وداوني بالتي كانت هي الداءُ
عصام شكري
الحوار المتمدن
-
العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 22:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من يعرف تاريخ الحركة الاعتراضية على التمييز، يعرف ان المعترض، يستخدم، في أحيان كثيرة، نفس أسلحة المعتدي، بقلبها ضده. لقد فعل السود، على سبيل المثال لا الحصر ذلك بامريكا ايام الفصل العنصري المشين، حين استخدموا التخويف والمغالاة في إظهار "عدوانيتهم واجراميتهم وشرانيتهم" كسلاح مستل من نفس التعاليم العنصرية للكوكلاكس كلان وبقية الحركات المدعومة من الكنيسة ضد السود ووصفهم بالبربريين والمتخلفين والمجرمين، وقلبه ضدهم. كان السود يتصرفون تماما على عكس ما نظر له المهاتما غاندي في الهند، بل استخدموا، وطبعا بدعم المناضلين في حركة الحقوق المدنية الامريكية، نفس الشرانية التي ادعى البيض انهم يحملوها جينيا، وصاروا يتباهون بها على الملأ متظاهرين انهم مرعبين وشرانيين، بل ويمثلون بأياديهم العارية، كما لو انهم يحملون مسدسات يوجّهونها على المجتمع، لتخويفه!
ان حركة الاعتراض العارية ضد عبودية المرأة اليوم تنتمي إلى نفس هذا النهج. فهي تستخدم جسد المرأة، المحرم من قبل الموسسة الدينية الذكورية اليمينية الحقيرة، كسلاح تستغله من نفس ترسانة العدو، اي من قلب فلسفته (جسد المرأة تابو محرم ويثير الشهوات ويودي إلى الرذيلة، الخ الخ - بسمته رمزا لشرف الرجل في العائلة والعشيرة والمجتمع والله والكون..)، تستله من يد هذه البرجوازية الذكورية التي تعد على الأصابع، تقلبه 180 درجة، وتسلمه سلاحا بيد النساء! اي ابداع هذا؟ واي ذكاء!؟.
جسد المرأة الذي يقمع ويجعل منه تهمة للعار والسقوط الأخلاقي والدونية وانتهاك الكرامة كما يحصل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبقية الدول المحكومة بحفنة من قطاع الطرق الإسلاميين، بل وحتى في الغرب، مثلا تذكرون اقتحام منظمة فيمن النسوية جلسة حوار يقيمها "البروفسور" الإسلامي المتهم الان باغتصاب عشرات الفتيات بفرنسا ويواجه المحاكمات المشينة، طارق علي، لفتيات حشرن العار بفهمه فقط من خلال اجسادهن العارية، فان هذا الشكل النضالي الاجتماعي يجعل حركة العري سلاحا ضد نفس جمهورية الدم الإسلامية الإيرانية في قلب طهران.
وحين كانت بغداد عاصمة الثقافة العالمية ومنارة العلم والتنوير والشعر والأدب والعمارة، استخدم الشاعر "الداعر" العظيم أبي نواس التغزل بالخمر والمثلية الجنسية كأقوى شكل من أشكال الاعتراض الاجتماعي (لا الأيديولوجي كما يفعل الرفاق المتنورين من أعداء ناتانياهو الان)، حين سحب سلاح الخمر واللواط من يد البلاط العباسي الذي يحفه رجال الدين المرتزقة، وقلبه بالضبط 180 درجة، وسلمه بيد الجماهير المحرومة لتقاتل به نفس هذه الطبقة المتسلطة فاحشة الثراء، في أشهر أبياته الشعرية (بل اكاد اقول في الشعر العربي على الإطلاق) حين قال:
دع عنـك لومـي فـإن الـلـوم إغــراءُ - وداونـــي بـالـتـي كــانــت هــــي الــــداءُ
صفـراء لا تـنـزل الأحــزان ساحتـهـا - لــــو مـسـهــا حــجــرٌ مـسـتــهُ ســـــراءُ
و"الصفراء" هي الويسكي العباسي الفاخر الذي يقول عنه ببلاغة عجيبة إنه إذا مست حتى الحجر، لشعر هذا الحجر بالسعادة!.
وبدوري كمحب للويسكي السكوتلندي البرونزي و "الكفيل" العراقي عديم اللون، وبعد مرور حوالي 1224 سنة على أبياته العصماء تلك، أوجه الشكر والتقدير لهذا الشاعر الاحوازي- البغدادي الكبير أبي نواس، لا لانه شاعر مفوه، بل لانه لم يكن معاديا للامبريالية الرومانية، بل وقف ضد برجوازية بلاده العباسية اللصوصية الفاسدة (طبعا استخدم وصف البرجوازية مجازا لان البرجوازية طبقة نشأت في اوربا قبل بضعة ميات من السنين فقط، ولكن لأفهم من لا يريد ان يفهم) واستخدمَ، بدل اللت والعجن والتذاكي الفكري الانتي إمبريالي البرجوازي الصغير الدارج يوميا بين اليسار الرجعي لستر جبنه عن المواجهة مع اعداء الجماهير، نفس السلاح القمعي للسلطة العباسية الفاسدة حتى النخاع من الغزو واللصوصية، وقلبها ضدهم، ثم تسليمها سلاح ماض ٍ بيد الجماهير المقموعة!
مرحى أبي نواس فإنك في 800 م، اكثر ابداعاً وجرأة وفصاحة من جعجعات المناضلين النظرية ضد الصهيونية والإمبريالية والاستعمار و "النيوليبرالية" من مكاتبهم الدافئة شتاء 2024
———
احيل القراء الى سكتش للأديب اللبناني الكبير جبران خليل جبران تحية منه للشاعر الاحوازي - العراقي "الداعر" ابي نؤاس - رسمها عام 1916 م.