عن التنوير الحقيقي والمزَوَّر


مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن - العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 02:54
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أجهزة الاستخبارات الإمبريالية ليس بينها وبين الاستقامة عمار. فمثلا نجدها وراء اتجاهات ظلامية إرهابية، مثلما تعين وتتلاعب بمن تَسَمُّوا بالتنويريين والليبراليين. ولما كنت قد كتبت الكثير بمواجهة الظلاميين فقد وجدت من المناسب أن أكتب القليل عن "التنويريين" المروَّج لهم في إعلام بعض النظم العربية والغرب.
أسجل أولاً أن أنصار ومقاتلي التنوير في الماضي كانوا يحترمون المؤمنين، حتى المتزمتين منهم، ويأخذونهم بالحجة العلمية المقرونة بالاحترام والتفهم واللفظ الراقي.. ربما لأنهم أكثر احترامًا ووعيًا بثقافة الشعب، وأدركوا أن مسعاهم الفكري لن ينجح بتجاهل مستوى الاستعداد الحضاري لتقبل حتى فكرة التعايش المسالم مع الأفكار المخالفة..
لكن الملاحظ في العقدين الأخيرين وبعد تفشي رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) في الغرب، أن تبلور مثقفون سعوا للشهرة والتكسب للاستفادة من استعداد الغرب لتمويل وتلميع كل من يتطاول على المعتقد الإسلامي بعلم أو غير علم، انطلاقا من فكرة "اللي تغلب به العب به".. وقد كان هذا ديدن كل أجهزة الاستخبارات الغربية الكبرى..
ففي فترة أقدم دعّم الغرب، وأبواق إعلامية له في بلداننا، النزعة العربية في مواجهة الإمبراطورية العثمانية.. وفي حالات أخرى استعانت الأجهزة الإمبريالية بالنزعات القطرية للوقوف بوجه موجة المد العروبي.. ثم استعانت بالأصولية المتحجرة في مواجهة كل من الشيوعية والقومية العربية والوطنية القطرية المستقلة.. وحدث الأخطر مع العولمة حيث تفاقمت مساندة وتمويل الاتجاهات الانقسامية العرقية والجهوية والثقافية لتفكيك الدولة الوطنية في البلدان العربية الكبرى وخصوصا تلك البلدان ذات الثروات الطبيعية والمواقع الاستراتيجية والثقل السكاني.
ولا حاجة لتأكيد أن كل تلك الاتجاهات سابقة الذكر لها جذورها ومكوناتها أصلا في واقع بلدان المنطقة، ولكن الأجهزة الاستخباراتية والسياسية والإعلامية الغربية تعرف جيدًا كيف تثير الخلافات بما يساعد في الإضعاف، وتعرف كيف تختار الأداة/ الحليف المحلي المناسب في كل بلد.. ولذا كان الاختلاف الواضح في التعامل مع كل ظرف وحالة.
وقد لاحظنا منذ فترة الاهتمام الغربي بمن أسموا أنفسهم التنويريين.. سواء بالاحتفاء والبروزة والتنجيم.. لكن لاحظنا بالمثل التوجهات الآتي رصدها فيما بعد بالنسبة للتنويريين، طبعا دون أن ننجرف لاتهامات وسخائم الظلاميين.. وكون أولئك الرموز المشهورة يتعرضون للتحقير والتهديد والتشويه وحتى الافتراء من جانب القوى التقليدية والمحافظة، فليس معنى هذا ألا ننقد عيوبهم وأخطاءهم.
أولا : نلاحظ على التنويريين أنهم يقصرون معظمم جهدهم على التهجم على الدين الإسلامي.. ونادرا جدا ما نجد تهجمًا على الدينين الآخرين رغم أن الجذور وكثير من الأسس متشابكة بين الأديان الثلاثة.. ولهذا بالطبع تبريره عندهم بأنهم لا يستهدفون الأقليات "المستضعفة"، وأنهم ينأون بأن يضاف نقدهم إلى تهجمات الظلاميين.
ثانيًا : كلما طالعت موقعا تفاعليًا للتنويريين على الشبكة العنكبوتية.. أجد أن الغالبية الساحقة من مؤيديهم ينتمون لدين آخر، فيعبرون عن فرح انتقامي غوغائي بـ "السخرية" من الدين الآخر.. فهل هذا يعد إنجازًا متحضرًا أم تأجيجًا للتشاحن الطائفي؟
ثالثًا : لا نختلف في خطورة تفشي الاتجاهات الظلامية المتسربلة بالإسلام.. ولكن من الصعب أن نقتنع بالصمت المخزي عن الصهيونية المسيحية واليهودية، وما يروج في الغرب عن الحضارة اليهودية/المسيحية في مواجهة الخطر الإسلامي.
رابعًا : هناك تعارض وفارق ضخم بين الإلحاد أو اللادينية وبين العلمانية.. فالعلمانية لا تعني الانخراط في تكذيب دين بعينه والسخرية من مقولاته ومسلماته دون أي مراعاة لفروق السياقات الزمنية والمكانية.. وإنما العلمانية تحترم المعتقدات الدينية المختلفة ولا تفرق بينها، لكن تشترط الفصل بين الدين وبين الدولة والحياة السياسية والمدرسة.. وتشترط خصوصًا أن تتكفل كل طائفة بالإنفاق على مؤسساتها وليس من ميزانية الدولة، وكذك أيضًا من التمويل الأجنبي.
خامسًا : لم يتعلم من نناقشهم هنا.. لم يتعلموا شيئًا من احتقان الجمهور العام ضد أفكارهم، فتكون النتيجة ازدياد التعصب ضد العلمانية والتنوير، وإلصاق شبهات الكفر (غير الضروري) بها، ومن ثم إشعال المزيد من نزعات الجهالة والعنصرية والتفكك المجتمعي والوطني.
سادسًا : إذا كان من الضروري للتطور: التخلص من رواسب تقليدية غائرة تعطل النمو، فلن يكون هذا بالقضاء على الدين أو تحقيره.. والتلذذ بالتمجيد الغربي لشجاعتهم وعلمهم المستلهم معظمه للأسف من كتابات مستشرقين مغرضين. وإنما يتحقق الهدف المذكور (إن وُجِد) بتطوير البنية التحتية وتنقية الثقافات الوطنية من التعصب والنزعات الاستسلامية والفوضوية، وأن تنشأ ببلداننا تنمية صناعية كبرى تقوم على قيم العقلانية واحترام العلم والعمل والوحدة الوطنية على أسس الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.