وضاع النفوذ المصري في أفريقيا


مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن - العدد: 8090 - 2024 / 9 / 4 - 09:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لم أعرّف نفسي يومًا، وعلى مدى عقود، بأنني خبير في الشأن الفلاني.. وهي حقيقة وليست تواضعًا مزعوما. فالمنخرط في الشأن العام يجب أن يلم بقدر إمكانه بجوانب من كل موضوعات السياسة التي يقترب منها.
وأصارحكم أن من بين أكثر ما أثار حنقي في ادعاء الخبرة أولئك المتعاجبون والمستفيدون والمحتكرون للحكمة في الشأن الأفريقي، والذين تلجأ إليهم الفضائيات والإعلام عامة للنعقيب على أحداث في الشأن الأفريقي. وسأضرب لكم بعض الأمثلة لمواجهات كاشفة بيني وبين أولئك الأدعياء الساعين للشهرة والمتربحين من عطايا الإعلام والسفريات.
فمثلاً منذ التسعينيات وأنا أحذر في كل مناسبة حضرتها من تفشي نظرة العداء للعرب وسط المثقفين والأكاديميين الأفارقة الذين تتلمذوا على أيدي الغرب، انطلاقًا من القول بأن شمال أفريقيا لا ينتمي إلى القارة التي يتم حصرها في "أفريقيا جنوب الصحراء" ليصبح هذا المصطلح هو المكافيء الفعلي لكلمة "أفريقيا". وقد بذلت الجامعات والمراكز البحثية والدوريات الغربية جهدًا حثيثًا لغرس هذه الرؤية، مستفيدة من الدور الحقير الذي لعبه نظام السادات في مساعدة النظم والحركات الرجعية بالقارة ضمن مخططات المخابرات الأمريكية والسعودية، الأمر الذي بدد ميراث ناصر في ذاكرة تلك الشعوب.
وجدير بالذكر أن النظام الجزائري حاول استئناف الدور الناصري لحسابه، لكن سرعان ما انكفأ هذا البلد على نفسه في عشرية التسعينيات السوداء. ثم حاول نظام القذافي القيام بذات الدور مستخدما المال بالدرجة الأولى فلم يستطع أكثر من اكتساب منتفعين بدلاً من تكوين صداقات متينة. أما المغرب فقد انحصر اهتمامه في التقرب من البلدان الفرنكفونية في غرب القارة لتوسيع نفوذه وقضم الإقليم الصحراوي، ناهيك عن كون النظام المغربي بالغ الرجعية وخدومًا لأقصى حد للمصالح الغربية.
هكذا باتت أفريقيا مرتعًا مرة أخرى للنفوذ الغربي والإسرائيلي الذي دخل بدوره في معضلة جديدة مع النفوذ الصيني الجامح، ثم الروسي والتركي وحتى الإيراني. أما النفوذ السعودي، والخليجي عامة، فهو لا يملك رؤية حضارية أكثر من بناء المساجد وتوزيع الغذاء والمصاحف. لكن نستثني من ذلك الدور الإماراتي المشبوه الذي تحركه مطامع إرباء المال والاستيلاء على الموارد الطبيعية والموانيء. وقد ارتكن الدور الإماراتي في كل حالة على شريك غربي أو حتى إسرائيل.
وإذا كانت الدبلوماسية المصرية تملك الكثير من الخبراء والخبرات في الشأن الأفريقي، فإن كل هيئاتها المعنية لا تعرف مسؤولين أو موظفين لديهم رؤية شاملة للدور المصري المفترض في القارة، ولم تتعد أن تكون مجرد هيئات بروتوكولية ومنفى فعليًا للدبلوماسيين غير الأكفاء أو المغضوب عليهم.
