علال البسيط
الحوار المتمدن-العدد: 3706 - 2012 / 4 / 23 - 07:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تنطلق النظرية الإسلامية لتاريخ النص القرآني من مسلمة تقول; إن محمدا أو كتبة الوحي حوله قد أتموا كتابة القرآن في القرن 7 للميلاد، وهو محفوظ منذ ذلك العهد لم يطله أي تغيير أو تصحيف.بينما أثبتت الأبحات العلمية في العشرية الأخيرة حول تاريخ وحقيقة النص القرآني; أن القرآن وإن كانت أصوله الأولى تتصل بالقرن 7فعلا، إلا أن هيئته الحالية تعود إلى القرن 10 للميلاد .
كريستوف لوكسومبرغ هو الاسم المستعار لعالم الفيلولوجيا الألماني الذي اختار التكتم على شخصيته الحقيقية خوفا على حياته من ردة فعل بعض المتعصبين الأصوليين جراء رأيه في لغة القرآن الأصلية الذي عرضه في كتابه (القراءة السوريانية الآرامية للقرآن (« Die Syro-Aramäische Lesart des Koran : Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache »).
يفتح عالم اللغويات زاوية جديدة تمنح قراءة مختلفة تماما لتاريخ القرآن على ضوء ما استجد من معلومات. يؤكد لوكسومبرغ على حقيقة تاريخية وهي أن النسخة الأصلية للقرآن التي عثر عليها في مخطوطات عثمان بالرسم العثماني خالية من الشكل والاعجام والتنقيط وغيرها من علامات الترقيم ; فقد كان النص القديم مهملا وحروفه مجهلة ولم يضف الشكل وحركات الاعراب المحددة لمعاني الالفاظ في القرآن الا في القرن الثالث الهجري وبأمر من الحجاج بن يوسف حاكم العراق آنذاك; وهذا لا شك يدعو للتسائل عن المعيار الذي اتخذه القدماء في التنقيط والترقيم خصوصا مع ظهور قراءات كثيرة متناقضة ومختلفة على مستوى المعنى باختلاف وضع الحركات والنقط.
بالعودة الى لوكسومبورغ فإننا نجده يلاحظ على القرآن ``جنوحه`` كثيرا إلى لغة شديدة الغموض أقرب أحيانا إلى الطلاسم المبهمة. أقر الفقهاء والمفسرون أنفسهم بصعوبة فهم معاني كثير من النصوص وادراك المقصود من بعض الآيات الغامضة التي علقوا في تأويلها بتعليقات طويلة الذيل لا طائل منها.و مع ذلك كانت الفرضية الاسلامية تستلزم الايمان والتسليم بكون تلك النصوص القرآنية التي تبدو مبهمة بلا معنى هي في الوقت ذاته ``عميقة وملهمة ومليئة بالحق والخير`` ويمكن فك شفرتها عبر الوسائل والأدوات التقليدية التي نجدها في العلوم الاسلامية. إنها لعبة المحكمات والمتشابهات التي استغلها المفسرون لتبرير حالة ``اللامعنى`` التي تطبع مجموعة من نصوص القرآن; بذلك لجأوا إلى نظرية التأويل التي تبيح للمفسر والفقيه اللغوي استحلال تلك النصوص المغلقة التي تبدو بلا معنى; ليخلع ` الفقيه والمفسر عليها معان من عنده باعتباره من طبقة ``العلماء`` أهل الذكر الذين يزعمون امتلاك الأدواة والوسائل اللاهوتية واللغوية, التي تمكنهم من فك ألغاز وطلاسم النص اللاهوتي الغامض, إنها أشبه بعملية إعادة إنتاج ``للوحي`` والمعرفة الدينية, يكون أبطالها متنبؤون كثر هذه المرة داخل النص بتوجيهه والاجتهاد الذاتي في شكله وترقيمه.
كما تختلف طبيعة التأويلات باختلاف المتأولين الدينيين وهم عادة زعماء روحيون لطوائف وفرق دينية تعاقبت على امتداد التاريخ, فتجد التأويل الحنبلي التجسيمي, والتأويل الصوفي والكشفي الإشاري والتأويل المعتزلي والتأويل الشيعي الإمامي والاسماعيلي الفيضي ..بل و``العلمي`` الذي ظهر في العصر الحديث ويحاول أصحابه جاهدين استغلال المعطيات العلمية المتجددة التي تقوم الهيئات والدوريات الغربية بتعميمها; لإثبات معجزانية القرآن وموافقته المستمرة للحقائق العلمية; الأمر الذي يعطي انطباعا على فقدان الإسلام العديد من مقوماته الذاتية التي كان يرتكز عليها في الماضي لإثبات نفسه مع تقدم الزمن, ما ألجأ النخب الإسلاموية المدعومة بأموال النفط إلى تأسيس هيئات ومجالس علمية تهتم بمسألة ``الاعجاز العلمي`` في القرآن; تضم بذلك أعضاء من كافة مجالات العلوم الحديثة ; مهمتهم أدلجة الحقائق العلمية(أحيانا كثيرة النظريات والفرضيات العلمية) وتوفيقها بالترقيع والتلفيق مع النصوص الدينية ; تدفعهم حماسة محمومة في الدفاع عن قلاع الخرافة التي تجعلهم سلاطين بالقوة الروحية.
