيَّ كدابة عرجاء، وأسمع بعض أصواتهم كما لو كنت أسمع طنين نحل على فوهة قفير: - هَرْهَبِهْ! (لفظة كردية دعائية تقابل عندنا لفظة: سفرة دايمه) أنا أيضاً ذاهب إلى النوم. - ولكنك لم تشبع بعد.. كلا! لن تذهب، لا تنهض قبل أن تشبع. - أقسم أنني شبعت! - ألن يعود العمّ غداً؟ ليته يعود؛ فنودِّعه قبل أن نمضي! - قد يرجع غداً. أما أنتما فلن ترحلا في الغد، لن أترككما ترحلان. يجب أن تمكثا عندنا أياماً. - لا يا خالة، مستحيل! يجب أن ننطلق غداً إلى القرية فقد أزف وقت حراثة حقل البطيخ.. - ما يزال الوقت مبكراً على حراثته. - لا، إنه الوقت. وأخشى أن تمطر فيتأخر به.. - لا داعي للقلق والتفكير. سيتولى دانيال أمره، سيذهب من الغد مع طلوع الفجر لفلاحته بالتراكتور بدلاً منكما. ولا أحسب السماء تمطر؛ فالغيوم التي احتشد بها المغيب، ليست من النوع الذي ينذر بقرب الهطول. - ترى لماذا تأخر البابا؟ ألم يقل إنه سيعود في نفس اليوم؟ - بلى ! ولكن الغائب عذره معه. - وما عساه أن يكون هذا العذر؟ - بسْ! لا أحد يعرف أعذار الغائب، ما دام الغائب غائباً. - لو قد كان أخذ دواءه معه، إذن ما قلقت عليه! وكان هذا آخر ما تناهى إليّ من الأصوات، قبل أن أهوي على وجهي فوق فراشي المرطب بأنفاس الليل.
رأيتني في بيتنا القديم المهجور في الموقع الذي صار اليوم خربة، بعد جلائنا ونزوحنا عنه، بسبب قربه من الحدود، وبسبب انتشار البعوض والعقارب والأفاعي بكثرة فيه وفي ما حوله. كان هذا البيت، الذي لا يختلف في صورته عن بيتنا الحالي الجديد، واسعاً مؤلفاً من أربع غرف متلاصقة على نسق طولي، يتكئ على ظهرها من جهة الشمال، اسطبل للحيوانات له باب من خشب مصفح بالتنك، وحظيرة للدواجن. وأمام هذه الغرف يمتد فناء واسع تظلله شجرة جوز عملاقة تسلقتها داليةٌ معطاء. وكان يحيط بالجميع جدار كالسور دائريٌّ بطول قامتي، يفصل الدار عن الدور المجاورة لها. ولأن جدي كان شاد جدران البيت من الحجر الأسود، ظلّ البيت قائماً في موضعه يقارع بجدرانه الصلبة عوادي الزمن، وظل يأبى أن يمسي طللاً دارساً كما أمست بيوت القرية الأخرى تلك المبنيّة من اللبن، ما عدا سقفه الذي صنعه جدي من جذوع الحور، وغطاه بالتراب والطين، فقد تهدَّم، وتهدم معه السور الطيني المحيط بالمنزل. أرى المنزل المهجور، سليماً عامراً كما كنت شهدته وعرفته في طفولتي. جدي المتوفى منذ ما يقرب من ثماني سنوات، جالس إلى جانبي على الدكة الطينية؛ الدكة ذاتها التي توجد في غرفة الطعام في بيتنا الجديد، مستند بظهره إلى الجدار، أما جدتي ووالدتي، فكانتا منشغلتين بجمع الصحاف والأطباق وتنظيف المائدة وإعادة الأشياء إلى مواضعها، عقب انتهاء الجميع من العشاء، وتفرقهم في أنحاء القرية للحديث والسمر تحت ضوء القمر الطالع. كانت غرفة الطعام مُنارة، يضيئها سراجان يستمدان ضوءهما الأحمر الشحيح من الزيت في عناء، بيد أن ذلك لم يحل دون أن أرى الأشياء الغارقة في حمرة ضوئهما الشحيح بوضوح، إلا رأس جدي، فلم أكن أراه، مع أنه إلى جانبي أكاد ألتصق به وأحسُّ وجوده وكيانه إحساساً قوياً جلياً. إنني أرى أصابعه المجفَّفة تلفُّ التبغ من علبته المعدنية، وأرى ساقه تلتف بالأخرى، وأرى صدره يعلو ويهبط، بيد أنني لا أرى رأسه فوق كتفيه. كان وجود جدي إلى جانبي على هذه الهيئة والصورة غريباً، بلا شك، وأيّ غرابة! غير أنّ الأشد غرابة من وجود جدي على تلك الهيئة، أنني لا أحس بغرابة وجوده، وأنني لم يتسرب إلى نفسي ارتياب ولو زهيد في صدق أن يوجد على هذه الهيئة. فلكأن وجوده بلا رأس أمر طبيعي مسلَّم به. إنه لمشهد غريب حقاً! أفليس غريباً ألا يبدو لي مشهد جدي إلا طبيعياً مألوفاً!؟ أليس غريباً ألا يبوح إلي مشهده بأنه حدث خارق لا معقول. وكأني جعلت أفكر، وفيما أنا أفكر بغرابة أنني لا أجد المشهد غريباً على غرابته، قرع أذنيَّ صوت جدي يخاطب جدتي قائلاً: - ابنك لم يرجع من الناحية يا امرأة، أقال لك إنه لن يرجع اليوم؟ فالتفتت جدتي نحوه بأسارير منقبضة، وقالت: - لا، لم يقل لي شيئاً.. أنا خائفة! أخشى أن يكون سقط عن ظهر الفرس في الطريق. ضحكت أمي، ثم قالت: - أهو غرٌّ ليسقط من على ظهر الفرس؟ هههه .. ثم إننا لا نفتقده هو، وإنما نفتقد العجل. تجاهلت جدتي حكاية العجل، ولم أدرِ السبب، وراحت تتساءل بمزيد من القلق: - فلماذا لم يعد، ما دام لم يسقط من على ظهر الفرس؟ قال جدي مستفسراً موبخاً بغلظة مصطنعة مظهراً استخفافه بمخاوف جدتي المتعاظمة. ولعله، إذ اصطنع استخفافه، أراد إلى أن يحرِّرها من مخاوفها، أو قد يكون أراد أن يحرّر نفسه من مخاوفه التي أشعر أنها لم تكن تقل عن مخاوف جدتي. ولكن جدي ليس كجدتي؛ إنه لا يظهر مخاوفه علناً لاعتقاده بأن ذلك يخلّ بمعنى الرجولة، وإنما ينهج إلى التعبير عن مشاعره منهجاً ضبابياً ملتوياً متعرجاً شأنه في هذا شأن أكثر رجال قريتنا: - ألم يبق في الدنيا سببٌ آخر لتأخره غير السقوط عن الفرس؟ ما دها عقلك يا امرأة!؟ - وما شأن عقلي بتأخر الولد؟ قلبي هو الذي يحدثني الآن لا عقلي. وأنا أثق بقلبي أكثر من ثقتي بعقلي. ألست تعلم هذا مني؟ - بلى، لقد صدقتِ، هكذا أنتِ دائماً.. أنت لا تفكرين إلا بقلبك. ولكنَّ القلب ليس موطناً للتفكير، فلماذا لا تحاولين أن تفكري بعقلك وهو موطن التفكير؟ أيعقل أن يكون سبب تأخره سقوطه عن دابته؟ أعني: أيعقل لو كان ابننا، في أسوأ الاحتمالات، سقط عن فرسه فأصابه مكروه – لا سمح الله! – ألاّ يأتينا أحدهم بالنبأ المشؤوم على جناح طائر؟ - نعم! هذا معقول، بل إنه معقول جداً.. وأعجب منك كيف لا تراه معقولاً!؟ أليست الأخبار المشؤومة، لا تصل إلى أصحابها عادة، إلا بعد أن تحدث بزمن قد يطول؟ أليس الأمر كذلك؟ فإذاً، لماذا تتوقع أن يسرع الناس إلى تبليغك عن سقوط ولدك، إذا ما - لا سمح الله!- سقط؟ - لا، لا، لا.. أخبار الشؤم تنتشر في ضيعتنا بسرعة كما ينتشر الزكام، هذه حقيقة لا مراء فيها. ثم، ماذا لو أنه سقط عن الفرس؟ هأنذا، ألا ترينني؟ ماذا أصابني؟ ألم أسقط مرات عن فرسي؟ - أنتَ!؟ أتشبِّه نفسك به؟ ما أنت؟ أنتَ - ولولا إشفاقي من الرب لحلفت - إنْ تسقط عن قمة الجودي حيث رست السفينة، لم يصبك خدش. أيُّ شيء يخدش جلداً سميكاً غليظاً مجفَّفاً بالملح مثل جلدك!؟ ولا مسلَّتي التي أخيط بها أكياس الحنطة المغربلة. حسناً، هأنتذا كدأبك تتجاهل أنَّ الآخرين ليسوا مثلك، فليكن، ولكن قل لي: ألم يسقط (إبراهيم عمنو) عن بغلته فكسرت رجله ولم تجبر؟ - إبراهيم عمنو! ألم تجدي غيره تضربينه مثلاً يا مرحومة الوالدين؟ أبرجلٍ كهذا هشِّ العظام لا يستفيق من سكرٍ، يُضرب المثل؟! هذا الإبراهيم – وأقسم! - لو سقط عن ظهر جحش أجرب، لتحطمت أضلعه أو دقّت عنقه. تأفَّفت جدتي، لوّحت بذراعها في ضجر، وقالت: - الحديث معك كالنفخ في أثفيَّة بلَّلها مطرٌ غزير؛ فاستحال أن تتَّقد فيها نار.. ثم ما لبثتْ جدتي حتى انبعث من محجريها معنى عابس آمر صارم، وانطلق منهما صوب جدي كأنه حصاة تنطلق من مخذفة: - اترك إبراهيم في حاله، اترك الكلام الفارغ من المعنى، وقم الآن لنجدة ابنك من الخطر الذي أراه بعين قلبي ملتفَّاً حول عنقه! تململ جدي في مكانه، نفخ سحابة كثيفة رمادية متلوّية من الدخان نحو السقف. وكأني به، إذ تصرف على هذا النحو، أمهل نفسه قليلاً من الوقت؛ بغية العثور على فكرة أو حجة يتفادى بها الإصابة بحصاتها إصابة مباشرة. وأظنّ أن جدي وفِّق في العثور عليها عندما تساءل في برود: - ولماذا عليّ أنا العجوز، أن أقوم إلى نجدته؟ هذا ابنه الفتى، فليقم إلى نجدته! ارتاعت أمي، التي لم تكن مقتنعة بأن والدي في خطر، هالها أن تسمع جدّي يحرِّضني على المخاطرة، صرخت: - لن يكون هذا أبداً! لن أدع ابني يخرج في هذا الليل المدلهم. تلفَّتُ بعنقي نحو النافذة إثر قولها ((إن الليل مدلهم)) فما رأيت للليل ظلمةً مدلهمة.. رأيت وجه القمر يبسم من عليائه، فاستغربت قولها ولم أفهم معناه. وقد ساءني من أمي فضلاً عن ذلك أن تعدَّني صغيراً - ولو أنني كان ينبغي أن أكون في زمن وقوع هذا الحدث صغيراً - وأنكرتُه؛ لأنني شعرت بأنَّها تنتقص به من رجولتي، وبأنّها لا تأبه بحياة والدي المهدَّدة بالخطر، فقلت بتحدٍ أرعن: - بل أذهب أبحث عنه في الطريق، فقد تكون النوبة عاودته ولم يجد من يسعفه. - النوبة؟! ما النوبة يا ولد؟ عمّ تتكلم؟ متى رأيت أباك مصاباً بنوبة مما في خيالك؟ فأجبتها وقد غاض ما كان في نفسي من شعور بالتحدي، وحلّ محله شيءٌ من الارتباك: - لا أقصد هذا يا أمي، أقصد أنه.. أنه.. ربما عاودته آلام النقرس في الطريق.. لا. لا، بل أقصد أنه قد يكون وَعَك في طريق عودته إلى الضيعة فجأة.. وعك في الطريق.. نعم وعك؛ هذا الذي أقصده يا أمي، أأكون أخطأت في قصدي؟ ألا يمكن أن يصاب المسافر بوعكة ما مفاجئة في الطريق؟ - بلى، هذا ممكن الحدوث. ولكن لا تنسَ أن الطريق بين القرية والناحية، لا تخلو من العابرين. ولو قد كان حدث له مكروه وهو في الطريق، لأعانه العابرون المارون به وجاءوا به إلينا. - الطريق تقفر من العابرين ما إن تغرب الشمس يا أمي؛ ولهذا فإن والدي، الذي لا بدَّ أن يكون خرج عائداً بعد غروب الشمس، لن يجد مارّاً يتداركه، لو أنه.. - ومن أين لك أن علمت بأنه خرج عائداً بعد غروب الشمس؟ - من أين لي أن علمتُ..؟! أهذا سؤال يلقى إليّ يا أمي؟ غريب! أعني: هل مسألة خروجه من البلدة في هذا الوقت، أمر يحتاج إلى علم ومعرفة؟ - طبعاً! فإن لم يكن خروجه في هذا الوقت معلوماً منك علم اليقين، فكيف تعلم بأنه خرج في هذا الوقت على وجه التعيين، وأنه لم يخرج في وقت آخر سواه: كالفجر، أو الضحى، أو الظهيرة، أو ما بعد الظهيرة؟ ربّت جدي على كتفي بيسراه - ووجهه ما يزال عني محتجباً مخفيّاً - كأنه يواسيني مسبقاً على هزيمتي المتوقعة المؤكدة أمام حجة أمي القاهرة. ولكنني – وإن كنتُ أعترف لها كما يعترف لها الآخرون بقوة حججها – لم أخضع لإيحاء جدي فأستسلمْ فأصمت، مثلما كان يتوجب عليّ أن أفعل؛ بل رحت أقدح ذهني؛ لعلِّي أهتدي إلى ردّ ينقذني من الهزيمة المحتومة. فلما لم أهتدِ إلى شيء ينقذني، جعلت أجمجم قائلاً: - أنا.. أنا، لا أعلم حقيقة متى خرج والدي عائداً إلينا يا أمي، ومن البديهيِّ ألا أعلم؛ لأنني لم أكن حاضراً معه وقت خروجه، ولا كان غيري حاضراً معه. ومع ذلك فإنه قد يكون خرج في هذا الوقت؛ أعني وقت غروب الشمس.. أين العجب في هذا يا أمي؟ ألم يحدث أن خرج والدي قبل هذه المرة من البلدة عائداً إلى الضيعة بعد غياب الشمس؟ إذن، فعلى هذا: أليس محتملاً أن يعود إلينا في هذه المرة أيضاً بعد غياب الشمس؟ أليس محتملاً هذا يا أمي؟ قهقه جدي، على الرغم مما كان عليه من القلق، قهقهة صاخبة تخلَّلها سعال متقطع، ثم أشار نحو أمي ليقول لها قولاً بدا لي أقرب إلى السخرية والعبث منه إلى الجدِّ. قدّرت أنه كذلك؛ لأنّ ردّي لم يكن في نظري - ربما في نظر جدي أيضاً - مما يستحق الإعجاب أو الثناء أو التشجيع. لم يكن ردي ذاك في حقيقته، كما سبق أن ألمحتُ، أكثر من محاولة يائسة بئيسة تلحّفت بلفظ أجوف ماكر لرد الاعتبار ومداراة الفشل ليس إلا: - عفارم عليك يا ولد! هكذا أحببتك أن تكون دائماً؛ أن تكون مثل جدك. يا لعقل هذا الولد ما أوسعه! لم يترك مقداراً ولو ضئيلاً من عقل جده إلا أخذه. سبحان الذي أورثه ما عندي من حكمة ومزايا! تبادلت أمي نظرة طويلة مع جدتي، رأيت فيها ظلاً من ابتسامة مشفقة تمازجها سخرية لطيفة، ثم رأيتها تضع الإناء، الذي كانت تجففه بمئزرها على المائدة، فتلتفت نحو جدي، وقد أوشكت أن تعقّب على قوله بشيء، لولا أن سبقتها جدتي قائلة: - ولكنّ أمَّه أقرب إليه منك، وعلى هذا فهو أحقّ بأن يرث عقله منها لا منك.. ردّ عليها جدي بكبر وعنجهية: - الولد لا يرث عقل أمه، البنت هي التي ترث من أمها، وقد ترث البنت من خالتها في بعض الحالات. أما الولد فإما أن يرث عقل خاله، وإما أن يرث عقل جَدِّه وهو الأرجح. ولأن جدي هنا، أسقط العمَّات من حسابه، فلم يأت على ذكرهن؛ خطر لي أن أداعبه؛ أن أعارضه بالمثل الدارج عندنا ((خذوا البنات من صدور العمَّات)) فأغيظه. ولكن الرأفة أخذتني به؛ فعدلت عن الجهر بما عنّ في خاطري، وأنا في حضرته، وأفسحت لجدتي كي تسأله بلهجة لم تخل من التقريع والسخر: - وماذا عن والده؟ أم نسيت أن له والداً يرثه، وأنه أدنى إليه من جدّه؟ - لا، لم أنس. ولكن أين عقل والده من عقل جده؟ لو كان عقل والده كعقل جده في النشاط والحجم، ما اقتحم والدُه رُهبى الليل من أجل أن يعود إلى داره. إنّ العاقل لا يخاطر بحياته إلا إذا دعاه إلى المخاطرة داعٍ لا محيص عن تلبيته. قم يا بنيَّ قم! حسبنا هذراً؛ قم عني إلى نجدة والدك؛ فحياته جديرة بأن تقتحم من أجلها الأهوال. - تقصد أن يقوم إلى البحث عن العجل الضائع، أليس كذلك يا عمي؟ - العجل الضائع !؟ وما حكاية العجل الضائع يا ابنتي؟ فهمَمْتُ أن أروي له حكاية العجل (تورو) الذي اختفى على حين غفلة عن أنظارنا كأن الأرض انشقت من تحته وابتلعته. ولكن جدي لم يترك لي فرصة للحديث عنها؛ عاجلني بضربة خفيفة من قبضته على ركبتي أسكتتني، وقال: - دع عنك حكاية العجل يا صغيري، أنا أعرف تفاصيل حكايته، بل أعرف أكثر من ذلك. أعرف الآن أن العجل نفق؛ نهشته أفعى سامة داس على طرفها سهواً، وهو يرعى داخل جدران دارنا العتيقة. غداً مع تباشير الفجر الجديد، سترى الحدأ مدوّماً في السماء فوق أطلال الدار التي... فقاطعته سائلاً إياه في دهشة وريبة: - فلماذا أظهرت جهلك بالحكاية، ما دمت تعرفها؟ ثم، ثم..كيف يكون هذا يا جدي! ألسنا الآن في بيتنا العتيق؟ فأجاب: - بلى! نحن الآن في بيتنا العتيق قبل أن نخليه للبلى، ولسوف نفارقه ثانية ما إن نستيقظ من الحلم، لنجد أنفسنا من جديد في دارنا المحدثة؛ أعني لتجد نفسك وأمك في الدار الجديدة. أما حكاية العجل، فاعلم يا بني، أنني لم أظهر جهلي بها، لقد كنت أجهلها فعلاً، وإنما جاءني العلم بها بعد أن سمعتها منك في التوّ. - سمعتها مني!؟ ولكني ياجدي لم أحكِها لك، فكيف سمعتَها مني وأنا لم أحكِها؟ - في الحلم تجري الأحداث أحياناً كما يحب المرء أن تجري، هذا جوابي لك. وقد أحببت أن أعلم حكاية العجل منك قبل أن تنطق بها، فكان لي ذلك. هذا كل شيء يا بني، وهو ليس بشيء، فلا تشغل بالك به ونفّذ أمري إليك، إن كنت تحب جدك، وإن كنت تحب أن تطيعه. أتفهم ما أقول يا ولد؟ أتفهم؟ والآن قم للبحث عن والدك عوضاً عني إن كنت فهمت مقصدي. هيّا يا بني، افعل هذا قبل فوات الأوان! هأنذا أطلب إليك أن تفعل هذا للمرة الثانية، فلا تضطرني إلى الثالثة. سألته مستوضحاً وأنا أقمع وجلي وعظم دهشتي: - وأين أجد والدي في هذا الشطر من الليل يا جدي؟ - ستجده متى ذهبت إلى الطاحونة. ستجده في مكان ما بالقرب منها. في الطاحونة رجل ينتظرك؛ رجل موكَّل بإرشادك إلى الموضع الذي ستعثر فيه على والدك. فقم يا بني، واسعَ إلى لقائه من هاته اللحظة، واتبع إرشاداته، وإياك أن تحيد عنها! فصرخت والدتي صرخة كانت أقوى من صرختها الأولى، حين سمعَتْه يستفزُّني إلى النهوض بحثاً عن والدي، صرخت وفي عينيها رعب متأجج كاللهب: - لا يا عمي، لااا.. إلا هذا، إلا الخروج إلى الطاحونة في حلكة الليل.. كان رأس جدي، كما ذكرت، غارقاً في العدم في منطقة لا يخترقها بصري، طيلة الوقت الذي مرّ. لم تكن عيناي تبصرانه، لم تكونا تتبيَّنان ملامح وجهه إطلاقاً، وإنما كنت أستشعر وجوده استشعاراً، وأتحسَّسه بذاكرتي التي ظلّت تحتفظ بقسماته كما لو كانت ما تزال حيّة ثابتة، أو منقوشة على حجر. ولكنه الآن ظاهر لعيني. أرى رأس جدي فوق كتفيه حيث كان دائماً، أراه بوضوح: أرى وجهه النحيل بعارضيه المفروشين بشعر شائك، أرى جبهته العريضة المخدَّدة، أرى عينيه الغائرتين المزدحمتين بمعاني الرجولة تحت حاجبين مقوسين، أرى منخره المحدودب بأرنبته العظيمة المحمرة، أرى شعره الثاغم الخفيف وعنقه المحفور بالتجاعيد. ثم لا ألبث حتى أراه يقف منتصباً على قدميه في هيئة المزمع على مفارقة المكان وإنهاء الحديث، ثم أسمعه يعاتب أمي بنبر هادئ عميق كئيب: - أمثلك تمنع ابنها عن إنقاذ والده الذي هو ابني!؟ ليتني متُّ قبل أن أرى وأسمع منك هذا يا ابنتي! فترد عليه أمي محتجَّة مدافعة معاتبة، ولكنْ بصوت حلَّ به الارتعاش: - كيف تقول قولاً كهذا يا عمي؟ أأنا أمنع ولدي عن إنقاذ والده الذي هو زوجي أبو أطفالي، جسدي، روحي؟! أنااا..؟ معاذ الله! أأنا أمنع ولدي؟ أبداً.. أنا لا أمنعه يا عمي، لا أمنعه وحق المسيح والعذراء الطاهرة! ولكنني لا أريد أن أفقده هو الآخر. أئذا فقدنا واحداً منا، حسُن أن نفقد واحداً آخر؟ قفزت من مكاني كمن لسعه عقرب. أحسست كلام أمي يخترق صدري اختراقاً مثل نصل خنجر بارد لامع. يا إلهي! ما معنى ((فقدنا واحداً منا))؟ فقدنا!؟ يا لها من كلمة مرعبة! جدي وجدتي لم يذكرا قط أنّ والدي مفقود. جدي وجدتي قلقان على ابنهما أن يكون تعرض لخطر مجهول في الطريق فحسب، والتعرض للخطر لا يعني الفقدان، فمن أين جاء أمي أن والدي مفقود؟ من أين جاءها، من بعد أن كانت غير مقتنعة البتة بأنَّ والدي يمكن أن يواجه متاعب ولو ضئيلة في طريق عودته، أن تجهر على مسامعنا بفكرة فقدانه الرهيبة!؟ ما الذي حدث فجأة؛ فغير يقين أمي السابق بأن أبي آمن من الأخطار، وهي ليست ممن يتحول عما استقر في نفسه وعقله بمثل هذه السرعة؟ وممَّ تخاف عليّ أمي؟ ممَّ؟ ما الذي تظنه يترصَّدني ليتقنَّص حياتي، إذا ما خرجت لإنقاذ والدي؟ وانطلق من لهاتي ما يشبه الاستغاثة، وأنا أكاد أنكفئ على وجهي: - جدي أتسمع ما تقوله أمي؟ جدي، أرجوك! خبِّرني: هل سأعثر على والدي حيّاً؟ لم يظهر على جدي ما يدلّ على أنه سمع صرختي الوجيعة الحائرة المتلهفة. رأيته يخطو خطوات وئيدة ثابتة باتجاه الباب، وهو صامت صمتاً يثير الرهبة. فلما حاذى جدتي، مدّ لها ذراعه اليمنى، فألقت جدتي الطبق الذي كان في يدها على ظهر المائدة بإهمال فكاد يتحطم، وأطبقت بأصابعها المخشوشنة على رسغه، وسارت إلى جانبه بخطو يحاكي خطواته البطيئة، حتى إذا بلغا الباب توقفا إزاءه هنيهة، والرأس منهما خاشع، قبل أن يستديرا نحوي، ويرفعا إليَّ بصرهما المخضلَّ بابتسامة ذابت حنوّاً ورأفة ورجاء دون أن يتلفظا بحرف. وما هي إلا لحيظات تمرُّ على وقفتهما تلك، حتى رأيتهما يذوبان في سحابة فضية طويلة رفيعة رقيقة من الدخان ما عتمت أن تسلَّلت كالأفعى من خصاص الباب؛ واختفت دون أن تترك خلفها أثراً. حدث هذا أمام بصري المنذهل، حدث على نحو مباغت عجيب، كان من شأنه أن يضاعف هلعي وحيرتي إلى حدّ الصدمة، لولا إحساسي بوجود أمي بالقرب مني. كانت أمي في هذه اللحظة خلف المائدة التي تفصلها عني، منكبَّة عليها تجفِّف بخرقة بالية مجعّدة ما تخلَّف فوق سطحها من قطرات الماء والحساء الأحمر والشاي وحبيبات البرغل. فلما أمعنتُ النظر في وجهها الوضيء ذي التقاطيع الحلوة المتناسقة؛ وجهِها الذي زاده وضاءة شعاع السراج المنسكب على صفحته، رأيت الهدوء يوشّحه؛ فسكنت عندئذ انفعالاتي المحتدمة شيئاً. سألتني أمي كما لو أنها كانت خالية الذهن والشعور تماماً من كل ما حدث، أو كأنها لم تكن حاضرة وقت أن كان جدي وجدتي حاضرين: - ما لي أراك غارقاً في التفكير! بماذا تفكر؟ فقلت على عجل: - أنا لا أفكر بشيء. إنه كلام جدي قد شغلني شيئاً. - أويشغلك كلام الموتى؟! جدك مات منذ ثمانية أعوام، وأنت مازلت تفكر بكلامه؟! - ولكنه كان هنا بصحبة جدتي قبل قليل، وقد أوصاني أن أبادر إلى والدي، فكيف لا أفكر بكلامه!؟ أمي، ألم تريه وتسمعيه؟ - بلى، رأيته وسمعت جميع أقواله.. - فكيف إذن تريدينني على ألا ينشغل فكري بما قاله لي جدي؟ كيف تريدينني ألا أفكر به، ما دام حضوره في حياتنا ممكناً في كل آن رغم وفاته؟! - الأمر لا يتعلق بحضوره يا بني، الأمر متعلق بما قاله لك، وبما أوصاك به. فإن الذي قاله لك والذي أوصاك به، لا يستدعي أن ينشغل به عقلك بتةً. ما قاله جدك مجرد كلام.. كلام موتى. ومتى كان كلام الموتى يستدعي التفكير يا بني؟ كلام الموتى لا تلتقطه الآذان ولا يمر في الأفهام إلا في الأحلام. والأحلام أحلام؛ أوهام تمرّ في ذهن النائم الغفل، حتى إذا صحا من نومه، تبدّدت سريعاً كبخار الماء. لم أقتنع بكلامها، اعترضت قائلاً: - إذا لم تكن الأحلام تصدق، فكيف صدق حلم العم داود شماس الكنيسة؛ الذي رأى في الحلم صورة العذراء والصليب مدفونين تحت طبقات التراب؟ ألم يعثر الناس عليهما في المكان الذي رآهما فيه، عندما نقبوا عنهما؟ - هذا لأنّ العمَّ داود، رجل تقيٌّ خادم للرب مواظب على صلواته اليومية في الكنيسة، وليس مثلك مهملاً لا يزورها إلا في الأعياد. ثانياً: من جاءه في الحلم، كانت العذراء، تقدَّس اسمها! ولم يكن شخصاً عادياً فانياً كجدك. - ولكنني، مع ذلك، أعتقد أن جدي لم يكن ليظهر الليلة لنا، لولا الحاجة إلى ظهوره. الموتى لا يظهرون في أحلامنا عبثاً يا أمي، وإنما يظهرون؛ لأنهم يحملون لنا من الغيب وصايا وتنبيهات وتحذيرات تساعدنا على تجنب الوقوع في الآثام والخطايا وتبصر الطريق، وعلى تفادي الأخطار قبل حصولها، هذا ما يعتقده الجميع، وهذا ما أعتقده أنا أيضاً. ولعمري! إن لم يكن الأمر كما يعتقد الجميع وكما أعتقد أنا، فلماذا يظهر موتانا لنا؟ - إذا كان الموتى قادرين على معرفة الغيب ومعرفة ما يجري في حياتنا والتأثر به، وقادرين على حمل الرسائل والوصايا كما تتوهَّم، فلماذا لا يقدرون على دفع الأخطار عنا بأنفسهم؟ تلعثمتُ من جديد أمام حجتها، ولم أحظ بردٍ عليها. بيد أنني لم أستسلم. لقد كانت فكرة أنّ والدي يواجه خطراً مستحوذة عليّ كلّ الاستحواذ، حتى غدا نكوصي عنها أمراً مستحيلاً. وكيف أنكص عنها؟ كيف، ولا سيما أنّ فيها اختباراً لرجولتي؟كيف أتقاعس - وأنا من أنا! - عن نجدة إنسان، كائناً من كان، وقد دعيت إلى نجدته؟! قلت لأمي مصمماً: - لا بد من تنفيذ وصية جدي. استقامت أمي بظهرها، تأملتني على مهل، ثم سألتني وقد تجهَّم وجهها واعتكر: - وماذا تنوي أن تفعل؟ - أذهب إلى الطاحونة كما أوصاني جدي. لا بد من الذهاب إليها في الحال. ارتسم الذعر في عينيِّ أمي على سعتهما، تجمّدت لحظة في مكانها قبل أن تتحرك فترشم علامة الصليب فوق جبينها وصدرها، وتقولَ بلهجة حاسمة قاطعة: - لن تذهب إلى الطاحونة! كنت أعلم أن أمي ترتاع ارتياعاً لا قرار له، إذا ذكرت الطاحونة في الليل، وأعلم أنها تصدِّق جميع الحكايات التي يتناقلها الناس عن خوارق الجن والأرواح الشريرة؛ تلك التي تعزف في جنبات الظلمة المخيفة وتعربد. وأعلم أنها لم تكن تستريب قيد شعرة بصحة ما روي عن خبال يعقوب زوج (سيران) ابنة خال جمشيد، من أنه عشقته جنية بينما كان يجتاز ليلاً وادي (بور عربا) الصخري العميق المنحدر انحداراً مهيباً رهيباً عند حدود قرية (راما) وهو في طريقه إلى قرية (عين بازوكا) لعيادة شقيقه المريض حاملاً له وصفة عربية من أعشاب جافة وفخذ جَدْيٍ مسلوق؛ فأغوته بسحرها وفتنتها الصارخة، وتمكَّنت من قلبه فاتخذها زوجة ثانية، كانت أمي تصدق الحكاية مع أن الخوري جبرائيل أكّد على مسامعها أكثر من مرة أن الجنّ أو الأرواح الشريرة لا تتزوج من البشر، وما زال يعقوب منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، يهيم على وجهه في وادي (بور عربا) كلما دنا المساء، ولا يعود إلى أهله إلا مع طلوع الفجر، وهو من الشقاء والبؤس أشبه بثوب مهلهل رُذال؛ ولذلك لم أشأ أن أروِّعها؛ فهي أمي وأنا أحبها، ويوجعني أن تغتمَّ. غير أنّ وصية جدِّي لي، كانت نداء قوياً ملحاحاً نخّاساً لم أجد معه بدّاً من أن ألجأ إلى ملاوستها والاحتيال عليها، وإن كنت أدرك في قرارتي أن الاحتيال عليها أو مخاتلتها، تصرُّف معيب جافٍ لا يليق بي أن أقترفه. ولكنْ، ماذا أفعل؟ وليس إلى غايتي من سبيل إلا المخاتلة؟ قلت وأنا أصطنع تطمينها: - كما تشائين يا أمي، لن أخرج الآن، سأرجئ الخروج إلى الصباح عقب استيقاظي من النوم. - لن تخرج في الصباح؛ فوالدك سيكون هنا قبل أن تستيقظ. اجتاحتني رغبة مجنونة في معاندة أمي عند سماعي قولها هذا، أردت أن أعاكسها في ثقتها بعودة والدي سالماً؛ أردت أن أقول لها: ((كأنك تتنبَّئين يا أمي! من أين لكِ أنَّ والدي سيكون هنا في الصباح؟)). بيد أنها كانت قد غابت عن الوجود في المكان الذي كان يجمعنا؛ أعني حجرة الطعام من بيتنا العتيق، غابت أمي عن نظري في اللحظة التي أردت فيها أن أعاندها بقولي ذاك، انتقلت بسرعة المخيلة إلى حجرة نومها، رقدت في فراشها، تغطت إلى خصرها بملاءة مزركشة برسوم أبدعتها إبرة مريم، وراحت في نوم عميق، تاركة إيّاي حراً طليقاً، أفعل ما يجب أن أفعله دون أن أسمع منها زجراً يعوقني، أو أمراً يحول دون أداء واجبي. والحق أن أمي لم تختر بإرادتها أن تتركني حراً. ما كان لخوفها عليّ الذي يكبّل إرادتها، وينهاها عن اختيار أمر فظيع كهذا، أن يترك لها أن تختار ذلك بإرادتها. كما أنها، بالمناسبة، لم تكن قد فرغت بعد من عملها في المطبخ، لتذهب إلى النوم. إن أمي لا تذهب عادة إلى النوم ما لم تنجز عملها في المطبخ، ولو تأخر بها، وإنما الذي أراد لها أن تذهب إلى النوم هو أنا.. كنت أنا بلا ريب؛ كي يخلو لي الجو من العوائق. وهذا حدثٌ قابل للحدوث في المنام: أن تحبَّ حدوث الأشياء في نومك، كما تحب أن تحدث؛ فتحدث الأشياء كما أحببتَ أن تحدث. ولكأن في هذا الأمر – بحسب تفسير أمي التي أعتز بقوة عقلها - تعويضاً عما هو مستحيل أو صعب الحدوث من الرغائب في الواقع الصلب النائي عن الأحلام. ولعل هذه الحقيقة الفذَّة التي اكتشفها جدي من قبلي، وأفصح عنها أمامي لما حضرت على مسامعه حادثةُ العجل، هي التي ستجعلني أحب النوم، وأعشق الأحلام الجميلة، وألوذ بها، وآتيها كلما اندحرت رغباتي وأمانيّ، أو لوَتْ أعناقها رياحُ الواقع الهبوبة. جمعت أطرافي المبعثرة، نفضت عنها الضعف، ملأت رئتيّ بالعزيمة، نضحت محياي بالجد والاهتمام، ثم خرجت إلى حجرة نومنا. كانت مريم وفبرونيا مستلقيتين على جنبيهما في فراشهما غارقتين في النوم، وكان حاتم نائماً مثلهما أيضاً في فراشه الممدود على الأرض إلى جانب فبرونيا. كان ثلاثتهم نائمين في أفرشتهم ولكنْ بأجسادهم، بأجسادهم فقط؛ وذلك لأنني كنت أسمع أصواتهم المختلطة بأصوات أترابهم من أبناء القرية تأتي إليَّ من بعيد؛ من غرفة الضيوف المستقلة خارج حوش الدار. مما حداني على أن أطمئن وأثق بنجاح مسعاي. فما دامت أصواتهم تأتي إليّ من بعيد؛ فليس ينبغي أن ينتابني القلق على أن يخيب ما أسعى إليه: إن بعد أصواتهم عني، هو بعدهم عني، وبعدهم عني حائل بلا ريب دون علمهم بتدبيري، وجهلهم بتدبيري حائل دون أن يحبطوا تدبيري بأيديهم، أو يفسدوه بتبليغ أمي بعد أن يوقظوها من رقادها. تسلَّلت على أصابع قدميّ إلى فراشي. رفعت نهايته حيث أضع رأسي، تناولت خنجري ذا الغلاف المرصَّع، الذي كان والدي قدَّمه لي، وهو يستر افتخاره بي على عادته بافتعال اللامبالاة؛ مكافأة على اجتيازي اختبار الشجاعة بنجاح. وذاك اختبار كان يتوجب أن يخوضه من أحبّ من الغلمان الشادين من أبناء ضيعتنا، أن يثبت رجولته وشجاعته في نظر وذاكرة الناس ولا سيما الفتيات. كان هذا الاختبار يجري غالباً في ليلة من ليالي الخريف، يحتجب فيها القمر؛ فتحلولك الظلمة، وتنشج في جوانبها ريح محملة بالغبار. في هذه الليلة الليلى، كان على الغلام الذي رشّح نفسه لنيل الاعتراف بشجاعته، أن يجازف فيجتاز وادي (بور عربا) المهول، ويصعد إلى شجرة البطم الراسخة فوق كتفه العليا من الضفة الثانية، فيقصف منها غُصيناً ليريه أهل القرية إذا آب؛ دليلَ إثبات على صدق إقدامه. وكنت واحداً من القلائل الذين قصفوا غصيناً من شجرة البطم وجاءوا به، ولكن من بعد أن ذاقوا أفانين من الرعب والهلع وهم في الطريق إليه، أو هم في طريق أوبتهم منه؛ أفانين من الهلع ستنغِّص عليهم أحلامهم بالجواثيم الثقيلة ثقل الصخور، وتلوِّن بشرتهم الحنطية بصفرة قاتمة أياماً بل أسابيع، رغم استعانتهم على الرعب (بآفون دبشمايا.. والسلام عليك يا مريم..) وتكرارهم للصلاتين دون انقطاع، وهم يمخرون عباب الهول والرهبة. غيّبت الخنجر في منطقتي تحت ردائي العلوي المنسدل على شروالي؛ فشعرت بالأمان، وشعرت بالارتياح. أنا الآن محميّ، بفضل خنجري المتأهب للطعن، من الأخطار التي تتربّص عادة بسائر الليل المنفرد، وأملك بفضله القدرة على دفعها وتفريقها عن والدي، إذا رأيت والدي محاطاً بها حقاً حسبما خطر في بال جدتي وجدي. ولكنني ما كدت أخطو خطوتين خارج حجرة النوم، حتى فوجئت بالخالة (حِكْمِية) أم جمشيد تعترض سبيلي. كان ظهر الخالة حكمية إلى كرة الضوء الفضية الساهرة المنحدرة إلى الجهة الجنوبية الغربية، وكان ضياء الكرة، بسبب انحدارها، قد صار أقرب إلى غبشة الغسق؛ ولهذا فلم أتمكن من رؤية قسمات وجهها بوضوح. صوتها الأجشُّ المستيقظ للتوِّ من النوم، هو وحده الذي سينبئني بما يعتمل في صدرها من الهواجس. عاجلتها بدهشتي: - ما الذي جاء بكِ في هذا الوقت يا خالة؟ فمدّت الخالة (حكمية) يدها إليّ بشيء، وقالت: - خذ هذا.. خذه علقه في عنقك! هذا سيحميك من الجنّ، ومن الضباع الجائعة. الخنجر لا يردع الجنّ عنك، وهو لن يخيف الضباع فيردَّها عنك. الضباع تباغت السائر في الليل من الخلف فتثب على ظهره، وتنشب مخالبها فيه، ثم تقبض بفكِّها القوي على عنقه قبل أن يتاح له أن ينتضي خنجره ليطعنها به. وثمة ضباع خبيثة، إذا ما شمّت رائحة عابر الليل، زحفت إليه على قوائمها المطوية في صمت وحذر كما يزحف الثعبان السالخ إلى فريسته. وعندما تمسي قريبة منه، ترشقه ببولها؛ فيصير المرشوق به (مضبوعاً) في الحال؛ أي ذاهل اللب، يخضع لتأثيرها، مؤتمراً أمرها، منقاداً لها كالذلول. فتأخذه الضبع إلى وجارها، وهو على تلك الحال، فتقدِّمه طعاماً طازجاً شهياً لجرائها. تذكَّرْ يا بني، حادثة (جولو) من قرية زندان؛ الفتى الذي اختطفته الضبع بهذه الطريقة الخبيثة، ألا تذكرها؟ - بلى، أذكر الحادثة جيداً. ولكنْ، ما هذا الذي بيدك يا خالة؟ - هذا؟ هذا، هذا عُوذة، حجاب من صنعة الصوفي (عارف حمي ) خصّك به بعد أن ألحفت عليه في الرجاء، وبعد أن منحته كيلة مما بقي لدينا من زبيب جدتك، وسلَّة من البيض. الصوفي وعدني وعد المؤمن أن يستخدم في صنعته كل مهارته وحذقه وورعه؛ كي يأتي نافعاً صالحاً لفتى مسيحي. فخذه وتقلَّده. - أمن أجلي تكلّفتِ كلّ هذا العناء يا خالتي؟ ليتك ما فعلت! فالضباع لا تهاجم الناس إلا في فصل الشتاء، ونحن الآن لسنا في فصل الشتاء. ولكن أمي، التي ظهرت لنا بغتة، رفعت رأسها المربوط بمنديلها عن مخدتها بعين أثقل جفنها النوم، وقالت معترضة: - بل حسناً فعلتْ صديقتي (حكمية)! فكيف كنت سأكسب زيارتها، لولا أنها فعلت ذلك ؟ تعالي يا عزيزتي، تعالي لقد اشتقت إليك. اضطجعي إلى جانبي فأنت متعبة والوقت متأخر وفي الصباح رباح. وأشارت إليَّ بسبابتها مهددة: - دعي هذا المجنون الجاحد العاقَّ لشأنه إلى صياح الديك. سيكون حسابه عندي في الغد. تصاممت عن سماع تهديدها. أسرعتُ فنحّيت صورتها بحركة رشيقة من خيالي؛ استبعدتُ وجود أمي استبعاداً تاماً كيلا تؤثر في قراري. فلما أن تمّ لي ذلك، رغبت في أن تبقى الخالة حكمية في زيارتنا؛ إذ كنت أنا الآخر مشتاقاً إليها، ومشتاقاً لسماع أحاديثها الممتعة وفكاهاتها الطريفة، وكنت، علاوة على ذلك بل قبل ذلك، راغباً في أن تشهد جسارتي ومأثرتي التي سأجترحها قريباً، فوعّزت إلى خيالي أن يستبقيها، فأبقاها. والآن ها هي الخالة حكمية، التي تسدّ علي طريقي، تمشق قامتها المتواضعة، فتحوط عنقي بذراعيها، وتعلَّق الحرز فيه، ثم تمضي إلى حيث ترقد أمي لتنام إلى جانبها، وهي بكامل ثيابها ما خلا الحذاء، مستجيبة لرغبتي ودعوة أمي. تذكرت كلاب قرية (راما) المجاورة لنا، والتي تنتصف الطريق بين قريتنا والطاحونة، قبل أن أهمّ بالسير إلى غايتي. تذكرت شراستها التي تضارع شراسة الذئاب الضارية حين يفتك بها السغب في الشتاء الطويل، و كيف تنبح، ولا سيما في الليل، على الغرباء الذين لا مندوحة لهم من عبور القرية وهم في طريقهم إلى قراهم أو إلى البلدة أو إلى الطاحونة؛ نباحاً حاداً لجوجاً غير منقطع، وتذكرت كيف تهاجمهم هجوماً عنيفاً مخوفاً لا دعابة فيه، مانعة إياهم من دخول القرية بما حازته من أساليب التوحش وآلاته؛ فعدت إلى حجرة المائدة، وأخرجت من سلة الخبز نصف رغيف قسمته إلى أجزاء صغيرة وحشوت بها جيوبي. ثم انطلقت في جوف الليل الواسع المرصع بنجوم لامعة ثابتة محاطة بالألغاز، وبدرٍ من لجين تحفُّه رهبة وغموض، بخطى حثيثة على الطريق الترابي الضيق باتجاه الطاحونة، وأنا أتلمَّس خنجري، والصمت المهيب يلتف حولي من كل جانب، ويكاد يطبق بإحكام على أنفاس الليل، لولا صريرٌ من جندب هنا ومن آخر هناك، ولولا عواء متقطع مغموس بأنين ممتدٍّ يأتي من بعيد بين الفينة والفينة. نجحت حيلتي في تفادي هجمات الكلاب. انشغلت الكلاب بالتهام فتافيت الخبز؛ فجزت القرية بسلام. ولولا نجاحها، لتحتَّم علي أن أخرج عن الطريق السويِّ المختصر، إلى طريق آخر وعرٍ طويل متعرج يمرُّ ببساتين (راما) في الجهة الجنوبية، ثم ينحدر إلى غور بعيد نحو (بور عربا) لينتهي بعد ذلك إلى الطاحونة. وتلك مسافة قد يطلع عليَّ الصباح قبل أن أقطعها. تقترب الطاحونة مني، أقترب منها، أراها نائمة في بطن الوادي الصخري الموحش مجللة بالعتمة الرمادية كناقةٍ لعرب (شمَّرَ) ناخت تحت جِلّ كالح. أجمز فوق الساقية التي تدير الرَّحى. الساقية صامتة صمت الرضيع النائم لا أسمع لها ونيناً. العمق يجذبني بقوة، يشدُّ خطواتي شدّاً متسارعاً نشيطاً فأهبط إليه، بل أهوي إليه، أهوي بلا وزنٍ، غير قادر على التحكم بخطواتي، حتى أصبحت على مقربة من جدار الطاحونة فانبسطت الأرض تحت قدميّ، حيث عرفت للثبات موطئاً، فجعلت أستردُّ توازني وأنظم خطواتي وأقوّم ظهري، وأنا أنعطف على جانبي الأيسر انعطافة حادة حيث واجهة الطاحونة وبابها الخشبي. وإذ أصبحت في الزاوية التي يمكنني أن أرى منها مدخل الطاحونة والمساحة المكشوفة للعين من داخلها، نظرت فإذا بكائن على هيئة رجل يقف بالباب، متسربلاً بعباءة بيضاء كالطحين قد غطت قامته الممتلئة المديدة من الرأس إلى القدمين؛ باستثناء الوجه فإنه كان ظاهراً مكشوفاً حراً من الغطاء، بيد أنه؛ أي الوجه، بدا لي كما بدا لي وجه الخالة حكمية، حينما انبثقت صورتها أمامي وأنا خارج من حجرة النوم وقد هممت بالسير نحو الطاحونة، غائراً في العتمة الناشئة عن ذبول الضوء بزحول القمر بعيداً عن المكان؛ فلم أتبيَّن حقيقته. ومع ذلك فلم يخالجني شكٌّ في أنه الطحان