|
البطريرك إبراهيم وميثولوجيا الشرق 2-2
كامل النجار
الحوار المتمدن-العدد: 3015 - 2010 / 5 / 26 - 10:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العهد الجديد (الإنجيل المكون من أربعة أناجيل رئيسية) لم يتحدث عن النبي إبراهيم إلا في محاولة إرجاع نسب يسوع إلى إبراهيم. ولكن بما أن المسيحية جاءت تكملة لليهودية، فالنبي إبراهيم يمثل شخصية حقيقية بالنسبة للمسيحيين، ويعتبرونه الأب الأول للأديان الإبراهيمية. وكذلك يفعل الإسلام. عندما جاء محمد برسالته في نهاية القرن السادس الميلادي وبداية القرن السابع، كان عرب الحجاز على علم بقصة النبي إبراهيم من اختلاطهم باليهود وبالمسيحيين الذين كانوا منتشرين في الجزيرة. وكذلك كانت مجموعة الأحناف مثل أمية بن أبي الصلت، على علم بقصة إبراهيم كما جاءت في العهد القديم. ومحمد لا شك سمع قصة إبراهيم من ورقة بن نوفل، ولكنه زاد فيها زيادات جعلتها حتماً تنتمي إلى الميثولوجيا إن لم تكن قد فعلت ذلك من قبل. وقد ذكر محمد قصة إبراهيم في القرآن في أكثر من 120 آية موزعة على ثلاثين سورةً، أغلبها مكية عندما كان يقص على القرشيين قصص الأنبياء. محمد لم يكن يعلم تفاصيل نشوء إبراهيم أو من أين أتى، أو من أين بدأ رحلته. ولم يذكر القرآن من نسب إبراهيم إلا أباه الذي سماه آزر. وكعادة القرآن في تجاهل النساء، لم يذكر القرآن سارة أو هاجر مثلما فعل مع زينب بنت جحش عندما ذكر زيد بن حارثة وأكتفى عن اسم زينب بأن قال (ولما قضى زيد منها وطراً) كأنما هي ماعز أو بقرة شرب من ضرعها حليباً وقضى وطره. ولم يذكر القرآن أي أعمار لإبراهيم أو إسماعيل أو إسحق. ولأن محمداً كان في عداوة دائمة مع اليهود في المدينة، لم يرد لهم أن ينفردوا بامتلاك قصة إبراهيم، فقال (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) (آل عمران 67). ثم ادعى أنه أولى الناس بالنبي إبراهيم الذي يعتبره اليهود جدهم الأول، فقال (إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (آل عمران 68). فهو هنا قد احتكر إبراهيم وجعله مسلماً، وهذا التصرف هو واحد من ركائز الميثولوجيا، التي من وظائفها إرساء قواعد السلوك للمجتمع الذي تظهر فيه، كما تقول ميرسيا إليادا Mircea Eliade, “Myth and Relaity” 1963 (One of the foremost functions of myth is to establish models for behaviour) فكون محمد زعم أن إبراهيم الذي ظهرت قصته حوالي 2300 سنة قبل ظهور الإسلام، كان حنيفاً مسلماً ولم يكن يهودياً أو مسيحياً، وأن محمداً والمؤمنين أحق الناس به، يجعل احتمال أن قصة إبراهيم ميثولوجياً احتمالاً يقبل التصديق لأن محمداً أراده أن يكون المثل الأعلى لسلوك المسلمين، وبذا يكون قد استوفي الشرط الأهم في الميثولوجيا. وكما قلنا في الحلقة الأولى إن من خصائص الميثولوجيا أن كل جيل يزيد عليها شيئاً جديداً، فهاهو محمد قد زاد وجعل إبراهيم حنيفاً. ولكن رغم هذا الادعاء، فلا محمد ولا أحبار اليهود ولا المسيحية شرحوا لنا ما هي رسالة إبراهيم إذا كان فعلاً أبا الأنبياء. فكل نبي لا بد أن تكون له رسالة معينة. لكن القرآن لم يقل لنا حتى اسم كتاب إبراهيم، إذا كان له كتاب، رغم أنه عّدد لنا التوراة والإنجيل والزبور والفرقان والكتاب والذكر. كل ما طلبه منا القرآن هو اتباع ملةَ إبراهيم حنيفاً، ولكن لا محمد ولا غيره كان يعرف ما هي ملة إبراهيم لأن إبراهيم لم يكن نبياً ولم يأت برسالة معلومة، ولم يحاول أن يدعو لربه لا في مصر ولا في كنعان وإنما اكتفى بإقامة معبد ليهوه في أرض كنعان، وبجمع الهدايا من فرعون مصر ومن الملك العربي بعد أن وهبهم زوجته. فلا التوراة ولا القرآن يخبرنا أن إبراهيم كان له أتباع أو أنه دعا إلى رسالة معينة. وكل هذا التجاهل للرسالة التي هي أهم من الرسول نفسه، تجعلنا نقول إن إبراهيم كان أسطورةً لا مكان له في عالم الحقيقة. والقرآن يقول (وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه) (إبراهيم 4)، وهذا يجعلنا نستغرب لماذا اختار إله السماء أن يبعث إبراهيم الذي كانت لغته الكلدانية أو السومرية لأنه نشأ في أور الكلدانية، إلى أرض كنعان حيث يتحدث الناس اللغة الآرامية؟ ألا يهم هذا الإله أن يفهم الناس في أرض كنعان رسالة إبراهيم الذي سافر مئات الأميال من جنوب تركيا إلى فلسطين ليوصل هذه الرسالة لهم؟. ولكن لأن إبراهيم كان شخصية ميثولوجية ولا رسالة له، لم يهتم المفسرون بلغته ولم يذكروها لنا. ويبالغ محمد في احتضان إبراهيم لدرجة أنه قال (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) (الروم 30). فهو هنا جعل ملة إبراهيم هي الفطرة الطبيعية لبني البشر وأن الإنسان يتبع فطرته التي فطره الله عليها وبالتالي لا بد أن يتبع ملة إبراهيم غير المعروفة لمحمد أو لغيره. ويبدأ تخبط القرآن واضحاً عندما حاول محمد الحديث عن الأصنام وعن ما قاله إبراهيم لأبيه، فقال (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) (الأنعام 84). وطبعاً آزر لم يكن أبا إبراهيم. حتى ابن عباس الذي كان طفلاً عندما توفي محمد، عرف هذه الحقيقة (أخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر إنما كان اسمه تارح. وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: معنى آزر: الصنم. وأخرج عن السدي قال: اسم أبيه تارح واسم الصنم آزر. وأخرج عن مجاهد قال: ليس آزر أبا إبراهيم.) (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، النوع السابع والستون في أقسام القرآن). فالعرب ومنهم محمد وكذلك الأحناف لم يكونوا يعرفون أصل إبراهيم لأنهم استقوا معرفتهم من الفرق المسيحية بالشام، والإنجيل المسيحي لم يتحدث عن إبراهيم بأي تفاصيل. ثم يحدثنا القرآن، وبإسهاب، عن حوار إبراهيم مع قومه عن عبادة الأصنام، فيقول لنا في قصة أشبه بقصص الأطفال إن إبراهيم حطم أصنام قومه (لأن محمداً كان يتحدث عن الأصنام التي رآها بالكعبة واعتقد أن قوم إبراهيم في سومر أو أور كلدان كانوا يجمعون أصنامهم في مكان واحد مثل الكعبة التي كان بها 360 صنماً) فقال القرآن على لسان إبراهيم (قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين. وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين. فجعلهم جذذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون. قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين. قالوا سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم. قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون. قالوا أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون) (الأنبياء 56-63). إبراهيم حلف لهم ليكيدن بأصنامهم عندما يدبرون، وعندما حطمها ورجع القوم ورءوا ما صنع قالوا: من صنع هذا؟ مع أن إبراهيم كان قد حلف لهم أنه سوف يكيد بها. (فقالوا سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم)، وبالطبع لو كانت القصة حقيقية لكان كل الناس في المدينة يعرفون إبراهيم لأنه كان يناقشهم ويناقش أباه في موضوع عبادة الأصنام وحلف لهم أنه سوف يحطمها. وتهديده بتحطيم الأصنام كان كفيلاً أن يجعله مشهوراً بينهم، ولكن بكل بساطة يقول القرآن (سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم). وإبراهيم كان عمره وقتها 135 سنة حسب الميثولوجيا العبرانية، وحتى لو كان عمره 75 سنة كما يقول العهد القديم، فإنه لم يكن فتًى. فإذا كان إبراهيم فتًى بهذا العمر، فكم يكون عمر الشيخ عندهم؟ كل القصة محبوكة حول الأساطير التي كان محمد يسمعها من ورقة بن نوفل ومن بعض اليهود الذين لم يكونوا بأعلم منه بشخصية إبراهيم. وحسب الميثولوجيا العبرانية فإن تارحَ، أبا إبراهيم، كانت مهنته صناعة الأصنام الصغيرة من الطين وبيعها، ومعنى هذا أن إبراهيم تربى مع الأصنام وعرفها طوال حياته قبل أن يترك أور إلى حاران. وقد سكن بحاران حتى صار عمره 135 سنة. فكيف نتوقع من شخص مثل هذا أن يثور ويحطم الأصنام؟ فليس هناك من شك أن محمداً كان يتحدث في هذه السورة المكية عن نواياه إذا ما تمكن من دخول مكة منتصراً. والغريب أن القرآن جعل إبراهيم يدعو لدينه الجديد في وسط قومه في أور أو حاران، ويدعوهم إلى عبادة الرب الواحد ويحطم أصنامهم ليجبرهم على عبادة إله الجديد، بينما القصة التوراتية تقول إن يهوه أمر أبراهام بالخروج من حاران إلى الأرض المقدسة في أرض كنعان. وكل ما كثر الاختلاف في الروايات كلما زاد احتمال أن تكون القصة ميثولوجيا. ثم يقص علينا محمد قصة خلاف إبراهيم مع النمرود، فيقول (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (الأنبياء 68-69). وهذه صورة طبق الأصل من الأساطير القديمة عندما كانت الآلهة تتشاجر مع بعضها وتقذف اللهب على الخصم ولكن الخصم يحتمي من النار بسحر إلهي فلا يصيبه أذًى. وهذه القصة من اختراع بنات أفكار محمد لـأن العهد القديم لم يذكر النمرود في الكتب الخمسة الرئيسية إلا في سفر التكوين، الإصحاح 10، ليقول عنه (إن كوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جباراً في الأرض. الذي كان جبارَ صيدٍ أمام الرب. لذلك يقال "كنمرود جبار صيدٍ أمام الرب". وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكلنة في أرض شنعار) (الآيات 8-19). ولكن أحبار اليهود ذكروه في المدراش وقالوا إنه كان ابن كوش، وحفيد حام، والحفيد الأعظم لنوح. ومعنى هذا أن نوح أنجب حام، وحام أنجب كوش، وكوش أنجب النمرود. يعني أن النمرود هو الجيل الثالث بعد نوح، وبما أن الفترة الزمنية بيت الأجيال حوالي 30 سنة، يكون الفرق التاريخي بين نوح وبين النمرود حوالي 100 سنة. وأغلب المصادر تقول إن الطوفان حدث حوالي سنة 2300 قبل الميلاد، وهذا يجعل النمرود من الجيل الذي عاش حوالي العام 2200 قبل الميلاد، ولكن قصة إبراهيم ترجع إلى حوالي العام 1800 قبل الميلاد، وبذا لا يمكن أن يكون النمرود قد عاصر إبراهيم. هذا من الناحية الميثولوجية، أما في الحقيقة فإن النمرود كان ملكاً آشورياً واسمه الحقيقي هو Tukulti Ninurta وقد احتل بابل عام 1225 قبل الميلاد (Jealous Gods, Chosen People by David Leeming, p 15 ). وعليه لا يمكن أن يكون قد عاصر إبراهيم. وكلمة النمرود مشتقة من الكلمة العبرية marad وتعني "الثائر" والعهد القديم يقول إنه محارب جبار أمام الرب، أي ثائر على رسالة الرب. وربما لأنه هزم جيوش بابل واحتلها وربما أدخل بها آلهته لتحتل مكان آلهتهم، زعم كتاب الميثولوجيا اليهودية أنه محارب أمام الرب. وقد أخذ محمد هذه الأسطورة كما هي وزاد عليها، وجعل النمرود يتجادل مع إبراهيم، وعندما غلبه إبراهيم بحجة ضعيفة جداً بأن قال له إن ربي يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب، بُهت النمرود، وكان يمكنه أن يقول لإبراهيم: بل اجعل ربك يأتي بها من المغرب، فيبهت إبراهيم. بعد هذه المجادلة أمر النمرود بإلقاء إبراهيم في النار، وتدخل رب السماء وقال للنار (كوني برداً وسلاماً على إبراهيم). ولم تصب النار