الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة والمعاصرة


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 07:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

مقدمة
الإبستمولوجيا، أو نقد المعرفة العلمية، هي الفرع الأساسي في الفلسفة الحديثة الذي يتناول أسئلة: ما هي المعرفة؟ كيف نحصل عليها؟ وما حدودها وشروطها؟ منذ بدايات الحداثة مع ديكارت في القرن السابع عشر، شهدت الإبستمولوجيا تحولات جذرية، من البحث عن اليقين الداخلي إلى نقد الحداثة نفسها في القرن العشرين، مروراً بالتجريبية البريطانية، والمثالية الألمانية، والوضعية المنطقية، والبراغماتية الأمريكية، وصولاً إلى الإبستمولوجيا الاجتماعية والنسوية وما بعد البنيوية. هذه التحولات لم تكن مجرد تطورات نظرية، بل استجابات لأزمات معرفية ناتجة عن الثورة العلمية، والتنوير، والحداثة الصناعية، والحروب العالمية، والثورة الرقمية. يهدف هذا البحث إلى تتبع مسار الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة من خلال تحليل المحطات الرئيسية، مع التركيز على التحول من الذاتية اليقينية إلى التعددية النسبية، مستنداً إلى أعمال ديكارت، لوك، هيوم، كانط، هيغل، نيتشه، هوسرل، راسل، فتغنشتاين، كواين، كون، فوكو، دريدا، وروتي، لنصل إلى تقييم معاصر يربط بين الإبستمولوجيا والذكاء الاصطناعي والمعرفة الجماعية. ما نسعى اليه هو دراسة في التحولات المفهومية والمنهجية من ديكارت إلى ما بعد الحداثة. فماهي خصائص الابستيمولوجيا الحديثة؟ بماذا تميزت الابستيمولوجيا الديكارتية؟ وماذا كان مصيرها مع مابعد الحداثة؟ والى أي مدى يجوز لنا القول بوجود ابستيمولوجيا للأزمنة مابعد الحديثة؟
الإبستمولوجيا اليقينية: من ديكارت إلى كانط
تبدأ الإبستمولوجيا الحديثة مع رينيه ديكارت (1596–1650)، الذي أسس "المنهج الشكي" في تأملات في الفلسفة الأولى (1641)، محاولاً بناء معرفة يقينية على أساس "الكوجيتو" (أنا أفكر إذن أنا موجود). هنا، تكون المعرفة ذاتية أولاً، ويقينية من خلال الأفكار الواضحة والمتميزة، معتمداً على الاستدلال الرياضي ك نموذج. يُمثل ديكارت الانتقال من الإبستمولوجيا السكولاستية إلى الحداثة، حيث يصبح العقل الفردي مصدر اليقين، لكن هذا يفتح باب الشك المنهجي حول العالم الخارجي، مما أدى إلى المشكلة الشهيرة "الجسر بين الذات والموضوع". رداً على ذلك، طورت التجريبية البريطانية (لوك، بيركلي، هيوم) إبستمولوجيا حسية. جون لوك في مقالة في الفهم الإنساني (1689) يرى العقل "لوحاً أبيض"، والمعرفة تنشأ من التجربة الحسية والتأمل. أما ديفيد هيوم في بحث في الفهم الإنساني (1748)، فيصل إلى الشكوكية من خلال نقد فكرة السببية كمجرد عادة نفسية، لا علاقة ضرورية. هذه التجريبية تهز أسس اليقين الديكارتي، محولة الإبستمولوجيا من البحث عن اليقين المطلق إلى الاحتمالية. بعد ذلك يأتي إيمانويل كانط (1724–1804) في نقد العقل الخالص (1781) ليوفق بين العقلانية والتجريبية في "الثورة الكوبرنيكية": المعرفة ليست انعكاساً للعالم، بل تشكيلاً له من خلال الفئات العقلية (الزمان، المكان، السببية). هنا، تكون المعرفة محدودة بالظواهر، لا الشيء في ذاته ، مما يضع حداً للإبستمولوجيا المطلقة ويفتح الباب للمثالية.
الإبستمولوجيا المثالية والتاريخانية: من هيغل إلى نيتشه
مع يوهان غوتليب فيخته وفريدريش شيلينغ، ثم جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770–1831)، تتحول الإبستمولوجيا إلى ديناميكية تاريخية. في فينومينولوجيا الروح (1807)، تكون المعرفة عملية ديالكتيكية (أطروحة – نقيض – تركيب)، والروح المطلقة تدرك نفسها عبر التاريخ. هنا، ليست المعرفة فردية، بل جماعية وتاريخية، مما يمهد للإبستمولوجيا الاجتماعية.لكن فريدريش نيتشه (1844–1900) يهدم هذا في ما وراء الخير والشر (1886) وأصل الأخلاق، معتبراً المعرفة "تفسيراً" مشروطاً بإرادة القوة، لا حقيقة مطلقة. شعاره "لا توجد حقائق، فقط تفسيرات" يُنهي الإبستمولوجيا التقليدية، محولاً إياها إلى نسبية قيمية.