شمس الدين حقّي. أما من أين جاءني اليقين بأنه شمس الدين حقي وليس شخصاً آخر سواه، وأما كيف جاءني هذا اليقين على الرغم مما أراه من فرق لا تخطئه العين بين قامة شمس الدين الربعة المتوسطة الزهيدة اللحم، وبين قامة هذا الكائن المديدة الممتلئة الضخمة التي كادت تخفي الباب من خلفها عن نظري؛ فلست أدري! ولست أدري أيضاً - وقد تذكرت حديث جدي - كيف يكون شمس الدين هو الرجل الذي ينتظرني؛ ليدلَّني على الموقع الذي سأجد فيه والدي! وشمس الدين لم يكن في يوم من الأيام مقرَّباً من جدي ولا من والدي؛ بل لن أكون في منأى عن الحقيقة، إنْ أنا صرّحت بأنّ كليهما، كان يستكره رؤيته، ويتوجس منه ما يشبه النحس أو الشر إذا قدم عليهما بصحبة والد جمشيد لشأن ما؛ فلا يبادر أحدهما بمصافحته ولا يردُّ سلامه أو يحدِّثه إلا بفتور وحذر. وكثيراً ما كنت أسمعهما يعبران عن ضيقهما بالذهاب إليه في الطاحونة لطحن أكياس القمح المعدَّة للتنور، أو أكياس السمسم للطحينة، وأسمعهما ينحيان على الساعة، التي اضطرتهما إلى طاحونته الوحيدة في المنطقة، باللائمة واللعنة. كان جدي على معرفة بأصوله، لم ينس قط أن جدَّ شمس الدين كان فارساً من فرسان الحميدية، وأنه كان من الذين تلطّخت أيديهم بدماء الأرمن، و(اخضرّت) من دماء المسيحيين الأبرياء من قومه. وكان جمشيد مثلهما لا يودّه أيضاً، ولا أعلم السبب. كان جمشيد كثيراً ما يغتابه بازدراء واحتقار ومقت، ولا يني يهتبل الفرص للتشهير بسمعته. وقد ينبغي أن أعترف هنا بأن شعوراً باللذة والشماتة والغبطة معاً، كان يشرق في أغواري البعيدة، كلما سمعت جمشيداً يتناوله بقدح ذميم. ولكنني كنت أكبت شعوري هذا، وأحبسه في داخلي فلا أسمح له أن يطفو فوق وجهي، أو يظهر في حركات أعضائي خوفاً من أن أظهر بمظهر الشامت بما لا يرضي ربي. ولكم كنت أستمتع بحديثه عندما يقصُّ في إسهاب صريح وتفصيل أقرب ما يكون إلى الفجور؛ حكاية شمس الدين الغريبة مع زوجتيه! وهي حكاية طويلة، أو هي طالت بما كان يضيفه إليها من خياله في كل مرة يروي فيها الحكاية. كان قد تسرب إلى جمشيد أن زوجتَي شمس الدين، اللتين كانتا تسكنان معاً في حجرتين متلاصقتين من داره الوسيعة، عشقت كل منهما الأخرى؛ فكرهتا معاشرته، وعزمتا على منعه من الدنوِّ من فراشهما، ثم اجتمعتا على نيَّة طرده من الدار، فاضطر المسكين إثر ذلك إلى تطليقهما ودفع مؤخَّر صداقهما. الأمر الذي ألزمه ببيع ماشيته وبتأجير حقله لأحد الملاكين؛ فأمسى بين غمضة عين وانتباهتها وقد ساءت حاله، ومسّه الشظف، ولم يبق له من مورد منتظم، إلا ما كان يأتيه من عمله في الطاحونة، وهو نذر شحيح لا يفي بحاجاته. ومن الطبيعي هنا، ألا أكون مصدِّقاً لكل ما يرويه جمشيد من نكبة شمس الدين بنسائه - وإن كنت أُسرُّ بروايته – لأنني كنت جاهلاً بأسرار النساء، لا أفقه من شؤونهن الخاصة إلا قدر ما يفقه الطفل الغرير من شؤون الكبار. أذكر أنني عندما سمعت الحكاية الفاضحة منه لأول مرة، ارتجَّت أعماقي وصرخت صرخة مكتومة: لا.. هذا مستحيل، هذا غير قابل للتصديق، لا أصدق، لا أصدق أن تعشق أنثى أنثى مثلها! لا يمكن. كيف يمكن أن تعشق امرأةٌ امرأةً مثلها؟ كيف ذلك؟ يا للعار! أيحدث حقاً شيء مروع شنيع كهذا بين النساء؟ كيف؟ لا، لا هذا محال، هذا لم يحدث قط، ولن يحدث أبداً.. رباه! هل لي أن أتخيل - ولو على سبيل المثال - خطيبتي (حَنّة) التي أحبها بجنون وأعدُّها خطيبتي، وإن لم أخطبها بعد، والتي ستصبح زوجتي فور حصولي على موافقة ذويها، تعشق إحدى صديقاتها المقربات!؟ وكأنَّ أذن جمشيد المرهفة، تتوجَّس وقتذاك زمجرةَ العاصفة بداخلي، فيأخذ يلطمني بسخرية مرَّة: - أنت غرّ، وستبقى غرّاً ما ارتبتَ في ما أنقله إليك من الأخبار عن النساء. فأردّ عليه محتجاً وفي صوتي رنة التشكي: - لماذا عليّ أن أصدِّق أخبارك، وأنا لم أشهدها بعيني؟ - اسمع! ألم أخبرك من قبل أن للنساء شعرَ عانة مثلنا نحن الرجال؟ - بلى - فهل صدَّقتني حين سمعت ذلك مني؟ - لا. - ولماذا لم تصدقني؟ - لأنني لم أكن رأيت امرأة عارية من قبل، فكيف لي أن أعلم أن للمرأة شعر عانة؟ - وماذا بعد أن أريتك امرأة عارية؟ - كان ينبغي عندئذ أن أصدّق أنّ للمرأة شعر عانة. والحق أنّ جمشيداً، لم يُرني امرأة عارية - ومن أين له أن يريني امرأة عارية؟ - وإنما أراني في إحدى زياراتي له (وسيلة) الأرملة، التي مات عنها زوجها بضربة شمس في موسم الحصاد - وقيل بلدغة حيّة - وهي بعد في معجة الشباب. وسيلة امرأة ناضجة تكبره بما لا يقل عن خمس سنوات. نحيلة ضئيلة ولكنْ بردف أخفق ثوبها الواسع في طمس استدارته وكبح تمرده الشهي أمام أبصارنا الجائعة. لها عينان دعجاوان يلتمع الذعر فيهما، وأنف أحدب، وبشرة محروقة انتشرت فيها البثور. كانت وسيلة مدلَّهة في حبه على ما حدثني. ولكنها كانت خجولة مكبَّلة روحها ولسانها بالعفة والخوف، لم تجرؤ يوماً على التصريح له بحبها وبتوقها الظامئ إليه؛ فلجأت إلى الحيلة والمكر. كانت إذا أنست من حولها غياب الرقباء، ورأته يمرّ بباب دارها، أسرعت فبسطت سجادة الصلاة على الأرض، وخرّت ساجدة على وجهها رافعة مؤخرتها المكورة باتجاهه. فلما لاحظ، مع مرور الأيام وتكرار الفعل، أنها لا تلتزم بمواعيد الصلاة، وأنها لا تؤدي صلاتها إلا إذا رأته يمرّ بدارها، وأنها تطيل السجود ولا تغادره ما لم تشعر بأنه غادرها، راودته الشكوك في تصرفها، وراودته معها شهوة عنيفة إلى اختراقها من مؤخرتها المكتنزة المرفوعة. إلى أن كان يوم عجز فيه عن قهر شهوته المتأججة المهيّأة للانفجار، فانقض عليها وفجّرها في أعماقها وهي ساكنة صامتة لا تبدي ممانعة. وأذكر أنني أنكرتُ عليه فعلته يوم روى لي مغامرته، ووصفتها بالقبح وذكّرته بالعقاب، فرأيته يضحك مستخفّاً بي وبأفكاري قائلاً: - وهل أنا مذنب كي يعاقبني الله؟ وسيلة جائعة وأنا أطعمها.. - ولكنك بهذا تقترف الحرام حين تأتيها وهي تصلي. - ألم أقل لك؟ أنت غرّ صغير، على نياتك! أتظن أنها تصلي حقاً؟ أو أنها تعرف ما معنى الصلاة؟ ههههه.. أنت لا تعرفها. هذه (وسيلة) بنت (نازدارِه) الأرمنية التي اشتراها (حسّو كورو) جدُّ (مهفان) راعي البقر، بديكٍ قميء المنظر كان جرذ جائع قد قرض عُرفه، اشتراها من الجنود الأتراك الذين كانوا يستاقون قافلة من الأرمن إلى حتفهم في (مركَدة) قرب مدينة دير الزور. ومنذ ذلك اليوم – وربما قبل ذلك اليوم - وجمشيد لم يفتأ يستطيل عليّ بتجربته وخبرته ومعرفته بخفايا النساء؛ ولم ينفك يعيّرني بالجهل والسذاجة، حتى جاء اليوم الذي تزوجت فيه؛ فانتهى عما كان فيه وأراحني. وكنت أنا أتقبل منه ذلك بصبر وتساهل وبقلة اهتمام وتأثر. ولا أخفي هنا أنني كنت أرتاب بصدق بعض حكاياته وبصحة كثير مما يرويه من صور علاقته الحميمة المشتبكة (بوسيلة)، ومن صور وصفه المثير لمنعرجات جسدها المستترة وأجزائه الأكثر استتاراً، ومن وصفه لللذة المتوحشة الصامتة التي كانت تمنحها إياه، ولكنني لم أكن أظهر ارتيابي بها، خوفاً من أن يكفّ عن سردها على مسمعي. لقد كان سرده لهذه المشاهد يهيج خيالي ويسكت إلى حين العواءَ الجائع المحتقن داخل أحشائي المضطرمة التي لم تكن أحلامي النارية المجنونة المتقدة بالشهوات العارمات إلى النساء الباذخات بمفاتن الجسد، وإلى حنّة زوجتي فيما بعد، تطفئ لظاها المستعر. كما كنت أرتاب في حقيقة أن للنساء شعر عانة، ولم أصدق بها إلا بعد أن تزوجت، وبالتحدد بعد أن مرّ أسبوع على الليلة الأولى أو أكثر. فقبل مروره لم ألحظ وجود شعرٍ لدى زوجتي حنّة رغم فضولي الشغف واهتمامي بالمسألة منذ اللحظة التي جردتها فيها من ثيابها الناصعة البياض؛ لأنها كانت نتفتهُ بمادة عجيبة – كما علمت ذلك منها بعدئذ – بمساعدة (اشبينتها) وخالتها. لم تكن تركت أثراً على الجلد الأملس يوحي بوجوده. وأنا لم أتجرأ في الليلة الأولى أن أسألها إن كان للنساء شعر حقاً. كان الحياء يمنعني. واشبيني اسحق – سامحه الله - لم يقدِّم لي وصفاً صريحاً لطبيعة الحقل الأنثوي وصورته الواقعية، مع أنه كان يتوجب عليه أن يقدم لي مثل هذا الوصف - أنا الذي لم ير صورة حقل قبل الزواج - كيما أغدو على دراية تامة بكل التفاصيل المفيدة لزراعة ناجحة. اكتفى اشبيني بإرشادي إلى كيفية التصرف في الليلة الأولى بكلمات مرتبكة مشوشة مفرَّغ أكثرُها من المعنى، ولم يزد عليها بما ينفعني غير تحذيره المكرَّر: ((إياكَ أن تتسبّب لها بألم! كن رفيقاً بها وأكثر من تدليك مشاعرها باللفظ الهامس الرقيق، والجسّ الناعم اللطيف! )). كما لم يحدثني عن قطرات الدم التي فاجأتني – وأبهجت حنّة - وكادت تحيل عزمي حين أبصرتها إلى خرقة متهدلة. كنت أرتاب في حقيقةِ أن النساء يمكن أن يقعن في عشق نساء من جنسهن. كانت مخيلتي ساذجة قبل زواجي، قصيرة المدى، عاجزة كلَّ العجز عن الامتداد إلى تلك الآفاق الغرائبية السحرية الرحيبة المجنونة الحمراء التي كان ينحتها جمشيد من غلمة الحواس الظامئة المستنفرة. اقتربت خطوة من الطحان المتسربل بوشاحه الأبيض؛ خطوةً مطمئنة ثابتة لم يعترِها خلجة من تردد أو شك أو توجس؛ فما زلت أحسبه شمس الدين. ولما كنت أعلم أنّ شمس الدين يفضل التركية على الكردية في محادثة الآخرين، اخترت أن أخاطبه بها. قلت له مستفسراً وأنا أتهيّأ لمصافحته، بعد أن ألقيت إليه بتحية المساء عن بعد: - ما أحوجك إلى هذا الزيّ الغريب يا أبا (دَنْدَح)!؟ قد والله! أوشكتُ أن أحسبك شخصاً آخر. تجاهل شمس الدين استفساري، وتحاشى ذراعي الممدودة لمصافحته. سألني وهو يرتد عني مبتعداً نحو باب الطاحونة المتداعي حتى خلت ظهره التصق به: - أهو جدُّك الذي أرسلك إليّ؟ أجبت على الأثر: - نعم.. ثم، وفي أسرع من إغماض الجفن، تنبَّهت لما في صوته من عمق فسيحٍ، ومن حفيف أشبهَ حفيفَ أوراق الصفصاف وقد هبت عليها رياح الخريف. صوت غريب! أبعد ما يكون عن صوت شمس الدين، وتنبهت في اللحظة عينها لما في سؤاله من غموض؛ فكبحت خطوتي، ولبثت في مكاني متجمداً كالمشدوه: - ما جعلك تظنّ أن جدي هو الذي أرسلني إليك؟ - ومن غير جدك يرسلك إليّ؟ - جدتي.. - لا، لو كانت جدتك، لأرسلت جدَّك إليَّ. - من أين لك أن تجزم بذلك؟ - اسمع أيها الفتى! ليس لدي وقت أضيعه في الرد على أسئلتك البائخة التافهة. عليّ أن أنجز مهمتي فأرشدك إلى حيث تجد والدك كرمى لجدك، قبل أن يستيقظ الفجر من رقاده. فما أتمّ الرجل عبارته، حتى تبدّدت صورة الطحان شمس الدين من ذهني، وحلّت محلها صورة شخص آخر؛ شخصٍ مجهول الهوية لا أذكر أني رأيته أو التقيته أو حدَّثته في مكان ما من الأمكنة المألوفة لديّ. وإذا بي، وأنا أتفرسه، يخامرني تهيّب وحيرة، وإذا بي أهمس لنفسي بشفتين سرت فيهما رجفة متسائلاً، وقلبي تتسارع دقاته: ((من تراه يكون؟)). وفجأة رأيت الرجل ينزع عن وجهه المغمور بالعتمة الرقيقة قناعاً كشف لي عن وجه مستدير كالرغيف عجيناً، ممسوح القسمات ما خلا عيناً يتيمة مظلمة رهيبة التحديق، ظلت متشبِّثة بوجودها في منتصفه، فبدت مثل كوّة مصطبغة بالسخام في جدار مكلّس أملس. ورأيت المساحة المكشوفة من داخل الطاحونة ينهمر فوقها صبيب من ضوء شديد باهر اللمعان فيغمرها. فإذا حجر الرَّحى يظهر لي في وسط تلك المساحة، وهو يدور دوراناً خاملاً بطيئاً حول نفسه، ويحشرج حشرجة مختنقة. وإذا امرأة متجرِّدة شامخة الثديين هائجة الشعر، تناثرت خصلات تائهة من شعرها الفاحم الهائج فغطت بعضاً من تضاريس وجهها وحجبتها عن ناظري، قد استلقت على ظهرها فوق حجر الرحى الدائر بخمول، مضمومة الفخذين والساقين. ذراعاها ملتصقان على امتدادهما بجسدها العاري المشدود من الجانبين، وبطنها المصقول المستوي تنتصفه وقبةٌ غائرة تنتهي على بعد شبر إلى مرجة من شعر كستنائي عند ملتقى الفخذين الضخمين الأوضحين. وإذا بي ألمح جمعاً من الرجال في حلقة دائرية من حولها وهم جلوس متربعون متلاصقون صامتون مطرقون ذاهلون عن أنفسهم، وبينهم (يعقوب رشّو) المخبول زوج سيرين أخت جمشيد، ساهماً مطرقاً ذاهلاً مثلهم عن نفسه. إذ ذاك أحسست هلعاً يندفع كالسيل المحتدم إلى قلبي ويجتاح سدوده، التي كنت أحسبها محكمة، ويهدم جسوره المتينة، فتندُّ عني صرخة هائلة ملهوفة تردد صداها في جنبات الليل مالئاً سمعي: (( لا، لا ! دعوني.. لا أريد أن أتزوج جنيّة.. لا أريد!)). - لا تجزع أيها الفتى! لا تجزع.. لستُ من الجن. هتف بي الشخص المجهول بصوته العميق الذي كحفيف أوراق الصفصاف في مهب رياح الخريف، وتقدم مني خطوة واسعة، ومدّ نحوي ذراعاً طويلة يكسوها شعر كثيف بكفّ بدت أصابعها كالمخالب، وهمّ أن يمسكني من عضدي، فكانت حركة ضاعفت هلعي وجبني، فإذا أنا أندحر عنه على عقبيَّ، وأوعز إلى ساقيّ، اللتين صار وقودهما الخوف بدلاً من الدم، في الانطلاق باتجاه القرية. – ما لك تفرّ مني، أتخافني؟! مكانك! ما عهدي بك خائفاً.. ويعلو صوته خلفي منادياً: - كوما، كوما.. تعال، تعال هاتِ يدك ودعني أسر بك إلى حيث والدك. أسرع فإنه في حاجة إليك. - لااااا ابتعد عني، لا تلمسني! ما أنتَ إلا جنية متنكرة في هيئة شبح، غايتها أن تقترن بي كما اقترنت بيعقوب. - وما الخطأ في اقتران يعقوب بصديقتي (زبُّوعة) ؟ ألا ترى يعقوباً منغمساً إلى شحمة أذنه في نهر عذب من اللذة؟ - أوتسمي الخبال لذة!؟ يا إلهي! أنت إذن جنية.. - يعقوب ليس مخبّلاً أيها الفتى، يعقوب رجل سعيد؛ لأنه ما عاد يشقى بنساء الإنس، وليس يشقى بكدح غير مجدٍ من أجل بقاء ليس يبقى، كما تشقى أنت وأصحابك في الكروم والحقول والمراعي، وهو بخلافك لا يعرف الخوف. - رباه! أنت جنيّة، أنت جنية..كيف يبعثني جدي إليك!؟ - لو لم يبعثك جدك إلي، ما كان جدك حصيفاً. أنا الوحيد بين الإنس والجن العارف أين تجد المكان حيث والدك ينتظر أن تنجده. - فما دمت عارفاً كما تزعم، فما أخّرك عن نجدته حتى وصولي إليك؟ - أنت المكلف بنجدته، أنت وحدك، وليس أنا. هيا ادن مني ودعني ألمسك. وإذ لم يبق لدي شك مقدار خردلة بأنه جنية، وإذ كنت على يقين من أنها إذا ما لمستني، فقدت إرادتي وعقلي، وصرت في الحال طوع يمينها زوجاً تلهو به وعبداً تمتطيه إلى أهوائها، شرعت أستنفر جميع ما أملك من وسائل المقاومة العنيدة المدخرة في الشعاب الغائرة من روحي وجسدي؛ علني بها أصدّ الشبح عني، وأحول بينه وبين لمسي والإمساك بعضدي: صرت أصرخ فيه وهو يطاردني، وأتوعَّده وهو يطاردني، وأسترحمه وهو يطاردني، أقصيه في ذهني المحموم بأمرٍ، فما يستجيب لأمري وما ينفك يطاردني. وأنا في هذا الموقف العصيب الرهيب المسجى بالقنوط، تذكرت خنجري، ولكنّ يدي المتخاذلة لم تكن لتقوى على سحبه من غمده الغافي تحت نطاقي، كما لم تكن لتقوى على سحب الصليب من صدري؛ الصليب الذي طوّقتني به جدتي ليحميني، ولا على سحب عوذة الخالة حكمية. وخيّل إلي في لحظة من تلك اللحظات التي تجري فيها الأحداث بطريقة عشوائية غريبة مختلطة دون ضوابط عقلية أو رقابة ذهنية؛ أنني أركض وأركض وأركض، وأن المسافة بيني وبين الشبح تتمادى في الاتساع بفضل ركضي، على الرغم من أنني كنت أتعثر أثناء الركض بالحجارة فأكبو على وجهي، وأصطدم بالشجيرات الشوكية فأسقط فوقها فتدميني، إلا أنني كنت سرعان ما أهبّ على قدميّ من جديد، وأواصل الجري على الوتيرة نفسها، وأنا لا أكاد أشعر بالألم، وأهبط الوادي، وأعبر النهير، ثم أصعد إلى تلعة مشرفة على النهير، والأمل بالنجاة من قبضة الشبح يحدوني. غير أنني لا ألبث أن أكتشف أنني أراوح وأراوح وأراوح بين ساقيّ في نفس المكان الذي كنت فيه، فلا أجتازه، مع كل الجهد الذي كانت ساقاي تضطلعان به، ولا أبرحه قيد أنملة، فلكأني مشدود من ظهري إلى مَرَسٍ متين قصير. وما هي إلا رمشة عين حتى أحس بالشبح المخيف من ورائي وقد تحوّل إلى ضِبعانٍ شرس الملمح واسع الشدق حادّ النيوب، متحفزاً للوثوب على عنقي؛ فجرت رعدة في أوصالي هزّت كياني هزّاً عنيفاً. فرحت أستغيث وأتضرع وأستنجد، ولا مغيث لي في خواء الليل، فأيئس وما أملك من بعد يأسي غير أن أصرخ من الرعب المستحوذ عليّ، وأستمر في الصراخ وقد قفَّ شعر رأسي، وأوشكتُ أن أغيب عن وعيي: - ابتعد عني، ابتعد.. لا أريد أن أتزوج جنية، لا أريد. أنا أحب (حّنِّه) ولا أريد أن أموت.. وما زالت في رعب أصرخ وأصرخ وأنتفض كالداجن الذبيح بذراعيَّ وساقيّ وأجزائي الأخرى، حتى أشفق النوم على حالي، وهبّ لغوثي إذ سدد قبضته قبضتي إلى صدري؛ فانقذف وعيي على الأثر كسدادة زجاجة أو حصاة من بؤرة الحلم الرهيب إلى رحبة اليقظة. تمتمت صلاة شكر قصيرة لربي أنْ جعل كل ذلك الرعب حلماً، ونهضت من فراشي وأنا أجفِّف جبهتي من العرق المتفصِّد براحتي، وأتلمس بالأخرى عظام صدري المتوجعة من أثر الضربة التي نالتها من قبضتي وأنا نائم. كان جمشيد وولات يغطان في النوم غطيطاً عميقاً مسموعاً من أثر التعب، فلم ينتبها من نومهما. ولولا أنهما كانا في غاية التعب، لاستيقظا، أغلب الظن، على صرخات الرعب الكابوسية التي لا بد أن تكون حنجرتي ضجّت بها في منامي ودوّت مخترقة جدران الحلم؛ كما استيقظ أخوتي ليلة من ليالي الشتاء الفائت على صراخي، وأنا أتشاجر ووالد (حَنّه) لأنه رفض في الحلم أن يزوجنيها. فتحت الباب بحذر لئلا أوقظهما، وانسللت منه إلى ساحة الدار المجللة بعتمة الغلس وبالسكون؛ لأعبّ ماء من الدنّ القائم في الزاوية قرب باب المطبخ، أبلُّ به جفاف حلقي، وأبرّد حرارة بدني المتصاعدة كاللهب من مسامِّه. كان كلبنا (دَعْدَع) منبطحاً على بطنه فوق قائمتيه غير بعيد عن الدنِّ في حالة تحفز. فلما رآني قفز على قوائمه برشاقة، وحرك ذيله، ومطّ أذنيه، وأصدر عواء يشبه الأنين. وبدلاً من أن يثب بقائمتيه الأماميتين على ركبتي ويخرمش جلبابي، وهو يضطرب بجسده ويختفق برأسه وذيله، كما اعتاد أن يفعل ذلك كلما رآني، اندفع عدواً باتجاه الطريق المؤدي إلى قرية (راما) ثم عاد إلي عدواً فارتمى على قدميّ، وأخذ ينبح نباحاً غريباً لم تعهده منه أذني من قبل. ثم ما عتم دعدع أن نهض قفزاً ليعود فينطلق ثانية عدواً باتجاه الطريق عينه. وما أصبح عند منعطف دار (سليمان جبرو) حتى دخله وغاب عن ناظري، ثم لم يعد. لم أعر سلوكه الغريب اهتماماً، لم آبه به ولا بحركاته. كان ذهني منصرفاً إلى شيء آخر. كان ذهني منهمكاً باستعادة تفاصيل الحلم الغريب المخيف الذي أبصرته في منامي، وكنت في الوقت نفسه أحاول أن أمحو من نفسي آثار الخوف والقلق على والدي؛ أحاول أن أقنع نفسي بأنّ ما رأيته في منامي، لم يكن سوى حلم مريع عابر من تلكم الأحلام التي لا تتحقق، أو كابوسٍ نتج بلا مراء عن إسرافي في ملء معدتي على العشاء، وعن الإرهاق، وعن تفكيري بمصير عجلنا تورو. فمن أين لوالدي أن يتعرض لخطر ما، ووالدي لا خصوم له ولا أعداء؟ من أين له ذلك وهو لا يشكو مرضاً؟ لا. لا.. والدي لايمكن أن يصادف متاعب في طريقه، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وهو عائد من البلدة إلى الضيعة، حتى لو اختار والدي أن يعود في الغسق، أو اختار أن يعود في الغلس. ثمّ ما الغسق؟ وما الغلس؟ ما الذي يختبئ في طيّات الغسق؟ وما الذي يختبئ داخل جبة الغلس مما له أن يؤذي والدي؟ لا شيء، لا شيء البتة. لقد بلوت الليل مقمراً ودامساً، اجتزت فيه السهول منفرداً والدروب والقرى والمزارع والهضاب والأودية ومساقط المياه والينابيع والنهر والجبل والغياض والخرائب والبساتين وغابات الحور والصفصاف والمدافن، فلم أقع على شيء غير الضوء يسكب فضته على الكون، وغير الظلمة تستر الموجودات عن العين. حسناً، فليكن! فليكن أنَّ في الليل شيئاً لم أختبره بنفسي، فهل من داع إلى القلق وإلى الخوف، وأنا أعلم علم اليقين بأن والدي لا يعود من سفره ليلاً مهما تحوجه الضرورة؟ كلا! إذاً، فإن كان والدي لم يسبق له أن عاد في الليل قط؟ فكيف يعود في هذه الليلة؟ إنّ والدي لم يألف أن يعود في الليل؛ ولهذا فلن يعود في هذه الليلة أيضاً؛ فلا خوف عليه إذاً ولا قلق. ثم كيف يعود – هذا إن خطر له أن يعود - وعمتي (كوجرِه) ابنة عمه المقيمة في البلدة مع زوجها (اسطيفان) الخياط وأولادها الأربعة، سدٌّ منيع حائل دون عودته؟! إن عمتي كوجره امرأة عنيدة، يعرفها الجميع بهذه الصفة التي لا تفارقها. إنها لن تتهاون مطلقاً في أمر عودته ليلاً؛ أي لن تسمح له بالعودة - كما لم تسمح له بها من قبل - مهما تكن أعذاره. هذه حقيقة أعلمها جيداً، أجزم بها، وليس بوسعي أن أرتاب فيها على أية حال من الأحوال. وهل التملُّص من عمتي كوجرِه متاح ميسور وبخاصة لرجل دمث الطباع كوالدي؟ لا، أبداً، هذا عين المحال! لو استطاع والدي أن يتملَّص من بين يديها، فلن يكون ذلك إلا حدثاً خارقاً استثنائياً قد يضارع حدثاً من الأحداث المستحيلة مثل خروج الإنسان من جلده. على هذا النهج مضيت في التفكير، وتقديم الحجج، على عادة أمي، محاولاً أن أسرِّي عن قلبي الوجلَ وأُذهب عنه الاغتمامَ والقلق، ساعياً بدأب وإخلاص إلى أن أحلّ فيه الطمأنينة والهدوء. بيد أن قلبي لم يكن معي، لم يستجب لمحاولاتي - مع الأسف - ولم يهدأ. ظلّ قلبي يضطرب بشتى الوساوس والانفعالات، ولا سيما عندما مرت في خاطري فكرةُ أن يكون والدي عزم بصورة استثنائية على العودة في هذه الليلة، ثم نفذ ما اعتزمه سراً في الخفاء بعيداً عن نظر عمتي كوجره وعلمها؛ فيكون من هذا أن حقيقة كونه ((لم يسبق له أن آب في الليل)) حقيقة غير مكتملة، غير متماسكة أو مقنعة؛ حيث إنها لا تنفي أن يؤوب في هذه الليلة نفياً ضرورياً. ولأنها كذلك، فهي في النتيجة النهائية حقيقة قابلة للاختراق من احتمال مضاد، تماماً مثل حقيقتي أنا إذ أذكر أنني كنت دائماً ودوداً عفيف اللسان مسالماً أتجنب الشجار والمماحكات، ولكنني في إحدى المرات خرجت عن طبعي ومسلكي؛ وذلك عندما أُخبرت بأن عيسى أخا (آسيا)، التي ظننت يوماً أنني أحبها قبل حبي لحنّة، تحرّش بأختي مريم وأسمعها كلاماً وقيحاً معيباً أبكاها. قد لا تكون تجربتي هذه مطابقة للفكرة التي أودّ أن أعبر عنها هنا تمام المطابقة. بيد أنها رغم ذلك تظهر ما بينها وبين الفكرة تلك من تقارب في التدليل على أنّ أحوال الإنسان وأطواره وخلائقه ومسالكه عرضة للتبديل والتغيير بحسب ما يطرأ عليها من مؤثرات، وينتابها من دوافع ورغبات. إذاً، أن يخرج الإنسان أحياناً عما ألفه من طبعه وسلوكه وفكره وعاداته، ممكن الحدوث؛ بل إنه حقيقة لا شك فيها. ولمَ الشك؟! أليس ممكناً محتملَ الوقوع أن يكون والدي – مثلاً - أمضى سهرة ممتعة مع زوج عمتي اسطيفان في مقهى (رازاي) إلى منتصف الليل، وهما يصغيان إلى الراديو، ويشربان العرق مع فستق العبيد، أو مع سمك شبوط طازج مشوي على الحطب من صيد دجلة؟ فلما حان وقت مغادرتهما المقهى، كانت عمتي وأولادها قد رقدوا نائمين؛ فتحيَّن والدي الفرصة، وغافل زوج عمتي، الذي لا بد أنه لم يكن من السكر في حالة تؤهِّله لإدراك وفهم حركات والدي ونواياه، وتسلل من الدار إلى حيث مربط ( مكحولة) ففكّ وثاقها وامتطاها وسرى بالليل عائداً إلى الضيعة، يجرفه الشوق إلى أمي جرفاً؛ فهو هكذا دائماً، إذا شرب كأساً من الخمر، رقّ طبعه ودبَّت النشوة في ردائه؛ فتودَّد لها، وباح إليها بما يختزنه لها في قلبه من عاطفة حارّة جياشة على مسامعنا، والتصق بها وهو لا يشعر بحرج من أي نوع في حضورنا، أو يتأثر بما في تعليقات مريم المرحة على تصرفاته من المداعبة البريئة، والنكتة المتهكمة الخفيفة. وهكذا، على هذا النحو، رأيتني حائراً، يستبدّ بي التردّد والتقلُّب بين أمرين ضدين نقيضين يصدم أحدهما الآخر، فما أدري أيهما أتبع. وإذ طال عليّ ذلك، وإذ شعرت بالإرهاق والضجر، قرّرت أن أحزم أمري، فأختار أحدهما، منهياً حالة التردد والتمزق التي تعصف بي عصفاً؛ فكان أن اخترت بعد لأي أنّ والدي خرج بعد منتصف الليل عائداً إلينا، وأنه ربما كان في حاجة إليّ في موضع ما على الطريق بين القرية والناحية، كما ظهر لي في الحلم. كان عليّ أن أختار هذا الوجه من كل بدّ، لا بصورة اعتباطية – وإن بدا أنني فعلت ذلك تحت تأثير الضجر - وإنما بصورة عقلانية تحتِّم الاختيارَ على أنه الأضمن والأصح والأحكم، على تقدير أنه إذا كان والدي قد خرج فعلاً، وإذا كان عرض له عارض – لا سمح الله به! - فسأكون في هذه الحالة معيناً له أو منقذاً. وإن كان لم يعرض له مكروه أو شيء من عوارض الليل، أو إن لم يكن خرج من البلدة أصلاً، فلن يكون لمشقة السير عليّ من بأس ولا من أثر سيّء ضار، مقابل ما سأكسبه من طمأنينة وراحة بال ومن شعور فخم بالمروءة والنخوة والاستجابة لدواعي الرجولة. نضحتُ قطراتٍ من فضلة الماء البارد المتبقي في قعر الكوز على جبيني الحار، الذي لم يستطع الهواء البليل، وقد هبّ، أن يخمد حرارته. تجوّلت بنظري في الفضاء الأعلى فوق رأسي؛ فرأيته اكتظَّ بغيوم حجبت فوقها قرص القمر المتضائل والتماعة النجوم. غيوم مكفهرة تتوعد الأرض بمطر ليس يرغبه الناس الذين لم يتسنَ لهم بعد أن يفلحوا حقولهم وينثروا فيها البذار للموسم الجديد. ثم قادني نظري إلى بيوت القرية الظاهرة أمامي، فبدت لي كأنها أشباح ترعى في صمتٍ متلفِّع بوشاح كامد تحوم حوله أسرار مبهمة تبعث الاكتئاب في النفس؛ صمتٍ لو لم تخترقه بين الفينة والفينة نأمة ديك أرِقٍ، ونباحٌ من قريب هنا ومن بعيد هناك، وعويل طفل موجوع، وصراخ بوم، لكان مطبقاً ساكناً سكون الجلاميد في وادي بور عرْبا. عدت إلى الحجرة يصحبني التصميم على تحقيق ما صحّ عزمي عليه. كان غطيط جمشيد وولات قد استحال إلى فخيخ هادئ منتظم لا يكاد يسمع، فغبطتهما على عودة الراحة إليهما، وتمنيت لو كنت خليّ البال من الهواجس؛ فأنام نوماً هانئاً عميقاً مثل نومهما. بحثت عن ثياب العمل لأستبدلها بجلباب النوم، فلم أعثر عليها في الحجرة حيث بحثت. ثم تذكرت أنني خلعتها في غرفة الاستحمام، فأردت الذهاب إليها، بل هممت بالذهاب إليها، إلا أنّني، إذ حانت مني التفاتة إلى الخارج حيث هبّت لي من خلل باب الحجرة المفتوح مصراعُه دفقة باردة من نسمات آخر الليل أصابني منها رعدة، وأنني إذ التقطت أذناي صوت قطرات المطر تهمي في خمول ووهن على الأرض، وجدتني أتسمّر في مكاني. قدماي أضربتا عن الحركة، قوة كابحة ألجمتهما عن الخطو؛ فلا أنا أتقدم، ولا أنا أتأخر: ((ما الذي حدث؟ ما بالي لا أتحرك إلى نجدة أبي؟ ألعلي فقدت المروءة؟)) أسمع صوتاً عميقاً في داخلي يتساءل في حيرة خجلى، وأشعر بانقباضٌ كالح اللون يعتريني كذاك الانقباض الذي يستولده كربٌ غامض مجهول، وأحس فتوراً يتغلغل في روحي كذاك الفتور الذي يعقب الحمّى. مالي؟ أتراني أنكفأت عن قراري؟ وأحسّني أتمرّغ مثل جرو خسر الصراع مع جرو آخر، في حالة طارئة من حالات الهبوط المعنوي؛ في حالة من التراجع والهزيمة والخور. وأحسّ، فضلاً عن هذا الهبوط، تقبّضاً في كلّ عضلة من عضلاتي، ورضوضاً في كل عظم من عظامي. عظامي تئن وتتوجع وتناشدني أن أعدل عن قصدي، وأن أتراجع وأضرب صفحاً عما كنت عقدت عليه النيّة؛ فأخلد إلى الراحة، إلى النوم كما خلد إليهما جمشيد وولات. أنا متعب مهدود.. النووووم، الراحة.. يالحاجتي إليهما! لكم أرغب فيهما، وأتحرّق إليهما! كأنهما معاً، الحقُّ الذي ينشده بدني، ويتوق إليه أشدّ التوق، وليس الخروج، لا، ليس الخروج . مالي وللخروج في هذا الوقت الجهم الملفوف بكآبة تعتصر القلب اعتصاراً؟! مالي وللخروج وأنا على هذه الحال من التضعضع والانهيار!؟ لماذا عليَّ أن أتكلَّف أوزار الخروج وأحتمل مشاقه، وأنا ليس عندي إشارة واحدة صادقة تفيد أنّ والدي يستنجدني سوى حلم طاف بي في المنام؛ مثل خاطرة من الوهم تطوف بالبال؟ كيف هذا!؟ كيف ألبي نداء الوهم، وما كان الوهم يوماً حقيقة توجب التلبية؟ يا للغباء! أمثلي يركن إلى الوهم؟ أمثلي يستجيب لدعاء خاطرة طافت عفواً بالبال؟! لا، لا ! من كان مثلي لا ينبغي له أن يتَّبع الأوهام. من كان مثلي عليه أن يتراجع عن ارتكاب فعل أهوج أدنى إلى الحماقة. من كان مثلي عليه أن يتأمل المسألة بعقله؛ أي أن يختار بين ضدين إذا تصارعا في داخله، فينتقي الصائب الأصلح منهما فينهي الصراع الذي ينهكه. إما الخروج، وإما العودة إلى النوم. لا بد من الاختيار؛ لا بد من الخروج من حالة التردد والحيرة والمعاناة؛ التي إذا لم تحسم في الحال فقد تطول إلى طلوع الصباح، وتنتهي إلى نهاية لا معنى، أو تنتهي إلى عاقبة غير مستحبة. وأتذكر هنا حكاية (باسوس) كما رواها جدي، وكما سمعتها من رواة آخرين غير جدي من الذين أضافوا إليها الكثير من خيالاتهم ودعاباتهم حتى أمست طرفة يُتندَّر بها في جلساتنا وسهراتنا. وباسوس هذا، كان فلاحاً ساذجاً بسيطاً قانعاً عاش حياته في قرية (آتاخ) وهي قرية صغيرة حقيرة تتبع ولاية (ماردين. بإمالة الألف). وقد حدث يوماً أن بلغ سكان القرية أن جنود الوالي يكبسون على بيوت الناس في القرى والدساكر لمصادرة السلاح؛ فأسرع الناس إلى إخفاء أسلحتهم عن عيون الجند، إلا باسوساً فإنه تردد في إخفاء سلاحه: حار بين أن يخفيه في حظيرة الدواب، أو يخفيه تحت الأفرشة. كان كلما وقع اختياره على واحد من الموضعين، عاد فنقضه واستبعده واختار الثاني. وما فتئ على هذه الحال من التردد، حتى طلع الصباح، فأقبل الجند فضبطوه والسلاح في يده. إذن، لا بد من الاختيار وحسم الصراع. وحزمت أمري واخترت؛ اخترت أن أعود إلى النوم، أن أستسلم، بمعنى أدقَّ، للخيار الذي لم أكن في البداية راغباً فيه مريداً له. وبدا اختياري هذا صائباً؛ فما هي إلا هنيهة تعقبه، حتى انبثقت في داخلي مشاعر جديدة هادئة رخية، ما كان لها أن تنبثق لولا صحة اختياري. وجعلت، كيلا يعتريني الشك في صحته ويسقط في يدي، أحدّث نفسي مهدهداً: ((وإنْ بدا اختياري كأنه استسلام إثر معركة خاسرة؛ فإنّه استسلام من نوع آخر؛ إنه استسلام الإنسان أمام الحق أو أمام المحبوب وهو استسلام لا يكون إلا مصحوباً بدعة ولذة ناعمة وإرخاء جفن مرهق)). انتشلت قدميّ من الجمود، أحسست بقوة من ورائي تزخَّني إلى فراشي زخّاً رخيّاً حلواً مغوياً لم أملك معه أن أقاوم أو أعاكس أو أنثني عن غوايته وحلاوته؛ فإذا أنا أخرُّ بجسدي المنهك إلى أحضانه الوثيرة المنعّمة كما خررت إليه في أول الليل؛ وإذا بفكرة الخروج لملاقاة والدي في الطريق، تغدو باهتة بلا رونق، فارغة بلا مغزى، عارضة بلا مسوّغ. ثم لم تطل أن تلاشت في ذهني كما تتلاشى أضغاث الأحلام غبّ الاستيقاظ. صباح القرية يتثاءب في جلبة، ويتمطمط بأصداء حركته المألوفة، العصافير فوق أغصان شجرة الجوز لم تكفّ عن السقسقة. أفتح عينيّ ببطء أضيِّقهما كي لا يؤذيهما ضوؤه المبهر، أتثاءب متمطمطاً مثل أصدائه بأعضائي، وأرفع رأسي عن الوسادة مستلطعاً حالة الجو من خلل الباب الذي أبقيته مفتوحاً على مصراعه. الشمس تشرق، وزخات المطر التي سقطت في الليل على الأرض تبخّرت. الأرض جافة، الحمد لله! لم يسقط المطر بغزارة. سيتمكن دانيال اليوم من فلاحة الحقل الأخير المجاور لبيدر القرية: - صباح الخير! فردّ الاثنان التحية معاً بصوت أجشَّ من أثر النوم. كان جمشيد وولات، قد استيقظا قبلي، وأسندا ظهريهما إلى الجدار من دون أن يغادرا فراشيهما، وكانا يدخنان والصمت يغلف أفكارهما السارحة في مراعيها البعيدة. - صار الوقت ضحى، أراك تأخرت كثيراً في النوم مع أنك سبقتنا إليه الليلة البارحة! قال ولات وفي صوته الأجشِّ من أثر النوم شيء من العتاب. ولحق به جمشيد فسألني وهو ينفث دخان لفافته من أنفه: - متى سيفرغ دانيال من فلاحة الأرض؟ ليته بلغ بنا الضيعة بالتراكتور قبل أن يبدأ بالعمل فيها! سألته مازحاً في خبث: - أهزّك الشوق إلى وسيلة؟ أطلت فبرونيا من الباب في هذه اللحظة، صاحت بنا مقرِّعة في مرح: - هيا انهضوا! أما تزالون في أفرشتكم أيها الكسالى! الفطور جاهز ينتظركم منذ طلوع الشمس. فنهضنا ومضينا إلى خزان الماء لنغتسل.كان النشاط قد دبّ في أعضائي بعد أن استعدت بالنوم قوتي وعافيتي، فما أحسّ برضوض ولا بإجهاد من تلك التي كنت أحس بها في ليلة الأمس. أما ذهني فصاف صفاء عين الديك، فارغٌ إلا من صورة (حَنِّه) الجميلة العذبة التي أخذت ترف فيه بجناحها وتداعبه في شوق، وتمنِّيه بلقاء دافئ مضمّخ بمتعة هانئة بريئة في حوش دارها بحضور أهلها، أو على الغداء على مائدتنا بدعوة من مريم. المائدة التي أعدتها مريم بأناقتها المعهودة وذوقها الكيّس المدرب، اجتذبت شهيّتنا المفتوحة بلا تردد. انغمسنا بنهم في تناول الزبدة والجبن والبيض المقلي والخبز الخارج للتوّ من تنور أمي، وشرب الشاي مع الحليب، وليس يعفينا أن تمتلئ أفواهنا باللقم، من اللغو وتكرار الحديث عما لقيناه من مضض الكدح في الكرم. ونحن في هذا، إذا بأمي تدخل علينا ووجها محمرٌّ من وهج التنور، متساءلة وهي تشير إلى ساحة الدار المحجوبة عن أنظارنا: - أليس هذا شمس الدين الطحان؟ ما الذي أتى به في هذا الصباح؟ كان من المتوقع، ما إن سمعت اسم الطحان شمس الدين، أن أثب من مكاني كأن إبرة نخستني في فخذي، وأقطع المسافة التي تفصلني عن الباب بقفزة واحدة، ولكنني لم أفعل ذلك. نهضت بهدوء، وخطوت نحو الباب خطوات متزنة لا اضطراب فيها ولا عجلة، وابتعدت أمي عن الباب لتفسح لي. كان شمس الدين، يتقدم (مكحولة) ممسكاً برسنها وهي مطرقة، وكلبنا (دعدع) يسير إلى جانبها لاهثاً. وعندما لم أر والدي، وجف قلبي، وكدت أغص ببقية اللقمة. بادرت شمسو في لهفة قبل أن أردّ تحيته: - وأين أبي؟ أين تأخر؟ - نهاركم سعيد! حيّا شمس الدين بالكردية لا بالتركية على عادته! ربط الفرس بجذع شجرة الزنزلخت الفتية المنتصبة أمام نافذة حجرة نومنا، ثم التفت إلينا وأجاب: - لا أعلم. هذه فرسكم عثرت عليها، وأنا في طريقي إلى الطاحونة، ساكنةً تحت شجرة البطم. ومسح شمس الدين حبيبات العرق، التي نضحت من جبهته العريضة ولمعت تحت ضوء الشمس، ثم أضاف في دهشة: - أليس العم أبو كوما موجوداً في الدار؟! أجابت أمي، بصوت لم يكن فيه أي أثر للقلق. - لا. أما أنا فقد ازداد وجيب قلبي، بدأ يخفق خفقاناً سريعاً. سألته بصوت ناحل كصوت المبهوت: - ألم يكن والدي بالجوار؟ في مكان ما قريب من المكان الذي رأيت فيه الفرس؟ هل تأكدت من أنه لم يكن في الدغل، في أسفل الوادي مثلاً؟ - أتعني أنه كان بصحبة الفرس؟ ولكنني لم أره.. قالت أمي: - ألا يمكن أن يكون دخل بين أشجار الصفصاف فاحتجب عنك، فلم تره؟ قد يكون أوغل في الدغل بحثاً عن قضيب من الصفصاف لعكازة وعد بها جارنا أبا نعمان. - لو كان في أيما مكان قريب أو بعيد، لوقعت عيني عليه، أو سمعت له حسَّاً؟ قالت أمي: - إذن، فلا بد أن يكون مرّ بدار صديقه (رَمُّو) في (راما) ليسلِّم عليه ويستريح عنده قليلاً، فنسي أن يربط الفرس فسرحت الفرس من دون علمه حتى بلغت شجرة البطم.