إبراهيم بأي أذى. حوار وأفعال تصلح للميثولوجيا بكل حذافيرها. وطبعاً لا يمكننا أن نتخيل أن تصبح النار برداً لأن ذلك ضد قوانين الطبيعة. يقول الفيلسوف الهولندي سبنوزا "الله هو قوانين الطبيعة التي تحكم العالم" (Karen Armstrong: A History of God, p 359) فلو كسر الله قوانين الطبيعة يكون قد حطم نفسه. وتختلف قصة المشنا عن إلقاء إبراهيم في النار عن قصة القرآن، فتقول المشنا He [Abraham] was given over to Nimrod. [Nimrod] told him: Worship the Fire! Abraham said to him: Shall I then worship the water, which puts off the fire! Nimrod told him: Worship the water! [Abraham] said to him: If so, shall I worship the cloud, which carries the water? [Nimrod] told him: Worship the cloud! [Abraham] said to him: If so, shall I worship the wind, which scatters the clouds? [Nimrod] said to him: Worship the wind! [Abraham] said to him: And shall we worship the human, who withstands the wind? Said [Nimrod] to him: You pile words upon words, I bow to none but the fire - in it shall I throw you, and let the God to whom you bow come and save you from it! Haran [Abraham s brother] was standing there. He said [to himself]: what shall I do? If Abraham wins, I shall say: "I am of Abraham s [followers]", if Nimrod wins I shall say "I am of Nimrod s [followers]". When Abraham went into the furnace and survived, Haran was asked: "Whose [follower] are you?" and he answered: "I am Abraham s!". [Then] they took him and threw him into the furnace, and his belly opened and he died and predeceased Terah, his father. هذه الفقرة تقول إن النمرود طلب من إبراهيم أن يعبد النار، فقال له إبراهيم: هل أعبد الماء كذلك لأن الماء يطفيء النار، فقل له النمرود: أعبد الماء. فقال إبراهيم: وهل أعبد السحاب الذي يحمل الماء، فقال له النمرود: أعبد السحاب. فرد إبراهيم: وهل أعبد الريح التي تحمل السحاب، فقال له النمرود: أعبد الريح. فرد إبراهيم: وهل نعبد الإنسان لأنه يقاوم الريح، فقال له النمرود: أنت تلقي الكلمات فوق الكلمات، وأنا لا أنحني لغير النار التي سوف ألقيك فيها ولسوف نرى إن كان ربك سوف يحميك منها. وكان هاران، أخو إبراهيم واقفاً عند ذلك المشهد، فقال إن خرج إبراهيم سالماً فسوف أقول إني من أتباع إبراهيم، وإن هلك إبراهيم وفاز النمرود فسوف أقول إني من أتباع النمرود. ولما خرج إبراهيم من النار سالماً سألوا هاران، فقال إنه من أتباع إبراهيم، فألقوا به في النار وانشق بطنه ومات وبذا سبق أباه في الموت. وأضح من قصة المشنا أن فكرة اليهود عن قصة النمرود تختلف اختلافاً كبيراً عن فكرة محمد عنه، ولذلك لا يمكن أن تكون القصة حقيقية وبها كل هذا الاختلاف بين اليهود والمسلمين. والتعليل الوحيد لكل هذا الاختلاف هو أن القصة لم تحدث، وتخيل كل جانب محتوى الرواية وكيف حدثت وماذا قال إبراهيم. يقول أليكساندر هايدل Alexander Heidel أول من ترجم أسطورة جلجامش في كتابه المعنون: The Gilgamish Epic and the Old Testament Parallels, 1948 (إن ملحمة جلجامش كُتبت في ألواح من الطين في حوالي العام 2000 قبل الميلاد وقد كان اسمه Huwawa وحوره العبريون فيما بعد إلى YHWH وبما أن ملحمة إبراهيم حدثت في نفس المنطقة من الأرض، فإن التشابة الكبير بين القصتين يجعل احتمال أن تكون قصة إبراهيم هي نفسها قصة جلجامش، احتمالاً معقولاً. ومما يقوي احتمال أن تكون القصة أسطورة