الإبستمولوجيا العلمية والتحليلية: من الوضعية إلى فتغنشتاين المتأخر
في القرن العشرين، تسعى الوضعية المنطقية (كارناب، شليك، راسل) إلى إبستمولوجيا علمية صلبة. بيرتراند راسل في مشكلات الفلسفة (1912) يقترح أن المعرفة تنبني من "بيانات حسية"، والمنطق هو لغة المعرفة. أما الدائرة الفيينية، فترفض الميتافيزيقا وتقصر المعرفة على القابل للتحقق. لكن لودفيغ فتغنشتاين يُقلب الطاولة: في الرسالة المنطقية الفلسفية (1921) يرى العالم "مجموع الحقائق"، لكن في تحقيقات فلسفية (1953) ينتقل إلى "ألعاب اللغة": المعنى هو الاستعمال، والمعرفة ممارسة اجتماعية، لا تمثيل. هذا يُنهي الإبستمولوجيا التأسيسية ويفتح الباب للبراغماتية.
الإبستمولوجيا النقدية وما بعد الحداثة: من كون إلى دريدا
توماس كون في بنية الثورات العلمية (1962) يُظهر أن العلم لا يتقدم تراكمياً، بل عبر "تحولات نموذجية"، مشروطة بمجتمعات علمية، لا بموضوعية مطلقة. هذا يجعل الإبستمولوجيا تاريخية واجتماعية. بول فيورابند في ضد المنهج (1975) يذهب أبعد: "كل شيء يجوز" ، رافضاً المنهج الواحد. أما ميشيل فوكو في الكلمات والأشياء (1966) وترتيب الأشياء، فيُظهر أن المعرفة "إبستمي" تاريخي، مشروط بسلطة وخطاب. جاك دريدا في عن الغراماتولوجيا (1967) يفكك الثنائيات (ذات/موضوع، حضور/غياب)، معتبراً المعرفة "تأجيلاً" (différance). ريتشارد روتي في فلسفة ومرآة الطبيعة (1979) يُعلن نهاية الإبستمولوجيا كتأسيس، مقترحاً "محادثة" براغماتية بدلاً من "تمثيل".
الإبستمولوجيا المعاصرة: النقد الاجتماعي، النسوية، والرقمية
في العقود الأخيرة، تبرز الإبستمولوجيا الاجتماعية (غولدمان، فولر) التي ترى المعرفة نتاج تفاعل جماعي، مع "شهادة" وروائز كمصدر أساسي. الإبستمولوجيا النسوية (هاردينغ، لونغينو) تنتقد الحياد المزعوم، مقترحة "معرفة موقفية" تبدأ من تجارب المهمشين.مع الذكاء الاصطناعي، تظهر إبستمولوجيا آلية: كيف "تعرف" الشبكات العصبية؟ هل المعرفة الخوارزمية موضوعية؟ (مثل نقاشات في تعلم الآلة والتحيز الآلي).
الخاتمة
في الختام، شهدت الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة تحولاً من اليقين الديكارتي إلى الشك الهيومي، ثم التركيب الكانطي، فالديالكتيك الهيغلي، والنسبية النيتشوية، والتحليل اللغوي، والنقد ما بعد البنيوي، وصولاً إلى التعددية المعاصرة. لم تعد المعرفة "تمثيلاً" للواقع، بل ممارسة، خطاباً، وبناءً اجتماعياً. هذا التطور لم يُنهِ الإبستمولوجيا، بل جددها، مما يدعو إلى إبستمولوجيا هجينة تواجه تحديات العصر: كيف نبني معرفة موثوقة في زمن المعلومات المضللة، والذكاء الاصطناعي، والأزمات العالمية؟ الجواب يكمن في توازن بين النقد والتعددية، مع الحفاظ على المسؤولية المعرفية تجاه الحقيقة المشتركة. هكذا، تظل الإبستمولوجيا قلب الفلسفة الحديثة، ليس كتأسيس، بل كسؤال دائم. فهل يمكن عقلنة التعدد المنهجي والفوضى الرقمية والتضخم المعلوماتي؟
كاتب فلسفي