وجاء جمشيد وولات، وتركت مريم وفبرونيا المائدة، وانضمت إليهما جارتنا أم نعمان وكنَّتها سارة وآخرون واشتد اللغط.. أحسست وهناً في ركبتيَّ. ركبتاي ترتعشان، تكاد الدنيا تغيم في عينيَّ فلا أبصر الأشياء كما هي في حقيقتها. تفاصيل حلم الأمس بدأت تنثال على ذهني كالوابل. أحاول أن أتماسك، أخشى أن يظهر عليّ الضعف والجزع. أبذل قصارى جهدي كي أبدو متماسكاً قوياً. ولكنني عندما تقدمت من بوابة الحوش، ونظرت من هناك إلى السماء، ورأيت الحدأ باسطاً جناحيه في الفضاء فوق منزلنا المتهدم في الخربة حيث أطلال قريتنا العتيقة، سرت رعدة شديدة في مفاصلي، ولم أملك أن صرخت صرخة مدوية لفتت إلي أنظار الجميع: - تورو.. العجل تورو. وسمعت مريم تجزل في حبور وهي تعدو باتجاهي: - تورو، تورو. رجع تورو! فانتهرتها بخشونة: - لم يرجع تورو. تورو مات. لدغته أفعى.. لم يظهر على مريم أنها فهمت كلامي، استمرت في تقدمها نحوي حتى كادت تصطدم بي: - أين تورو؟ أين رأيته؟ في أي مكان؟ وحين رأتني أنظر إلى السماء، نظرت إليها هي الأخرى، ثم ارتدّت ببصرها إليَّ وأمعنت فيّ هنيهة وقد لاحت فوق وجهها علامات لم أدرك معانيها: - ما لك؟ هل أنت مريض؟ وجهك مصفر! لم أبال بما قالت، أمرتها أن تسرع إلى الحقل، وتستدعي دانيال بلا إبطاء. جاء دانيال يقود التراكتور، فطلبت منه النزول، وكلفته بالمكوث بالدار ريثما أعود. ثم اعتليت التراكتور، غير أن (جمشيد وولات) أبيا إلا أن يرافقاني، وكذلك شمس الدين فقد صعد معهما كي أوصله إلى الطاحونة، رافضاً دعوة أمي له إلى تناول الفطور. كان العم (رَمُّو) جالساً على درج الباب داخل حوش الدار، وإلى جانبه صينية الشاي، يهدهد حفيدته الرضيعة على ذراعه لتنام. وكانت الخالة (زريفة) زوجته، تكنس أرض الحوش، حيث يبيت الغنم، جامعة مخلفاته في أكوام صغيرة، وكنتها (روناك) خلفها تمخض اللبن. تهلّل وجهه حين رآنا ندخل عليه، وعزم علينا لنشرب الشاي معه، إلا أننا اعتذرنا متعللين بأننا لا نملك وقتاً لشرب الشاي. وإذ علمنا منه أن والدي لم يمرّ به، صافحناه مودعين واستدرنا ومضينا دون أن نذكر له سبب سؤالنا وبحثنا عنه تاركين إياه في حيرة. أوقفت التراكتور بالقرب من شجرة البطم، نزلنا لنعاين المكان ونتفحصه. جعلنا ندقق ونمعن النظر في كل شبر من الأرض تحت الشجرة وحولها متعللين بأمل العثور على شيء مما يمكن أن يتركه والدي لو كان حلّ بهذا المكان. ولكن أملنا في العثور على أثر ما يدل على حلول والدي بهذا المكان، لم يتحقق. لم نر فيه سوى آثار حوافر الفرس مكحولة وآثار أقدام كلب مطبوعة على التراب، لم نستطع التأكد من أنها آثار أقدام دَعْدَع، أو نميزها من آثار أقدام كلاب أخرى قد تكون من راما أو من غيرها. كما أن شمس الدين حين سألته إن كان رأى دَعْدَعاً في هذا المكان، أجاب بأنه لم يلحظ وجوده إلا بعد أن قطع النهير الذي يفصل بين (راما) وقريتنا. لهذا لم أستوثق من أنّ دعدعاً بلغ هذا المكان. وأنا إلى هذا اليوم يشغلني لغز دعد، إلى جانب اللغز الكبير الذي لم يبرح يشغله، والذي سيشغله ما دمت مقيماً على وجه الدنيا. ثم أخذنا نوسّع دائرة بحثنا خارج حدود ذاك المكان، فانحدرنا إلى بطن الوادي، ودخلنا في الأجمة الشائكة الممتدة أمام الطاحونة، ومنها إلى بعض المغاور المحفورة بإزميل الطبيعة داخل جدران الوادي، وأوغلنا بين أشجار الصفصاف والحور التي تعود ملكيتها لأهالي قرية (راما) فلما خاب بحثنا بين الأشجار ولم نوفق في العثور على شيء، عدنا إلى كتف الوادي، وشرعنا نمسحه بأعيننا وأقدامنا وأيدينا مسحاً متأنياً شاملاً: لم نترك صخرة إلا نظرنا خلفها، ولا حفرة إلا وقفنا فوقها أو انزلقنا إليها، ولا منبسطاً من الأرض معشوشباً إلا تحرّيناه بأقدامنا وحيناً بأصابعنا؛ فلم نقع على شيء أيضاً. فعدنا إلى التراكتور يحدق بنا الوجوم، ويمور بداخلي سؤال مجهد مخيف لا أجرؤ أن أنطق به: ((كيف اتفق أن تكون مكحولة في هذا المكان، ولا يكون والدي فيه؟!)). وكأنّ (ولات) اهتدى إلى الجواب، أو أحبّ أن يسرِّي عني، إذ قال: - أنا على ثقة من أنّ مكحولة فكّت وثقاها في الليل عندما الجميع نيام، وعادت من البلدة إلى القرية وحدها. غير أنّي – وربما جمشيد أيضاً – لم أتأثر بثقته، ولا جاءني منها عزاء. ((ثقته)) لم تكن من الغزارة بحيث تستطيع أن تطفئ لظى السؤال المحتدم في ذهني: (( ولماذا توقفت مكحولة تحت شجرة البطم، ولم تواصل سيرها نحو القرية؟)) ولم تكن ثقته من القوة بحيث يمكنها أن توقف انثيال تفاصيل الحلم المرعب على ذهني المحموم، ولا أن تجعل حركاتي طبيعية هادئة، ودقات قلبي منتظمة، ولون وجهي مورداً. ويبدو أن جمشيداً أحسّ بما يعتمل في أعماقي من الاضطراب والسهوم والقلق؛ فسبقني إلى الصعود على التراكتور، وتولى قيادته عني باتجاه البلدة. كانت عمتي (كوجرِه) مشغولة بتحضير مائدة الغداء لزوجها وأبنائها. لم تصدق أنّ والدي لم يصل القرية، قالت والدهشة الحائرة تملأ عينيها الواسعتين المظلمتين: - ماذا أسمع؟ أبوك خرج أمس قبل الغداء على ظهر مكحولة. لقد حاولت أن أستبقيه عندنا ولكنه أصرّ على العودة.. لم يصل؟! ما معنى قولكم لم يصل بعد؟ هل سألتم عنه أصحابه في (راما)؟ ألا يجوز أن يكون نزل ضيفاً عند أحدهم؟ وقال العم اسطيفان باهتمام ظاهر، وهو يعتدل في جلسته على بساطه المحشوّ بالنخالة ساحقاً عقب لفافته بالأرض العارية: - لا أرى في وجوهكم وحركاتكم ما يدل على أنكم تمزحون. ولكن أين تراه ذهب؟ أمس خرجنا معاً منذ الصباح الباكر إلى سوق الأغنام لابتياع جدي، قال إنه يريد أن يهديه لمدير الناحية بمناسبة مولود جديد، ثم تركته وذهبت إلى عملي، وعندما عدت في الظهيرة إلى البيت، أخبرت بأنه رحل، رغم أننا كنا تواعدنا على سهرة لطيفة في مقهى رازاي. ثم نهض متوكِّئاً على ذراعه، وسوّى ثيابه وقال مستحثاً إيانا: - هيا! فلنذهب إلى مدير الناحية نسأله، فقد يكون أرسله في مهمة إلى مختار إحدى القرى الحدودية. مشى العم اسطيفان أمامنا جمزاً ونحن نتبعه في شوارع البلدة التي كادت تقفر من السابلة. فلما بلغنا السراي، أخبرنا الحارس أنّ المدير غادر مكتبه إلى دارته للغداء والقيلولة، ونصح لنا قائلاً: إنه من حسن اللياقة ألا نزعجه في هذا الوقت. بيد أن اللهفة في قلوبنا، كانت أقوى من اللياقة؛ فلم نمتثل لرأيه ونصحه، ومضينا إلى دار سكناه ضاربين برأي الحارس عرض الشارع. طرق العم اسطيفان الباب بقبضته طرقاً خفيفاً مهذباً، حتى خلت أنه لن يُسمع من الداخل، ولكنّ الباب لم يلبث أن انشق بتؤدة، وأطل علينا المدير من فرجته وقد غاص في جلبابه الأبيض وبدا متكدراً. ولما سأله العم اسطيفان عن والدي، هل بعث به في مهمة إلى إحدى القرى، قطب وأجاب بحدة: - لا، ولماذا أبعث به إلى إحدى القرى، وعندي الدرك؟ - ربما لنقلِ الكلام إلى العربية، فالدرك لا يحسنون التركية ولا الكردية. فقال بلهجة جافة وباردة: - مهما يكن، فهو ليس موظفاً عندي. على كل حال، إذا لم يعد إلى داره الليلة أو في الغد، فسأهتم بالأمر. فحييناه وعدنا أدراجنا إلى دار عمتي خائبي الرجاء. إلا أننا لم نمكث في بيت عمتي للغداء والراحة، لم نراع أيمانها ولم نكترث بإلحاحها الشديد علينا بأن نطعم عندها ونستريح إلى وقت العصر. أبينا إلا أن نمضي حثاثاً في التنقيب والبحث عن والدي من غير تلكؤ ولا تراخ، ولا سيما بعد أن بات اختفاؤه على هذا النحو المريب غير المألوف، يثير في نفس جمشيد وولات ما هو أبعد من الريبة والظنّ، ويهيج في نفسي الهلع من أن يكون لاختفائه صلة بما أبصرته في المنام، ولكنني لا أظهر أحداً على ما يهتاج في نفسي حياءً.
مرّت الأيام والأسابيع والشهور ومن بعدها الأعوام. ضحكت خلالها السماء مرات لا تُعدُّ، وعبست خلالها السماء مرات لا تعد. اصفرت الأرض في غضونها مرات ومرات وأجدبت، واخضارّتِ الأرض فيها مرات ومرات وأمرعت. أعوام طوال مرّت وتمر كالسحائب المثقلة تمطر فوقنا أحداثاً صغيرة تافهة سرعان ما تتبخر وتنمحي حتى ظلالها من الذاكرة، وأخرى عظيمة جسيمة تقرّ في الذاكرة، فلا تبرحها إلى ما شاء الله. ولا تني يد الحدثان، تجرف معالم الدنيا القديمة من حولنا، وتستحدث بدلاً عنها معالم جديدة مختلفة تنسينا القديمة كأنها لم تكن يوماً. ويظل والدي مع مرور الأيام وكرّ الأعوام في طيّ الخفاء، فراغاً بين سطور يخطَّها الغياب. يمضُّنا انتظاره، ويرهقنا الأمل الخادع في عودته. لا نبأ عنه في أيّ مكان ولا أثر. بحثنا عنه في كل الربوع القريبة منها والبعيدة، حرثنا المنطقة حرثاً، لم تبق قرية فيها لم يُسأل أهلها عنه.. عبر ولات دجلة عند (فيشخابور) سأل عنه رفاقه من البيشمركة، وظل يتحرى عنه حتى بلغ الموصل في تحرياته، ولكن دون نتيجة. وزعم مدير الناحية أنه تحرَّى عنه لدى قائمقام جزره التركية (جزيرة ابن عمر)، ولكن عبد الأحد سليمان المترجم؛ الذي كان يرافقه عند اجتماعه بالقائمقام، سيسر إليّ عقب انتقال المدير إلى ناحية أخرى، بأنه لم يأت قط على ذكره أمام القائمقام. غاب الوالد من الوجود ولم يظهر، كما لو كان حفنة من ملح مطحون رمتها يدٌ مجهولة في بحرٍ خضمٍّ فذابت في عبابه. وقال القس جبرائيل في نهاية موعظة له معزياً به في الكنيسة: ((إن الله أحبه فرفعه إليه كما رفع النبيَّ إيليا)). ولكنّ أمي لم تتعزَّ بقوله.
تزوجت فبرونيا من (بيدروس)..شاب أرمني يملك محلاً لصياغة الذهب في حلب. وهو ابن عم أفاديس غازاريان؛ الحداد الذي نتردد على ورشته لإصلاح أعطال جرارنا ومحاريثنا، ونشتري منه ما نحتاج إليه من أدوات للزراعة. تكشّف بيدروس عن رجل شهم أصيل حسن السيرة والطباع، ملأ حياتها بهجة وطمأنينة، وأغدق عليها من حبه ورعايته، فنمت في كنفه كما تنمو صفصافة على غدير. وأنجبت منه طفلين كأنهما ملاكان. أما مريم فكانت نكبة ثانية ألمّت بنا، نازلةً لوَّعت قلوبنا، وأضرمت النار في أحشائنا. وقد كادت أن تذهب بالبقية الباقية من عافية أمي، أن تقطع خيط الرجاء الأخير الذي يربطها بالحياة. انتحرت مريم بعد عامين على اقترانها المشؤوم إلى شاب من معارف عمتي كوجره يمتهن تجارة الأقمشة؛ شابٍ خبّ لعينٍ استطاع أن يخدعنا بمظهره عن باطنه. خدعنا عن حقيقته؛ فلم نعلم بشذوذ طباعه وفساد طويّته، ولا علمنا بإدمانه على الخمرة والمقامرة إلا بعد أن قضي الأمر ووقع الفأس بالرأس كما يقولون. سامها النذل المهانة، جرّعها ألواناً من العذاب والشقاء، حطم كبرياءها، مرَّغ عزَّتها في حمئه الآسن، وداس على كرامتها تحت نعله القذر، حتى استشاطت يأساً . وفي النهاية عندما فقدت الأمل في قدرتنا على إنقاذها من محنتها وبلواها؛ لم تجد - وهي الأنوف والممراح كالفرس – من سبيل إلى الخلاص مما هي فيه من المذلة والعذاب غير أن تنتحر بتناول سمّ الفئران. هاجر دانيال إلى ما وراء البحار بطلب من خالي، وأثرى هناك. ثم تزوج من امرأة لبنانية فأنجب منها طفلة يصفق القلب لمرآها. ولما زارنا بعد مرور عشر سنوات على غيبته، بكى لذكرى والده، وناح طويلاً على قبر شقيقته مريم. بيد أن السنوات العشر التي غيّبته عنا، ستترك فيه آثارها، كما تترك الريح آثارها في كومة من الرمال الهشة. أعملت السنون يدها في هيئته وقيافته وعاداته؛ فغيرتها تغييراً كدنا معه في لقائنا الأول به بعد غيبته تلك، أن نشك في أنه دانيال أخونا الذي ولدته أمُّنا، والذي نما عوده الطريء شيئاً فشيئاً بيننا. وضحت بشرته السمراء، لانت راحتاه، طالت قامته وازدانت بالقوة والصلابة، تضرج وجهه ملاحة وعافية وثقة بالنفس، غادر زيّه القديم؛ خلع زيّ آبائه، وتزيّا بثوب جديد نظيف لم تألفه أعيننا وأذواقنا. وكان إذا نهض في الصباح، أو إذا قام عن العشاء، نظّف أسنانه البيضاء بفرشاة عجيبة يعصر فوقها من أنبوبةٍ عجينةً ملونة ذات رائحة عطرية. وصار (داني) يرطن بألفاظ غريبة لم تتلقفها آذاننا من قبل، ويحدِّث زوجته بلسان كأنه لسان العفاريت، ويأتي من الحركات والأفعال ما يبعث على الدهشة والحرج، أو التبسم والضحك، أو الإعجاب حيناً، والشفقة الممتزجة بالحنان حيناً، والإنكار حيناً. إلا أمي فإنها كانت دائماً شديدة الإعجاب والفخر بكل ما يصدر عنه من أفعال وتصرفات، ولا تكاد عينها تشبع من النظر إليه وإلى زوجته الراقية (نيكول) وحفيدتها (ماري) العذبة كقطر الخابية. ولكنها كلما طافت ذكرى والدي في خيالها، دمعت عينها رقة وحزناً، وعاتبت دهرها أن حرمه من نعمة الاستمتاع بما آل إليه حال ابنهما من العزّ والتوفيق والتحضر والثراء. شاد دانيال لمريم ضريحاً أحاطه بسياج؛ ليحميَ به الأورادَ التي زرعها حول الضريح، وشجرة التوت والزيتون والدالية عند رأسها وقدميها من شره الأنعام السائبة. وأراد أن يشيد مثله لوالده الغائب. ولكنّ أمي أعولت وأقسمت أن تصوم عن الطعام والشراب حتى تقضي، إن هو شاد ضريحاً لوالده. أمي المسكينة ما فتئت تأمل في عودة والدي يوماً ما. فلا السنوات ولا الأحداث ولا التغيرات التي طرأت على حياتنا، استطاعت أن تقتلع الأمل والرجاء من فؤادها. ولم ينس دانيال أهل قريته من أعماله الخيرية: رمَّم الكنيسة القديمة الآيلة للسقوط، وألحق بها قلاّية على طرز حديث أنيق، زوّدها بخزائن لحفظ الكتب والسجلات والآثار، وأرسل إلى شركة في حلب، مستعيناً ببيدروس زوج فبرونيا، يطلب مولداً للكهرباء مع خبير لتمديد شبكة الإنارة. ثم بنى لأطفال القرية من ماله مدرسة هي الأولى في المنطقة كلها، وأثثها على نفقته الخاصة، ثم سجلها في قيود الحكومة؛ كي تتكفل الحكومة بتزويدها بمعلم يشرف على تعليم الأطفال وتنشئتهم. وما انقضت أشهر حتى جاءنا معلم من (الداخل) يدعى امطانيوس ميخائيل بيطار. شاب عازب وسيم في الخامسة والعشرين، أنيق المظهر والسلوك، حلو المعشر، رشيق اللهجة، وإن كان