أن اليهود يزعمون أن أبراهام نزح من أرض العراق إلى الأرض الموعوده في فلسطين، وعندما طلبت منه سارة أن يطرد هاجر وابنها إسماعيل، طردهما وتاهت هاجر في صحراء الأردن (فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ) (تكوين، إصحاح 21، الآية، 14). بينما يزعم المسلمون أن إبراهيم عندما ولدت له هاجر إسماعيل، أخذ هاجر وابنها الصغير إلى مكة، وتركهم هناك وخاطب ربه وقال (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوِي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) (إبراهيم 37). وزاد أهل التفاسير في القصة وقالوا إن إسماعيل كان يبكي من العطش ويرفس برجليه في التراب وأن أمه لم تقدر على تحمل المنظر فراحت تهرول بين الصفا والمروة تبحث عن الماء. ثم جاءها الملاك وأخبرها أن الماء نبع تحت أرجل إسماعيل. ونفهم من هذه الآية أن إسماعيل كان طفلاً صغيراً، ولكن الميثولوجيا في العهد القديم تخبرنا أن إسماعيل كان عمره 13 سنة عندما طرد إبراهيم هاجر وإسماعيل من عند سارة. ويحتار المرء في فهم السبب من وراء ترك إبراهيم طفلاً رضيعاً وأمه في وادٍ غير ذي زرع. أما كان من الأفضل أن يتركهما في واحة في يثرب حتى يكبر إسماعيل ثم يرجع إليهما ويأخذه إلى مكة ليساعده في بناء الكعبة؟ ونحتار أكثر في فهم لماذا سافر إبراهيم بهاجر وإسماعيل من أرض كنعان، قاطعاً صحارى الأردن، ليصل إلى صحراء أخرى ووادٍ غير ذي زرع في مكة. ومما يقوي احتمال أن القصة ما هي إلا اسطورة، أنه لا يوجد لدينا أي سند تاريخي لهذه الرحلة من كنعان إلى مكة. وعندما استقر محمد بالمدينة وانتصرت دعوته، فكر في مسألة الحج، فأتى في سورة البقرة بآيات عن بناء الكعبة، فقال (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيلُ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك وارنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت الحكيم. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه. ولقد اصطفيناه في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوبَ الموتُ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) (البقرة 127-133). والإشكال هنا أن إسماعيل كان طفلاً صغيراً عندما تركه إبراهيم مع أمه في الصحراء، حسب سورة إبراهيم المكية. ولكن فجأة أصبح رجلاً في سورة البقرة، يساعد أباه في رفع قواعد البيت المحرّم. وبالطبع لم يبنِ إبراهيم ولا إسماعيل الكعبة، بدليل أن إبراهيم عندما أخذ هاجر والطفل إسماعيل إلى مكة قال لربه (بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم) مما يعني أن البيت بمكة كان قائماً قبل وصول إبراهيم. الكعبة بناها العماليق أو جرهم كما تقول كتب التاريخ الإسلامي. وأغلب الظن أن المسيحيين الأوائل في جزيرة العرب هم الذين بنوها ككنيسة لهم بدليل أن محمداً عندما فتح مكة ودخل الكعبة، وضع يديه على صورة مريم وصورة عيسى اللتين كانتا على الجدار، وقال لأتباعه أن يمحو بقية الصور. وهذا يدل على أنها كانت كنيسة بها صورة العذراء ويسوع والملائكة. فحتى بناء الكعبة أصبح أسطورة في القرآن الذي جعل إبراهيم مسلماً، ثم سها وقال على لسان إبراهيم (ربنا واجعلنا مسلمين). والأسطورة الإسلامية تجعل إبراهيم يسأل ربه أن يبعث في العرب رسولاً منهم. بل يزيد مؤلف القرآن ويزعم أن يعقوب قبل أن يموت سأل أولاده ماذا يعبدون بعده فقالوا إنهم سوف يعبدون إله إسماعيل، ولن يموتوا إلا وهم مسلمون. أين الحقوق الأدبية هنا. العبرانيون يألّفون القصة فيستولي عليها كاتب آخر ويغيّر فيها تغييراً كبيراً يحرم المؤلف الأصلي من أي حقوق أدبية. أين صدق