انصياع الجبناء أم دفاع عن الوجود


مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن - العدد: 8189 - 2024 / 12 / 12 - 19:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا أظن أنني خبرت في حياتي فترة أقبح مما نعيش. فنحن نواجه حالة عبثية من الانكسار والخذلان والجبن والبلاهة، سببها وفاعلها الأساسي ذلك الصراع الحافل بالأخطار في ما يسمى النظام الدولي، والذي يمر بحالة من اللانظام، بما في ذلك الضرب المتبادل "تحت الحزام" باستخدام الاحتراب المباشر، وأنشطة الاستخبارات الدموية، وتوظيف العصابات، والهيجان الإعلامي، ووضع الشعوب أمام خيارات صعبة كلها مدمرة.
ولعل مظاهر الرقص والأهازيج في الميادين بسورية ابتهاجًا بسقوط نظام خائر تكشف، ضمن ما تكشف، عن حالة من الشوق الحارق لتغيير أوضاع ظلت قامعة لعدة عقود، دون التمعن مطلقًا في طبيعة المستولين الجدد على السلطة، أو إدارة أمريكا للموقف كله بالتعاون مع "إبداعات" تركية وصهيونية. وهو ما يكشف في الوقت نفسه عن حالة شديدة الزراية في الوعي الوطني والثقافة السياسية.
ومن المؤسف ملاحظة حالة الهروب المهينة التي اجترأ عليها النظام السوري وجنرالاته ذوو النياشين الهزلية، بل إنهم حتى لم يسمحوا للحلفاء (روسيا وإيران وحزب الله والحشد الشعبي...) بمد يد العون الحقيقي، والذي كان يتطلب أولاً صمودًا وليس فرارًا مخزيًا.
عموما لست من هواة التطفل على الشعب السوري وخياراته.. ومن ثم سأركز في السطور التالية على وضع نفسي موضع المخططين الاستراتيجيين للدولة المصرية، بافتراض وجودهم، والذين أتوقع منهم التقدير الاستراتيجي السليم للموقف الكابي الحالي في نطاق أمنها القومي، وبغض النظر عن المصالح المباشرة للحكومة والنظام.
ومع ذلك فمن المسلم به أن كل نظام سياسي، وبحكم طبيعته الطبقية ومصالحه الذاتية وارتباطاته، عادة ما يفتئت على مقدرات والعقل الاستراتيجي المفترض للدولة والأمة، ويغلّب ويفرض خياراته على أي كيان أعلى في الدولة يحاول التفكير والاجتهاد في المصالح الأعم للدولة، في الحدود الممكنة بالطبع.
وسأحاول هنا الإسهام ببعض الملاحظات الجديرة بتفكير كل القوى الحية الفاعلة في الدولة/الأمة المصرية:
(1) إذا كان النظام المصري حريصًا طوال العقد الماضي على النأي نسبيًا بالنفس عن الصراعات المسلحة بالمنطقة، مع الاضطرار إلى مسايرة دول خليجية ساندت بقاءه عند حدود الأمان الدنيا.. إلا أنه قد ابتلع في صمت، وربما ساير دون قلب، مشروعات التطبيع مع الكيان الصهيوني، المطلوبة أمريكيًا، والمحبوبة في العلن، من جانب حكام خليجيين في الإمارات والبحرين أساسًا، فإن العقل المخطط ليس من البلاهة حتى لا يدرك خطر هذا على مصر، خاصة مع الأدوار الإماراتية المشبوهة في السودان وإثيوبيا وليبيا واليمن. ومما زاد طين العمالة الخليجية بِلّةً ذلك الدور القطري المفضوح في إسقاط دمشق. أضف إلى ذلك الخسائر الاقتصادية الكبيرة الناتجة عن العمليات اليمنية في البحر الأحمر.
(2) تعتبر تصفية الجيش السوري خسارة فادحة جدا للأمن القومي المصري (بغض النظر عن أدواره السابقة في الداخل السوري)، وهو الأمر الذي يتطلب إجراء حسابات جديدة لأي مواجهات متوقعة.
(3) لا شك أن قضم إسرائيل وتركيا لأجزاء استراتيجية من الجغرافيا السورية سوف يزيد شهيتهما، وغيرهما، للطمع في تكرار ما حدث في مناطق أخرى من العالم العربي، وليست مصر نفسها مستبعدة من هذه الأطماع، وهو ما يتطلب تدابير قوية جدا في الجنوب والغرب والبحرين المتوسط والأحمر، ناهيك عن سيناء.
(4) لم يعد من المستساغ، في ضوء الأخطار الداهمة، الاعتماد التسليحي على الغرب الذي يُتوقع أن يساند أية تدخلات خارجية على المصالح والمواقع الاستراتيجية المصرية. ومن هنا أهمية زيادة تنويع السلاح من المصادر الشرقية، فضلاً عن التصنيع المحلي للسلاح والذخائر.
(5) تحتاج حماية سيناء يقظة وحشدًا كبيرين، والإسراع في تشجيع توطين المصريين من سكان الوادي فيها، بما يجعل التواجد المدني عائقًا تعطيليًا (بالمعنى العسكري والاستراتيجي) أمام أية حماقات إرهابية أو خارجية.
(6) تحتاج الدولة المصرية، أكثر من أي وقت مضى، تحقيق انفتاح ديمقراطي ومدني معقولين، مع الحذر الكبير من استغلاله من جانب جماعة الإخوان والسلفيين والليبراليين الموالين للغرب. وأخص بالذكر جماعة الإخوان التي تحلم باستعادة أنفاسها وتحريك خلاياها النائمة عبر الترويج "للانتصار" في سورية.
