العلمانية ازاء الفدرالية بلبنان
عصام شكري
الحوار المتمدن
-
العدد: 8151 - 2024 / 11 / 4 - 22:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لبنان يتعرض إلى هجوم عسكري ضخم من قبل إسرائيل والتي تستهدف البنية الفوقية والتحتية والحربية لحزب الله. لقد تبين ان حزب الله لا يخزن الأسلحة في المناطق ذات الغالبية الشيعية والتي يسمونها بسخافة "بيئته الحاضنة" (كما يسمون مدينة الثورة او كربلاء او النجف بيئة الميليشيات الشيعية اللصوصية الحاضنة في العراق او مدينة الموصل البيئة الحاضنة للإسلام السياسي السني، وهلمجرا)، خزن أسلحته في جميع المناطق بلبنان بما فيها المناطق التي هي تقليديا مناطق ذات غالبية مسيحية.
ان قصف بعض المناطق في عاليه او جبل لبنان او حتى قرى مسيحية نائية يثبت من خلال تصريحات المسؤولين المحليين في تلك المناطق ان حزب الله خزن الأسلحة والعتاد والمحروقات بين المدنيين وتحت المباني السكنية في مناطق بعيدة عن قرى الجنوب او الضاحية او بعلبك.
واليوم وبعد هذا الهجوم العنيف من إسرائيل، يشهد لبنان اصطفافا طائفيا على الصعيد السياسي (اي السلطة البرجوازية اللبنانية - جماعة كلن يعني كلن - كما سمتها ثورة تشرين)، في حين انه يواجهه حالة تعاطف انساني واسع (علماني مواطني) بين جماهير تلك المناطق التي استضافت مئات الالاف من المهجرين والمنكوبين والفاقدين لبيوتهم من الجنوب والضاحية او بعلبك والتي وجدوا العون والتعاضد والإخوة العميقة بين كل الجماهير دون اي تمييز ديني او طائفي.
هدفي من هذه المقدمة هو التوجه لنقد الطروحات المذهبية للبرجوازية اللبنانية التي كانت توصف تاريخيا باليمينية (اي التحالف المسيحي منذ نشوب الحرب اللبنانية) وخاصة اثر اغتيال رئيس الجمهورية المعادي للوجود الفلسطيني بلبنان بشير الجميل والمواجهات العسكرية مع منظمة التحرير وما يسمى القوى الوطنية المتحالفة معها وصولا إلى طرد عرفات من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي في 1982 لبيروت ولجوءه لتونس.
ان احد اهم الطروحات التي اجدها تدور (recycled) من قبل هذه القوى المسيحية اليوم (ولا أساند اليوم مطلقا طروحات اليسار الانتي إمبريالي اللبناني التي تتماهى بشكل مخزي مع حزب الله و"المقاومة")، هو إنشاء دولة فدرالية بلبنان تحكم فيه كل طائفة نفسها بشكل مستقل ولها اجهزة قضاء وتربية وتعليم وقوانين وتشريعات مستقلة عن الطوائف الأخرى.
ولأن إليسار عاجز كليا عن الجواب على الأوضاع الراهنة خارج حدود الكلام عن الصهيونية والإمبريالية والمخططات التوسعية وتكرار كلام نعيم قاسم وعلي خامنئي، فاني أسعى لنقد التوجه الفدرالي باعتباره توجها خطيرا على لبنان وجماهيره المتمدنة.
يجب ان تدرك جماهير لبنان ان الحل الفدرالي لن يصب في مصلحتهم. وان بدا ان الأزمة اليوم قد اصبحت عصية على الحل بشكل كارثي في ظل اصرار حزب الله على المكابرة، بعد ان دمر كل شي لديه، فان المعنى العملي للفدرالية اليوم بنظري هو منح صك للقوى الإسلامية السياسية المجرمة في لبنان سواء السنية او الشيعية بان تنفرد بجماهيرها وتبعد أذاها عن المجتمعات المسيحية والدرزية.
وإن بدأ هذا الحل منطقيا و"إنقاذيا" في ظاهره الخادع، فان معناه العملي هو تسليم رقاب الملايين من البشر بيد هذه القوى الإسلامية الأرهابية واجيال جديدة اخرى تتعرض لغسيل الدماغ الحقير حول "رمي اليهود في البحر" و "كنتم خير أمة اخرجت للناس". وتسليم مصاير ملايين من النساء إلى أيادي حفنة من الوحوش الإسلاميين. ان ذلك سيطيح بأكثر سمة للبنان وهو كونه منارة للعلمانية والحضارة وحرية الصحافة والتعبير والمواطنة وحرية المرأة وكل أشكال النشاطات المدنية الإنسانية والتنويرية. ان تلك المكاسب نشأت بظروف تاريخيّة من خلال تبني البرجوازية المسيحية تاريخيا للعلمانية والغربنة westernisation .
ان الفدرالية في حال تطبيقها ستضر ايضا بالجماهير التي تدين بالمسيحية في لبنان. لان أهمية ودور هذه الجماهير المتنورة سيصبح معدوما في ظل هيمنة قوى الدين المسيحي والكنيسة، وبعبارة اخرى ستنتفي سمتها العلمانية في لبنان والتي تشع إلى كل بقعة مظلمة خنقها الدين الإسلامي في الشرق الأوسط وتغرق داخل تحالف الميليشيات والأحزاب المسيحية مع الكنيسة وقوى الرجعية.
ان الحل بعد تفكيك سرطان حزب الله هو تبني الدولة العلمانية والمواطنة المتساوية وليس اقتراح الفدرالية في ظل القوى الدينية (واكرر ان البرجوازية المسيحية كلها دينية ومتحالفة مع قوى الكنيسة) على ضفتي المجتمع . وحتى لو تم تفضيل حل الدولة الفدرالية، فان ذلك يمكن فقط ان يكون انسانيا وتقدميا بظل دولة علمانية كشرط يجب توفره، دولة تعامل مواطنيها عل بشكل متساوي وتوفر الحقوق المتساوية للنساء مع الرجال وتعلمن secularise التعليم على كافة الأراضي اللبنانية وتنشر مفاهيم المواطنة وعصر التنوير. العلمانية ستلغي رسميا توصيف جماهير بلبنان بأوصاف الشيعي والسني والمسيحي والدرزي والماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي وتستبدلها، كما فرنسا (اليس كذلك؟ ام ان لبنان اقل من فرنسا؟) بالمواطنين.
ان اي حديث عن إرجاع دور الدولة في ظل نفس الاحتقان والتقسيم الديني، كما يصرح بعض النواب المستقلين حاليا، لن يكون برأيي سوى اوهام او اضغاث أحلام. دون قلب هذه السلطة وإنشاء دولة علمانية لا دينية ولا قومية بلبنان، فلن يمكن تجنب الكوارث الحاصلة اليوم وهذا التشرذم والاحتقان والتمترس الديني والطائفي. وليكن بعدها طرح خيار الفدرالية على الجماهير كما حاصل في كندا مثلا.
جماهير لبنان المتمدنة تستحق افضل من هولاء النفايات على ضفتي الصراع. جماهير لبنان تستحق اليوم، اكثر من اي يوم مضى، الدولة العلمانية اللادينية واللاقومية.