مخطط تقسيم السودان بين السياق التاريخي، الأسباب، والتداعيات
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 09:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة
" يُعد السودان أحد أقل البلدان نمواً في العالم، حيث يحتل المرتبة 172 على مؤشر التنمية البشرية في عام 2022."
دولة السودان هي واحدة من أكثر الدول تعقيدًا في تاريخها السياسي والجغرافي، حيث يمثل تقسيمها في عام 2011 إلى دولة شمال السودان ودولة جنوب السودان نقطة تحول جذرية في مسيرة البلاد. هذا التقسيم لم يكن حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة لتراكم تاريخي يمتد لقرون، يجمع بين عوامل استعمارية، تنوع عرقي وثقافي، صراعات داخلية، وتدخلات خارجية. الدراسة تهدف إلى تحليل هذا التقسيم من منظور تاريخي وجغرافي، مع التركيز على أسبابه الرئيسية، آثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتحديات المستمرة في كلا الدولتين. سنعتمد منهجًا تحليليًا يجمع بين الدراسات التاريخية، الجيوبوليتيكية، والاجتماعية، مستندين إلى مصادر أكاديمية وتقارير دولية، لنفهم كيف تحول السودان من "بلد المليون ميل مربع" إلى كيانين منفصلين، وما هي الدروس المستفادة لمستقبل المنطقة. فماهي أسباب التقسيم وجذوره وعوامله؟ وماذا انجر عنه من آثار وتبعات؟ وأي تحديات تواجهها دولة السودان اليوم؟
السياق التاريخي لتقسيم السودان
الجذور الاستعمارية والحدود المصطنعة
يعود تاريخ السودان إلى حضارات قديمة مثل كوش والنوبة، حيث كان السودان جسراً ثقافيًا بين أفريقيا والعالم العربي، مع تنوع عرقي يشمل العرب، الأفارقة، والأقليات مثل النوبيين والفور والدينكا. ومع ذلك، بدأت مشكلة التقسيم مع الاستعمار البريطاني-المصري في أواخر القرن التاسع عشر. في عام 1899، أُنشِئَت إدارة السودان المشتركة بين بريطانيا ومصر، لكن السيطرة الفعلية كانت بريطانية، وكانت السياسة الاستعمارية تعتمد على "الفصل الإداري" بين الشمال والجنوب لتسهيل السيطرة. الشمال، ذو الغالبية العربية-الإسلامية، أُدار كجزء من العالم العربي، بينما الجنوب، ذو الغالبية المسيحية والحساسية، عُزل ثقافيًا وتعليميًا، مع حظر التعليم العربي والإسلامي هناك.
هذا الفصل أسَّس للانقسام الثقافي والسياسي. بعد الاستقلال في 1956، ورث السودان حدودًا مصطنعة، وأدَّى التنوُّع (أكثر من 500 قبيلة، 100 لغة) إلى صراعات مبكرة. اندلعت الحرب الأهلية الأولى (1955–1972) بسبب التمييز ضد الجنوب، وانتهت باتفاقية أديس أبابا (1972) التي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا. لكن في 1983، ألغى الرئيس جعفر نميري الاتفاقية، مما أشعل الحرب الثانية (1983–2005)، التي قتلت 2 مليون شخص وشردت 4 ملايين.
في 2005، أنهت اتفاقية السلام الشامل الحرب، وسمحت باستفتاء في 2011، حيث صوَّت 98.8% من الجنوبيين للانفصال في 9 يوليو 2011، مما أدَّى إلى قيام دولة جنوب السودان. هذا التقسيم، رغم أنه أنهى الحرب، أدَّى إلى فقدان السودان 75% من مساحته (699,000 كم²)، ومعظم احتياطيات النفط، مما عزَّز التنوُّع الجغرافي كعامل تقسيم.
الجغرافيا كعامل في التقسيم
جغرافيًا، يقع السودان في شمال شرق أفريقيا، مساحته السابقة 2.5 مليون كم²، يحده مصر شمالًا، ليبيا شمال غرب، تشاد غرب، أفريقيا الوسطى جنوب غرب، جنوب السودان جنوب، إثيوبيا وإريتريا شرقًا. التقسيم جعل الحدود الجديدة مع ثلاث دول أفريقية (كينيا، أوغندا، كونغو الديمقراطية)، مما غيَّر التوازن الجيوسياسي. الجنوب غني بالنفط (70% من احتياطيات السودان)، المياه (نهر النيل الأبيض)، والغابات، بينما الشمال يعتمد على الزراعة والمعادن. هذا التباين الجغرافي عزَّز الصراعات، حيث يسيطر الشمال على النيل، والجنوب على الموارد الطبيعية، مما أدَّى إلى نزاعات حدودية مثل هيغلِّيغ (2011).