(7) من المتوقع خلال شهور أن تندلع صراعات بين أطياف الجماعات الإرهابية لصعوبة تقاسم السلطة والمكاسب بينهم، لأنها اعتادت على حسم الخلافات بالسلاح والترهيب، بل من الممكن أن تحدث مذابح بينية تمتد إلى ملايين اللاجئين السوريين بالخارج.
(8) لم يحدث على طول تاريخ إسرائيل أن مرت بحالة زهو وانتعاش كما هي عليه الآن، وقد يغريها هذا باقتناص اللحظة التاريخية الفريدة للمضي قدمًا، خاصة في عهد ترامب، لترسيخ حقيقة إسرائيل الكبرى، والخطوة المقبلة المنتظرة هي تفريغ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وتهجير سكانها إلى الأردن بما يؤدي إلى احتمال وقوع اقتتال أهلي فيه وليس مواجهة مع الجيش الأردني. كما قد تغامر إسرائيل بالتوجه نحو العراق لتحقيق "اتصال" أرضي مع الجيش الإيراني.. ولكن هذه حماقة لا يمكن الغلو فيها بدون قرار أمريكي. وأظن أن الحلقة شبه الأخيرة في التخطيط الصهيوني ستكون الضغط الأكثر وحشية على مواطني غزة، مع فتح ثغرة في الحدود مع سيناء لإجبار الجائعين وساكني العراء على إلقاء العبء على مصر، والتي لا يمكنها الاشتباك مع الفارين إليها، ومن ثم نقل معركة إسرائيل معهم إلى الأراضي المصرية. وهو خطر داهم، وحقيقي، يتطلب حشد مزيد من القوات والأسلحة الاستراتيجية المصرية إلى سيناء، والتفكير جديًا في تعبئة مدنية فعالة هناك. بل إن الحرب الكبرى لن تكون محل استبعاد.
(9) يجب أن يكون لدى مصر تدابير احتياطية قوية إزاء مغامرات صهيونية وتركية للتغول على ثروات مصر في البحر المتوسط.
(10) من المتوقع بعد تطورات الوضع في سورية، خصوصًا في ظل إدارة ترامب، ممارسة ضغط هائل على السعودية للتطبيع، وإقامة مناطق للتعاون الاقتصادي المشترك مع إسرائيل، إلى جانب مد أنابيب الغاز القطري إلى سورية وإسرائيل، فضلًا عن الممر الهندي المقترح بدلاً من طريق الحرير الصيني. ناهيك عن إحياء التفكير في قناة بن جوريون لضرب قناة السويس. ولا يمكن إيقاف هذا كله دون مواجهة صريحة للخطط الإماراتية/ الإسرائيلية/ الأمريكية.
(11) لا شك أن حزب الله قد تلقى ضربات مهلكة نسبيًا، وهو ما يعني حشره في زاوية ستجبره على انتهاج أساليب قتالية جديدة، قد تدخله في حالة اقتتال أهلي ربما يقود لبنان إلى حالة من الفوضى، خصوصًا وأن القوى اللبنانية الأخرى المناوئة له ستزداد جرأة في عمالتها وتهادنها مع العدو الإسرائيلي.
(12) من المؤكد أنه لن يهدأ لإسرائيل بال، ومن ورائها أمريكا، إلا بتحجيم الجيش المصري، خاصة بعد التنويع النسبي لتسليحه. وقد تكون الخطوة الأولى في ذلك زيادة الضغوط المالية على النظام المصري بما يجبره على خفض خطط التسليح الطموحة، وخاصة مع الشرق، وهو ما يتطلب جسارة صعبة في مواجهة الضغوط.
(13) تتلمظ إسرائيل بقوة إلى إفشال قناة السويس، وربما أيضًا محطة الضبعة النووية. وقد بات من الجلي أن حلم إسرائيل الكبرى يدغدغ القادة الصهاينة أكثر من أي وقت مضى. وهو ما يتطلب إعادة صياغة الإعلام المصري بعيدًا عن أوهام السلام والتعاون الاقتصادي.
(14) لا بد أن يعي متقلدو السلطة الحاليون في مصر أن المستقبل ملغوم باحتمالات الصدام، خاصة وأن أمريكا ممتعضة جدا من انفتاح مصر الخجول على مجموعة البريكس. ولا يمكن مواجهة الأخطار سوى بتصعيد العلاقات مع الصين وروسيا إلى مستويات فاعلة ومعقولة.
(15) ليس النظام وحده (رغم كل مثالبه) هو المهدد بانهيارات كبيرة، فيجب الوعي بأن الدولة المصرية كلها في محل خطر. خصوصًا وأن التطورات الأخيرة، في ظل التهجم الأمريكي والتوحش الإسرائيلي والخذلان العربي، تحتاج بشدة إلى انتهاج سياسات جديدة تنبذ المبالغة في الاستدانة والمشاريع غير الضرورية واعتماد الحكومة على الجباية المفرطة. كما يجب فتح المجال العام لكل الأطياف الوطنية دون جماعة الإخوان وأترابهم من الظلاميين.
(16) يجب على الحكام أن يعوا أن العقول والقوى الوطنية الناضجة في مصر كثيرة جدًا، ولكن انكفاء النظام على رجاله فقط سوف يوصله إلى حالة من الضعف قد تقارب ما حدث للدولة السورية بأكملها وليس النظام فقط.