ورغم أن بجامعة القاهرة كلية عريقة للدراسات الأفريقية، إلا أن الأجهزة الرسمية نادرًا ما تستعين بها في التخطيط السياسي ذي الصلة. وتمتليء أرفف مكتبات الكلية بمئات الدراسات التي لا يعيرها أحد انتباهًا مناسبًا. فضلا عن كون قسمًا كبيرًا من الدراسات يتناول سفاسف قليلة الأهمية من جوانب الحياة الأفريقية. والأنكى أن معظم المصادر المعرفية لتلك الدراسات هي مصادر غربية محملة بالمضمون الاستعماري، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
وسأضرب للقاريء مواقف مررت بها شخصيًا. فحدث مثلاً أن نبهت في أكثر من مناسبة من الانفصال الحتمي لجنوب السودان، فكان البعض يرد عليّ ببيانات أو خطابات لقادة الحركة الشعبية، وكنت أرد بعبارة عُرفت بها وهي أن "جون جارنج" هو الوحيد في الحركة المؤمن بهذه الوحدة. وبالفعل حدث بعد الاستقبال الأسطوري لجارنج في الخرطوم أن تم إسقاط طائرته لتسفر الحركة عن موقفها الانفصالي الصريح.
ومثل آخر .. حينما كنت أحذر من النفوذ الإسرائيلي المتصاعد بالمساعدات الفنية والعسكرية كان هناك من يتحامق ويتهمني بـ "القومجية".. ثم لما ربطت النفوذ الإسرائيلي بمشروع سد النهضة، ومبادرة حوض النيل الرامية إلى إلغاء الحصص التاريخية من المياه وتسليعها حتى لتحصل دول المصب على المياه بالدولار. وقد رد عليّ بعض الخبراء المشاهير وقتها بأنه لا خطر على مصر بالمطلق من بناء السد وأن وزارة الري المصرية لا تجد فيه خطرًا لأن السد لتوليد الكهرباء ومن ثم لا بد من تمرير المياه لا تخزينها.
أما أكبر هجوم ناعم تعرضت له فكان حينما تحدثت كثيرًا عن الرابطة الأيديولوجية/الدينية بين الصهيونية اليهودية وصهيونية الراستفاري الإثيوبية، وحدث في ندوة حضرتها للاتحاد الأفريقي أن حذرني أكاديمي مرموق بأنني أغضب الإثيوبيين بهذا الطرح، رغم أن قسمًا كبيرًا من الإثيوبيين أنفسهم يفتخرون بالانتساب إلى الأمة اليهودية، وأن هذا من أهم الأسباب العقيدية الكارهة لمصر بالذات.
ومثال آخر.. بالغ بعض الخبراء ومازالوا في إمكانات الاتحاد الأفريقي، رغم أنه كيان منقول بالمسطرة تقريبًا من أفكار ومواثيق الاتحاد الأوربي، ومن ثم فهو غير ملائم لطبيعة النظم في الدول الأفريقية. فتصور بعض الخبراء أن الاتحاد الأفريقي (بما فيه مجلس الأمن والسلم) يمكن أن يحل مشكلة السد الإثيوبي، فلم نجد منه سوى جهود شكلية وربما انحيازًا ضمنيًا لإثيوبيا مقر الاتحاد، والمنتمية لجنوب الصحراء.
أما المشكلة الكبرى فتمثلت حتى سنتين في الصمت عن الدور الإماراتي، والسعودي بدرجة أقل، في إنشاء السد الإثيوبي ومشروعاته التكميلية، وربما أيضا مخطط إنشاء المزيد من السدود في المجرى قبله، وفي دول أخرى للمنبع.
قارن هذا بشعبية عبد الناصر الطاغية في أفريقيا، ودور شركة النصر للتصدير والاستيراد المحتضرة الآن، ناهيك عن المساعدات الفنية والطبية والبعثات التعليمية.. قارنه بالتواجد الشكلي للمسؤولين المصريين في التجمعات الأفريقية.
لقد كانت نقطة البداية في هذا التردي هي اعتراف مصر بإسرائيل، وبعده توالى اعتراف كل الدول الأفريقية بها، خاصة بعد أن ألغت الأمم المتحدة عام 1975 اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.