يقوم اعتراض لوكسومبورغ على كون محمد بشر بمبادئ وقيم تعتبر جديدة على الجمهور المخاطب بها المكون من جموع القبائل العربية وأعراب البدو الذين كانوا أمة "أمية لا تقرأ ولا تكتب" بشهادة القرآن وتصريحات محمد في الأحاديث ``الصحيحة``، بيد أن تلك المبادئ نفسها لم تكن وحيا تلقاه محمد من الله عن طريق جبريل في غار بأحد جبال مكة كما تخبرنا أساطير السيرة، بل نتيجة حوارات ومناقلات بين محمد وبين طوائف من اليهود والمسيحيين العرب، أو من خلال مسيحيي الشام إذا اعتقدنا في قصة رحلة محمد التجارية إلى سوريا. من هذه الزاوية يمكن فك شفرة الكلمات و النصوص الصعبة والمغلقة أو تلك التي يتكلف المفسرون تأويلها حتى تضحي ذات معنى..هذا الكلام الغامض وهذه العناصر والوحدات المكونة لمعاني مبهمة داخل النص يصبح لها وجه و``إشراق`` آخر في نظر لوكسومبورغ إذا قرأت على ضوء الآرامية السوريانية.
من المعلوم أن التفاسير الاسلامية الكلاسيكية استمدت مادتها من لغة العرب المجموعة في القواميس العربية القديمة; فماذا لو قرأت على ضوء لغة أخرى معاصرة لزمن كتابة القرآن؟!.
يدلنا التاريخ الأدبي للعرب بالمفهوم الشامل للأدب أن ظهور الأدب كحركة تدوينية وفكرية لم تتبلور ملكتها عند العرب إلا بعد زمن القرآن بمائتي عام وهو الزمن الذي انشغل فيه الرواة بتدوين (السيرة النبوية) وألف فيه ابن هشام-توفي 828م- كتابه الشهير في السيرة. يجوز لنا من هنا القول بأن الآداب القرآنية تطورت تدريجيا خلال الفترة التي تلت أعمال الخليل الفراهيدي-توفي 786م- العقل اللغوي واضع أول معجم عربي( كتاب العين) وسيبويه مؤسس النحو العربي الذي توفي بعد الخليل بعشر سنوات.
الآن إذا اعتبرنا تأليف القرآن وجمعه وكتابته تم في حياة محمد وانتهي منه بوفاته سنة 636م ; فإن أمامنا فاصلا زمنيا( من الثقافة الشفهية المروية) قدره 150 سنة خالية تماما من أي أثر أدبي مدون ولم يكن للعرب قبل ذلك لغة مكتوبة وإنما لهجات مختلفة باعتبارهم قوما أميين كما وصفهم القرآن نفسه في بعض المقاطع مثل قوله: "هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم" ومن الحديث ما رواه البخاري من كلام محمد واصفا حال قومه بقوله :( نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب) فاستوجب كتابته بالحروف الآرامية في مرحلة أولى ثم منها اصطناع لغة جديدة عربية آرمية مع إضافة التنقيط والشكل وبناء الهندسة اللغوية.
كانت الدعوات المسيحية التبشيرية في القرن الثالث للميلاد قد اكتسحت عن طريق المسيحيين في سوريا منطقة أرمينيا وبلاد فارس، وامتدت حملاتها بعيدا إلى تخوم الصين والشوطئ الشرقية للهند; إضافة إلى أغلب الجزيرة العربية إلى اليمن وإثيوبيا. هذه الدعوة التبشيرية التي كانت بلسان آرامي وجالت بيئات متعددة ثقافيا ولغويا، كان من الطبيعي عند اتصالها بالعرب البدو أن يدخل منها على لهجاتهم المتعددة والمختلفة باختلاف روافدها آرامية وسوريانية وفارسية وعبرانية وغيرها. في بيئة كالبيئة التي ظهرت فيها الدعوة المحمدية لم تكن أحادية اللسان ولا متجانسة لغويا وربما التقى الرجل من عرب اليمن وآخر من تهامة لا يفهم أحدههما ما يقوله الآخر, بعد فتح مكة ستطغى لهجة قريش على سائر اللهجات.
المفردات والتراكيب التي أحرجت المفسرين واللغويين لكونها في نظرهم فاسدة و ملحونة أو مخالفة للقواعد الصرفية والنحوية التي أرسى دعائمها الفراهيدي وسيبويه، هي مفردات وتراكيب آرامية صحيحة( أو سوريانية آرامية). ثقافيا لوكسومبورغ يتحدث عن لغة عربية آرامية لجأ إليها محمد لتبليغ رسالته بالنظر إلى أن العربية لم تكن موحدة كلغة قومية ولا مرسمة من جهة الكتابة, كان ينبغي انتظار عمل النحاة المشار إليه بعد موت محمد بمائتي عام حتى يتم تقنين اللهجات وضمها في إطار اللغة الكلاسيكية الجامعة التي غلب عليها اللسان القرشي وباتت تعرف بالفصحى.
#علال_البسيط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