المقاربة الابستيمولوجية عند توماس كون بين تغيير في البرادايمات وتفعيل اللاّمقياسية
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 02:54
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مقدمة
لقد أحدث توماس كون من خلال كتابه "بنية الثورات العلمية" الصادر عام 1962 ثورة في فهمنا لتطور العلم. يقدم كون في هذا العمل رؤية إبستيمولوجية جديدة تتحدى التصورات التقليدية للعلم كعملية تراكمية خطية، ويؤكد على مفهوم "البرادايم" (Paradigm) كإطار مركزي يحكم التفكير العلمي. كما يطرح فكرة "اللامقياسية" (Incommensurability) التي تبرز تعقيدات العلاقة بين البرادايمات المختلفة. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل المقاربة الإبستيمولوجية لكون في كتابه "بنية الثورات العلمية" ، مع التركيز على مفهومي تغيير البرادايمات واللامقياسية، واستكشاف كيفية تأثيرهما على فهمنا للمعرفة العلمية. فما المقصود بالبرادايم؟ وكيف ارتبطت الثورة العلمية بتحوله؟ ولماذا نظر الى تاريخ العلم من منظور اللامقياسية؟
إطار المقاربة الإبستيمولوجية لتوماس كون
تتمحور المقاربة الإبستيمولوجية لكون حول فكرة أن العلم لا يتطور بشكل تراكمي خطي كما كان يُعتقد في التصورات الوضعية، بل من خلال سلسلة من الثورات العلمية التي تؤدي إلى تغييرات جذرية في البرادايمات. يعرف كون البرادايم بأنه "مجموعة من الممارسات المقبولة التي تحدد مجالًا علميًا معينًا في فترة زمنية معينة، بما في ذلك القوانين، النظريات، التطبيقات، والأدوات". يرى كون أن العلم يمر بمراحل متميزة: العلم المعياري (Normal Science)، الأزمات (Crises)، والثورات العلمية.
العلم المعياري
في مرحلة العلم المعياري، يعمل العلماء ضمن إطار برادايم معين، حيث يركزون على حل الألغاز التي يطرحها هذا الإطار. هذه المرحلة تتميز بالاستقرار والتراكم التدريجي للمعرفة داخل البرادايم.
الأزمات
عندما تتراكم الانحرافات التي لا يمكن تفسيرها ضمن البرادايم الحالي، تدخل المجتمعات العلمية في حالة أزمة. هذه الأزمات تهيئ الأرضية لظهور برادايم جديد.
الثورات العلمية
الثورات العلمية هي العملية التي يتم فيها استبدال برادايم قديم بآخر جديد، مما يؤدي إلى تغيير جذري في الطريقة التي يُنظر بها إلى العالم. يقدم كون أمثلة تاريخية مثل الانتقال من النموذج البطليموسي إلى النموذج الكوبرنيكي في علم الفلك.
مفهوم تغيير البرادايمات
يُعد تغيير البرادايمات جوهر رؤية كون الإبستيمولوجية. يرى كون أن هذا التغيير لا يحدث بسبب تراكم المعرفة فحسب، بل نتيجة تحولات جذرية في الإطار المفاهيمي الذي يعتمده العلماء. هذا التحول يشبه "تغيير الجشطالت"، حيث يرى العلماء العالم بطريقة مختلفة تمامًا بعد تبني البرادايم الجديد. على سبيل المثال، الانتقال من الفيزياء النيوتونية إلى الفيزياء النسبية لأينشتاين لم يكن مجرد إضافة معرفة جديدة، بل تغيير في الطريقة التي يُفهم بها مفهوم الزمان والمكان. هذا التحول يتطلب إعادة صياغة الأسئلة العلمية، الأدوات، والافتراضات الأساسية.
اللامقياسية
مفهوم اللامقياسية هو أحد أكثر الأفكار إثارة للجدل في فلسفة كون. يشير هذا المصطلح إلى عدم القدرة على مقارنة برادايمين مختلفين بشكل مباشر بسبب اختلاف الإطار المفاهيمي واللغوي الذي يعتمدانه. يرى كون أن البرادايمات المختلفة لا تشترك في معايير مشتركة كافية للحكم عليها، مما يجعل من الصعب القول إن أحدهما "أفضل" من الآخر بمعايير موضوعية.
أنواع اللامقياسية
اللامقياسية المفاهيمية: تتعلق بالاختلافات في المفاهيم الأساسية. على سبيل المثال، مفهوم "الكتلة" في الفيزياء النيوتونية يختلف عنه في الفيزياء النسبية.
اللامقياسية المنهجية: تشير إلى اختلاف الأساليب والمعايير التي تستخدمها البرادايمات المختلفة.
اللامقياسية الإدراكية: تتعلق باختلاف الطريقة التي يرى بها العلماء العالم ضمن برادايمات مختلفة.
تداعيات اللامقياسية
تثير اللامقياسية تساؤلات حول موضوعية العلم، حيث يبدو أن اختيار برادايم على آخر قد يعتمد على عوامل اجتماعية وثقافية وليس فقط على أدلة تجريبية. هذا المفهوم تحدى الرؤية الوضعية التي ترى العلم كعملية محايدة وموضوعية.
لقد تعرضت أفكار كون لنقد واسع. فقد اتهمه البعض، مثل كارل بوبر، بالتقليل من موضوعية العلم بسبب تركيزه على اللامقياسية. كما انتقد آخرون غموض مفهوم "البرادايم"، حيث استخدمه كون بمعانٍ متعددة دون تعريف دقيق. إضافة إلى ذلك، رأى البعض أن فكرة اللامقياسية تؤدي إلى نسبية معرفية تجعل من الصعب الحكم على تقدم العلم. على الرغم من الانتقادات، كان لكتاب "بنية الثورات العلمية" تأثير هائل على فلسفة العلم، علم الاجتماع، وحتى الدراسات الثقافية. فقد ألهم هذا العمل تيارات جديدة في دراسة العلم، مثل الدراسات الاجتماعية للعلم والتكنولوجيا. كما أثر في فهمنا للعلاقة بين العلم والمجتمع، مشددًا على الدور الاجتماعي والتاريخي في تطور المعرفة.
خاتمة
تمثل المقاربة الإبستيمولوجية لتوماس كون في "بنية الثورات العلمية" تحولًا جذريًا في فهم تطور العلم. من خلال مفهومي البرادايم واللامقياسية، قدم كون رؤية ديناميكية ترى العلم كعملية غير خطية تخضع لتغييرات جذرية. على الرغم من الجدل الذي أثارته أفكاره، إلا أنها أعادت تشكيل النقاش حول طبيعة المعرفة العلمية وعلاقتها بالسياقات الاجتماعية والثقافية. تظل هذه المقاربة مرجعًا أساسيًا لفهم تعقيدات العلم وتطوره، مما يجعلها ذات أهمية مستمرة في الدراسات الإبستيمولوجية.
المصادر والمراجع:
Kuhn, T. S. (1962). The Structure of Scientific Revolutions. Chicago: University of Chicago Press.
Bird, A. (2000). Thomas Kuhn. Princeton: Princeton University Press.
Hoyningen-Huene, P. (1993). Reconstructing Scientific Revolutions: Thomas S. Kuhn’s Philosophy of Science. Chicago: University of Chicago Press.
كاتب فلسفي