أسباب التقسيم: التنوُّع، الاستعمار، والصراعات الداخلية
التنوُّع العرقي والثقافي
السودان ثاني أكثر الدول تنوُّعًا في أفريقيا، مع 597 قبيلة، 133 لغة، وأديان متعددة (إسلام، مسيحية، أنيمية). الشمال غالبيته عربية-إسلامية، بينما الجنوب أفريقية-مسيحية، مما أدَّى إلى صراع هوية. الاستعمار عزَّز هذا التنوُّع بسياسة "الفصل"، حيث أُدخِلَت المدارس التبشيرية في الجنوب، مما أنتج نخبة تعليمية معادية للشمال.
الاستعمار والتدخلات الخارجية
البريطانيون رسموا حدودًا تجاهلت الروابط الثقافية، ودعموا الجنوب لمواجهة المهدية (1885–1898). بعد الاستقلال، استمرت التدخلات: الولايات المتحدة والإسرائيل دعمتا الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ 1983، بينما دعمت السعودية والإمارات الشمال. اتفاقية (2005) كانت مدعومة أمريكيًا، مع ضغوط على الاستفتاء.
الصراعات الداخلية والفشل السياسي
الحكومات الشمالية (الإسلامية منذ 1989) فشلت في إدارة التنوُّع، مع قوانين الشريعة (1983) التي أثارت الجنوب. الحروب الأهلية (1955–1972، 1983–2005) قتلت ملايين، وأدَّت إلى اقتصاد مدمَّر (فقر 50% في الشمال، 80% في الجنوب).
الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
"في السودان، الموتُ لعبةٌ طفولية، وخاصةً بالنسبة للطفل."
الآثار الاقتصادية
فقد الشمال 75% من مساحته و70% من النفط (احتياطيات 5 مليار برميل)، مما أدَّى إلى انخفاض الناتج المحلي 30% (2011–2015). الجنوب يعاني من فساد (حرب أهلية 2013–الآن، 400 ألف قتيل). نزاعات النفط (أبيي) تُكلِّف 2 مليار دولار سنويًا. الجنوب أصبح أفقر (GDP للفرد 300 دولار)، مع اعتماد على المساعدات.
الآثار الاجتماعية
التقسيم عزَّز النزوح (4 ملايين لاجئ في الشمال)، والأمراض (الملاريا، الكوليرا). في الجنوب، الحرب قتلت 2.5 مليون (2005–2023). التنوُّع أصبح مصدر صراع، مع محاولات تقسيم داخلي (دارفور، النيل الأزرق).
الآثار السياسية
الشمال أصبح أكثر هشاشة (ثورة 2019، حرب 2023 بين الجيش والدعم السريع). الجنوب فشل في بناء دولة (حروب قبلية). التقسيم غيَّر التوازن الإقليمي: مصر خسرت حصة مياه النيل (55% للسودان السابق)، والقرن الأفريقي أصبح أكثر عدم استقرار.
الآفاق المستقبلية والمقاومة
التقسيم لم يحل المشكلات؛ فقد أدَّى إلى حروب داخلية (جنوب: 2013، شمال: دارفور 2003–الآن). الآفاق تشمل: تعاون اقتصادي (اتفاق النفط 2012)، لكن النزاعات الحدودية تُهدِّد. المقاومة ممكنة عبر تعزيز الوحدة الإقليمية (الاتحاد الأفريقي)، والتعليم المشترك، والدبلوماسية (مصر، إثيوبيا). الدروس: التنوُّع قوة إذا أُدار، والتقسيم يُولِّد فوضى.
خاتمة
" نريد أن نترك لأطفالنا شيئين: الجذور والأجنحة."
في المجمل، السودان بلد يتميز بالصراعات الداخلية، مع وجود حركات حرب عصابات منظمة على أسس عرقية أو غير عرقية، مستغلة غياب المنطق الجغرافي أو العرقي في الدول الموروثة من الاستعمار. تقسيم دولة السودان القيق يُمثِّل نموذجًا لكيف يُستخدم التنوُّع لتفتيت الدولة، لكن التاريخ يُظهر أن الوحدة ممكنة عبر الحوار. يجب على السودانيين إعادة بناء الهوية المشتركة لمواجهة التحديات. فماهي السبل التي يمكن اتباعها للرد على هذه التحديات وحسن التعاطي مع مخطط التقسيم والحيلولة دون التفكيك؟
كاتب فلسفي