في لهجته عسرٌ وغرابة. أحبَّه الجميع، وفتنت به الصبايا، وتمنَّته غير واحدة منهن زوجاً لها، على ما سمعت من حنّة. ومن الحقِّ أن أذكر هنا فضل هذا الأستاذ المتمدن علينا: فهو الذي علمنا كيف نستخلص (العرق) من تقطير العنب في دوارق مصنوعة لهذا الغرض - وكنا نجهل ذلك مكتفين بالنبيذ - وهو الذي جاءنا (بالمتِّه) وعرّفنا عليها، وأرانا كيف يتمُّ تحضيرها واحتساؤها، وهو الذي أظهرنا على غير قليل مما كنا نجهله عن أهل الداخل وعاداتهم وأفكارهم، وعما يجري في العالم الواسع من صراعات وتحولات. في مرة جئته مثقلاً بهمي فسألته: (( ماذا تقول يا أستاذ فيمن كان، ثم فجأة لم يكن، أيسعد أم يشقى؟)). فأطال الأستاذ التفكير، ثم قام إلى طاولته التي تراكمت فوقها الكتب والصحائف، وأخرج من بينها كتاباً وفتحه على صفحة ملئت رسوماً لكائنات عملاقة أراها لأول في حياتي، ولم يمهلني حتى تزول دهشتي مما أرى، قال لي: (( هذه هي الكائنات التي كانت تستعمر كوكبنا قبل وجودنا، ثم فجأة انقرضت كأنها لم توجد يوماً، فهل هي سعيدة بانقراضها أم شقية؟)). لم أفهم قصده؛ ولهذا تجاهلت سؤاله وانتقلت إلى موضوع آخر. ولكنني وأنا راجع إلى البيت، تحركت في قلبي الأمنية التي تتحرك فيه كلما فكرت في مصير والدي؛ تمنيت أن يعجل الله بموتي كي ألتقي بوالدي وأطلب منه الغفران. وتغيّرت أحوال جمشيد بعد وفاة والده. انتقل من الخصاصة ورقة العيش إلى البحبوحة واليسر بجدِّه وفطنته وحسن تخطيطه. صار جمشيد مزارعاً يملك جراراً ومحراثاً ومقطورة ساعده على شرائها دانيال بدين نسأه له إلى يوم لا يضيق فيه بسداده. وتزوج ابنة عمته (بروين) بعد أن زوج أختيه، فلم يطل أن جاءته بروين ببكره (جوان) فقرَّت عين الخالة حكمية، وعاد إليها مرحها القديم، وأشرقت روحها بالغبطة، من بعد أن كان خيم عليها السواد والحزن لوفاة زوجها والد جمشيد، الذي كان المرض أقعده قبل وفاته أزيد من سنتين.. أذكر أنني في اليوم الذي ذبح فيه جمشيد عجلاً مسمّناً، وأولم به لأهل قريته وأقاربه ومعارفه من القرى المجاورة، واستحضر فيه من يضرب بالطبل ومن ينفخ في الصرناية احتفاء وابتهاجاً بتلك المناسبة، أنني دخلت الخيمة المنصوبة للضيفان في الفسحة التي خلف داره - وكنت قادماً للتوِّ من ضيعتنا – فسلَّمت على الرجال، فوقف الرجال جميعاً وردوا علي سلامي بودٍ وكياسة، ما عدا شمس الدين حقّي، الذي كان متَّكئاً على حشية في صدر الخيمة، فإنه ردّ عليّ السلام بإشارة خاملة من ذراعه قصرت عن بلوغ جبهته؛ ولم يقم. وشمس الدين لكونه الوحيد الذي يحفظ سوراً من القرآن، وبفضل ما ورث عن والده من معرفة – وإن تكن قليلة مبعثرة على رأي جمشيد - بأصول العبادات، قد اختير إماماً للمسجد الذي استحدث في قريتهم؛ فكان أن لاث عمامة خضراء على رأسه، واشتمل بثوب أبيض علا مداسه بنحو شبر، وأطلق لحيته وحفَّ شاربه، وباع الطاحونة (لمِهْمَت) الذي من باشوت. وصار يتَّئد إذا مشى، ويتثاقل إذا نهض، راسماً الوقار فوق جبينه العريض الذي كادت الغضون أن تختفي منه. ولما آنس من عيشه سعةً وخصباً، اتخذ فتاة بكراً في عمر ابنته زوجاً له. أما فضيحته في زوجتيه السابقتين المطلقتين، فصارت في ذاكرة الناس مثل حلم تهشَّم بالنسيان أكثرُه؛ أنسي الناس فضيحته أو كادوا، وأحلوا له في مكانها الشاغر توقيراً وتكريما. استشهد ولات وهو يعبر نهر دجلة في عملية فدائية استهدفت الإغارة على موقع للجنود الأتراك في موضع يقال له (جَمْ علو) - بجيم فارسية - يبعد عن (جِزْرِه) مسافة نصف يوم أو أقلّ من ذلك سيراً على الأقدام. وبقي جثمانه بيد الأتراك لم يسلَّم لأهله، ولا علم أهله أين دفن. فبكيناه - نحن أصدقاءه وذوي قرباه – آسفين على شبابه الريان، وظل حزن قاتم وفراغ أسيان يجولان في قلب جمشيد وقلبي من افتراقه المعجَّل عنا ردحاً من الزمن. وكان يوم تأبينه في دار عمه أبي جمشيد، يوماً ضجّ بالحزن كما ضجّ بالحماسة، وهدر فيه وَعيدٌ يتشهّى الانتقام. وتزوجت (وسيلة) من شيخ طاعن متهدِّم قميء المظهر من الرعيان المتنقلين ما بين منطقتنا و(الزوزان) فرحلت معه وأقامت حيث مستقرُّه في موضع ناءٍ بعيد خلف الجبل. وبرحيلها انقطعت أخبارها عنا، وانمحت ذكراها من صدورنا إلى الأبد، كما انمحت من قبلها ذكرى جارنا أبي نعمان. وأنا؛ كوما بن جرجيس، تزوجتُ حَنِّة فأنست بها، وطاب عيشي معها. رزقني الربُّ منها بنين وبنات، باتوا عزاء لأمي المرزوءة، وتسلية لقلبها النائح المفجوع. ما زلت رغم حزني واكتئابي، أتوقل في سلم العيش درجة درجة مغالباً حزني واكتئابي، حتى بلغت الدرجة التي كنت أرنو إليها. صرت وجيهاً من الذين يؤخذ برأيهم في المجالس، ويُستشارون عند المآزق والملمَّات، ولم أكن من قبل شيئاً. وإني، وإن كنت صاحب همة، لست أنسب الفضل كل الفضل في بلوغي هذه المرتبة الاجتماعية اللائقةالمتقدمة إلى همتي واجتهادي وطموحي فحسب – سأكون جاحداً إن فعلت ذلك - بل أقرّ بفضل المولى عليّ، وبفضل أخي دانيال. أفشى الله رزقي: اتسعت أملاكي في الريف، تضاعفت رؤوس مواشيَّ من الغنم والأبقار، ملكت داراً فسيحة فخمة في البلدة، ونجحت في إحكام صلاتي بموظفي الحكومة، وتمكنت من اقتناء جميع ما يقتنيه أهل النعمة من الحاجات والطرائف، إلا شيئاً واحداً بتُّ عاجزاً عن اقتنائه. لقد اجتمع لي من الخيرات والنعم في حياتي ما لم يجتمع مثلها لأسلافي، مما كان خليقاً به أن يجعلني أخلد معه إلى السكينة والطمأنينة والراحة، وأن يجعلني أهنأ معه بلذات العيش خليَّ البال، مطمئن النفس. غير أني – ويا للأسف! - كأنما لم يقدَّر لي أن أسعد وأن أهنأ، كما ينبغي أن يسعد وأن يهنأ من كان أصاب مثلي حظاً موفوراً من دنياه. صحيح أنني تعزّيت عن مصابي بمريم، وعن فقدان صديق شجاع وفيّ مؤنس، إلا أنّ مصابي بوالدي بقي جرحاً منكوءاً في الحشا ينزف وجعاً، ويأبى أن يلتئم. لم يكن فقده في حقيقة الأمر، هو سبب هذا الوجع الذي يعتادني كلما خلوت إلى نفسي وطافت بي الذكرى؛ بل لعله الظرف الذي فقدته فيه، ولعله الحدث الذي تحقَّق الفقدان فيه، ولعله ذكرى الحلم الرهيب الذي ظهر لي فيه. الموت قد يكون كارثة، ولكنّ الإنسان الحيَّ مُصمَّم، بتقدير من العناية، على احتمال الكارثة مهما تعظم. إن الموت قدر مترصِّد لا ينجو منه أحد - أعلم هذا كما يعلمه طفل في عمر ابني - ولأني رجل يؤمن بالقدر، فإني لا أعاند القدر، ولا أتذمر منه إن وقع، ولا أطيل شكواي ببابه إن نزل؛ بل أرضخ له رضوخ الواثق من عدل الله ومن حكمته متصبِّراً رضيَّ النفس قانعاً. ولكنّ الموت – وهنا المعضلة بل المأساة - لم يأخذ والدي.. لم يأخذه كما أخذ مريم، أو كما أخذ (ولات) أو كما سيأخذني ويأخذ أعزَّ الناس وأحبَّهم إليّ. والدي لم يمت.. والدي، لو كان قبضه الموتُ كما قبض مريم، لكان الزمن خليقاً بأنّ يمسح على قلبي براحة البرء والسلوان. ولكنه – واحرَّ قلبي! - اختفى من الوجود اختفاء الفجاءة من دون أن يسبق اختفاءَه إعلانٌ أو إنذار مسبق. وشتان ما بين الموت والاختفاء على حين بغتة! فأنَّى لجرحي بعد هذا أن يلتئم؟ وأنى لي أن أبرأ إذا مسّتني راحة الزمن ؟! لعلي كنتُ أقدر أن أضمِّد الجرح الذي شقّه اختفاؤه في قلبي، بأن أقنع نفسي بأن الاختفاء قدرٌ كالموت - وإن اختلف عن الموت في أنه ليس مثله حتميَّ الوقوع لازباً لا محيد عنه – ولكن كيف لي أن أبرأ من شعوري الحارق الكاوي بالذنب؟ من شعوري بالخزي عندما يحضرني أنني خذلت والدي وآثرت على إنقاذه أن أستسلم للنوم والدعة؟ كيف لي أن أتطهّر من مشاعر الندم وهي تنهش ما بين أضلعي؟ حنِّة تلمّ بأنِّي أتعذب وأتعنَّى كالأسير، وأتقلّب على قضضٍ فلا يكاد جنبي يستريح، ولا أكاد أن أذوق للهدوء والاسترخاء والسعادة الحقَّة طعماً ولذة. إنها كثيراً ما تصحو على اضطراب حركاتي في نومي وركلاتي، وعلى صرخات رعب متشنجة تطلقها حنجرتي الجافة المتوترة المشرفة على التمزُّق؛ فتوقظني محرِّرة إيَّاي من الكابوس اللابد فوق صدري، وتأتيني بكأس من الماء فتسقيني. ولكنَّ حنّة، لا تلمّ بما يعذبني، ولا تلمّ بما يغري بي الكوابيس المرعبة. حاولت حنة مراراً – وما تزال تحاول - أن تعرف سرّ عذابي؛ أن تظهر على السبب الذي ينغِّص عليّ سعادتي ويعكر مواردي، غير أنّ جميع محاولاتها تخفق ولا يكتب لها أن تنتهي إلى النتيجة التي تتوخاها وتأملها وتتحرق إلى اكتشافها. محاولاتها المتكرِّرة المغرية المتضرِّعة تصطدم دائماً بعنادي.. أصدُّها عني بقسوة وخشونة؛ أعاندها كما تعاند الريحَ الهائجة صخرةٌ صلبة جاثمة بالأرض. وقد أظل أصدها وأعاندها متشبثاً بالكتمان ما بقيت حيّاً. وما هذا مني حباً بالعناد الصرف، ولا لأنني ليس في نفسي ميل إلى التخفّف من حملي الباهظ هذا الذي ينقض عظامي؛ فإني – وأقولها بصراحة – أشدّ ما أكون توقاً ولهفة إلى التخفف من عبء هذا السرِّ الرازح المرهق الثقيل بالاعتراف والمواجهة والمكاشفة؛ إلا أن الموت أهون عليّ من أن أكاشف حنّة، أو غير حنّة، بذنبي في والدي؛ فأبدو في نظرها خاملاً ساقط الهمَّة. لقد اعترفت أمام القس جبرائيل، قبل انتقاله إلى الخدر الأعلى – رحمه الله - بجميع آثامي عقب الصوم الكبير: بالطمع، والحسد، والضغينة، والكذب، والنميمة، والقسوة، والجحد..؛ بل اعترفت أمامه بأسراري الزوجية الخفيَّة المضمرة الحميمة؛ حدثته عن ضروب من المعاشرة يزيّنها لي الشيطان مع حنّة وهي كارهة، ولم أجرؤ قطُّ على الاعتراف أمامه بسرّي الدفين. ثمّ، بم عساها حنّة أن تنفعني، إنْ أنا أظهرتها على سرّي، ولم أرهب السقوط من عينها؟ إنّ أجمل ما يمكن أن تقدِّمه لي حنّة من منفعة في هذه الحالة، هو أن تتغاضى عن ذنبي، وتبذل قصارى جهدها لإقناعي بأني بريء من ذنب والدي. ستقول لي وهي تتأملني بنظرة مندَّاة بالحنان: - لم أفهم غرضك مما حكيت .. فأقذف أمامها يائساً بكل عذابي: - ألا ترين أنني كنت سأنقذ والدي، لولا...؟ فتقاطعني بحزم: - لا! فأطلب منها مزيداً من الإيضاح: - كيف؟ تجيب: - ما معنى كيف؟ الأمر في غاية الوضوح! ولا أدلَّ على وضوحه من أن أسألك: وماذا كان بوسعك أن تفعل؟ - لعل خاطفيه إذ يرونني مقبلاً لنجدته، كانوا يتركونه ويلوذون بالفرار. - ومن أين علمتَ أنّ جماعة من الخاطفين اختطفته؟ - هو شعور يضطرب في روعي، أو افتراضٌ. - حسن، فما أدراك بأن الخاطفين – لو كان ثمة خاطفون أصلاً – سيفرون عندما يبصرونك قادماً، أليس من المحتمل ألا يفروا، وأن يختطفوك أنت الآخر؟ - كلّ شيء محتمل وجائز. ولكن ما ليس جائزاً هو أن يستنجد أبٌ بابنه، ولا ينجده الابن، حتى لو كان الابن يدري أنه هالك لا محالة إذا ما لبَّى داعي النجدة. إنّ هذا لأمرٌ مروِّع غير قابل للتصور من جانبي. - أتعني بهذا أنّ والدك استنجد بك حقاً؟ أين كان ذلك، ومتى؟ - في الرؤيا، في زمن الرؤيا. - وما هي الرؤيا؟ - ما يراه النائم في الحلم؟ - إذن فقد حدث ما حدث في الحلم. - نعم، غير أنّ ما حدث في الحلم، جاء مطابقاً لما حدث في الواقع. ألم يختف والدي من ذلك الوقت؟ أليس اختفاؤه حقيقة؟ - بلى! قد يحدث أن يطابق الحلم الحقيقة والواقع، ولكن لا يحدث أنّ صاحب الحلم يتتبَّع خيوط حلمه في الواقع من بعد استيقاظه؛ أعني: لا يحدث أن يحقِّق الحالم في الواقع ما يراه في الحلم فور يقظته. أوتهبّ لنجدة خالتي (سيده) مثلاً لو رأيتها الليلة في حلمك، وقد حاصرتها النيران في المطبخ؟ - لا أدري! - ((لا أدريكَ)) هذه تضعك أمام احتمالين، فإما أن تهبَّ لتحقيق ما رأيت في الحلم، وإما أن تمتنع عن تحقيقه. فأياً تختار؟ - أختار الأول، مهما يكن من شيء. - ولماذا تختار الأول؟ أأنت على يقين من أنّ رؤياك حقيقة؟ - ... - إذن، فإنّ اختيارك للأول، لن يكون ما دمتَ لست متيقناً من حدوث الحريق. يحوم طائر الصمت فوقنا، وأغرق في التفكير. وفجأة أرفع رأسي المنكّس، وأفجِّر سؤالاً حشاه عقلي في لساني: - وماذا لو اخترت الثاني؟ ألن أدع النيران تلتهم الخالة (سيده)؟ فينساب إليّ جوابها في يسر: - وهكذا نكون عدنا إلى نقطة البداية، إلى السؤال: وهل كنتَ على يقين من شبوب الحريق، بما يحملك على المبادرة إلى إطفائه وإنقاذ الخالة سيده؟ - لا.. ثم لا أنتظر منها رداً، أباغتها: - دعي كلَّ شيء جانباً وقولي لي: أيهما أجدى، أن أبادر إلى إطفاء الحريق وإنقاذ الخالة سيده رغم كل شيء، أم أدفن رأسي في الفراش؟ وعندئذ لا مناص لحنّة من الإقرار بأنّ المبادرة على علاتها، خيرٌ وأجدى من النوم. وعندئذ لن ينفعني جهدها المبذول. لا، ولن أجد فيه عزاءً ولا شفاء لجرحي النازف المنكوء؛ بل ربما انكشف لها من أمري ما يخيِّب رأيها فيَّ، وقد، ربما وقَرَ - من اعترافي لها - في نفسها ذاك الذي شدَّ ما أخشاه، وذاك الذي الموت عندي أهون من حصوله عندها!
حلب. غرَّة الربيع. سنة....
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى السيدة الفاضلة الأديبة ليندا كبرييل
-
مشكلة الوجود الإنساني
-
خلق العالم . 3- الحياة
-
خلق العالم 2- المغزى
-
خلق العالم
-
إيميل من صديقته السورية
-
في ضيافة يعقوب ابراهامي
-
ماركسيٌّ بل مسلم والحمد لله
-
سامي لبيب تحت المطرقة
-
المنهج القسري في أطروحة فؤاد النمري (الرسالات السماوية)
-
الإباحية في أدب النساء العربيات
-
الحوار المتمدن يسهم في التحريض على المسيحيين في بلاد الشام
-
ما جاء على وزن الذهان من مقالة السيد حسقيل قوجمان
-
حملة الأريب على سامي بن لبيب
-
رسالة الطعن في النساء
-
الحقيقة بين التلجلج واللجاجة
-
الأستاذ حسين علوان متلجلجاً داخل شرك المنطق
-
شامل عبد العزيز بين أحضان المسيحية
-
سامي لبيب والرصافي خلف قضبان الوعي
-
ضد عبد القادر أنيس وفاتن واصل
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|