الأنبياء المرسلين. إما أنّ محمداً قد أضاف هذه الرتوش أو كُتاب التوراة قد كذبوا. وإذا اختلف اللصان ظهر المسروق. وهذه الآيات تؤكد لنا أن قصة إبراهيم ما هي إلا ميثولوجيا من صنع الخيال الإسلامي والعبراني، يضيف كل فريق إليها ما يسند موقفه، وإله السماء مستوٍي على العرش لا يحرك ساكنا لفض هذا النزاع. فهل كان إبراهين مسلماً حنيفاً أم كان يهوديا وأباً لإسحق الذي أتى من صلبه كل الأنبياء والرسل المعروفين، ما عدا محمدأ" ثم نأتي للاختلاف الكبير بين القرآن والتوراة في قصة الفداء. العهد القديم يقول إن الإله أمر أبراهام أن يذبح ابنه الوحيد، إسحق. مع أن إسحق لم يكن ابنه الوحيد لأن إسماعيل ولد قبل إسحق. ولكن نسبة للنظرة العبرانية الدونية لغير اليهود، اعتبر كتاب العهد القديم أن إسماعيل لا يرتقي إلى مستوى أن يكون ابن أبراهام لأن أمه هاجر غير يهودية. وبذا أصبح الفداء لإسحق ولكنْ المسلمون يقولون إنّ الفداء كان لإسماعيل، رغم أن إبراهيم لم يكن ساكناً بمكة مع هاجر بل رجع إلى زوجته سارة وبالتالي لا يمكن أن يكون الفداء قد حدث في مكة كما يقول المسلمون. والقرآن يقول (فبشرناه بغلامٍ حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتلّه للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدّقَت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم) (الصافات 101-107). ويتبين من هذه الآيات أن المقصود بالفداء هو إسحق وليس إسماعيل كما يزعم المسلمون لأن القرآن يقول في نفس السورة (وبشرناه بإسحق نبياً من الصالحين) (112). فالله لم يبشر إبراهيم بإسماعيل لأن إسماعيل ولدته هاجر وكانت فتاة في مقتبل العمر، وكان طبيعياً أن تحمل بعد المعاشرة الجنسية، ولكن بشره بإسحق لأن سارة كان عمرها 90 سنة وقد انقطعت عنها الدورة، كما يقول العهد القديم، ولذلك بشره بإسحق. ولما كانت الآيات أعلاه تقول (وبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال إني أرى في المنام أن أذبحك) يصبح من الواضح جداً أن المقصود هو إسحق. فلو كانت القصة حقيقية لأخبر الله محمداً باسم الطفل المفدي، ولكن كل القصة ميثولوجيا، وكما قلنا سابقاً إنّ واحدة من سمات الميثولوجيا أن كل جانب يضيف إليها ما يسند موقفه. وأعتقد أن قراءة هاتين الحلقتين عن إبراهيم يجعل موقف القائلين أن القصة ميثولوجيا وإن إبراهيم شخصية أسطورية، موقفاً أقرب إلى التصديق من موقف القائلين بأن إبراهيم كان شخصيةً حقيقية. والذين يقولون بأنه شخصية حقيقية ليس لديهم دليل واحد يقدمونه لنا غير إيمانهم العقيدي الذي لا يمكن أن يصمد في وجه التحليل المنطقي للقصة.
#كامل_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البطريرك إبراهيم وأساطير الشرق 1-2
-
طول اليوم الإلهي
-
القرآن وبنو إسرائيل 4-4
-
القرآن وبنو إسرائيل 3-4
-
القرآن وبنو إسرائيل 2-4
-
يهود الأندلس
-
في استراحة القراء 1
-
القرآن وبنو إسرائيل 1-4
-
في معية القراء
-
القرآن ونساء النبي
-
في رحاب القراء 4
-
تأملات في القرآن المكي 4-4
-
في رحاب القراء 3
-
تأملات في القرآن المكي 3-4
-
في رحاب القراء 2
-
تأملات في القرآن المكي 2-4
-
في رحاب القراء 1
-
تأملات في القرآن المكي 1-4
-
تعقيباً على تعليقات القراء على تاريخ القرآن
-
تاريخ وماهية القرآن 3 – 3
المزيد.....
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
-
قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى
...
-
قائد الثورة الاسلامية: العدو لم ولن ينتصر في غزة ولبنان وما
...
-
قائد الثورة الاسلامية: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|