الأنف .. قصة قصيرة
نوال السعداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7688 - 2023 / 7 / 30 - 22:17
المحور:
الادب والفن
الأنف ... قصة قصيرة
-------------------------------------
اذا كان واقفا على قدميه ، فلماذا لا تكون قامته بطولها المعهود، ولماذا لا تكون أعضاء جسمه متراصة بعضها فوق البعض ، بالترتيب القديم .. الرأس فوق ومن تحتها الرقبة ، فالصدر فالبطن فالساقان . والقدمان أليستا هما اللتين ترتكزان على الأرض ؟..
يبدو أن هذا ليس هو ما يحدث.. انه واقف. هذا شيء يدركه منذ وصل الى هذا المكان. لكنه ليس واقفا على قدميه ، وانما على شيء مفلطح طرى له طراوة بطنه. أيكون نائما؟ . ولكنه يرتدى البدلة والحذاء والكرافتة. الكرافتة تلتف حول رقبته باحكام وربطتها تحت ذقنه ، مقوسة ومبرومة باتقان. أجل كرافتة محكمة حول الرقبة. كان هذا هو شرط الدخول الى المكان.
ما العلاقة بين شريط طويل يغطى الرقبة ، وبين الاحترام ؟. ولكن هناك أمكنة أكثر احتراما من الرقبة. وكان هو يحب رقبته عارية ، وخاصة ذلك الغضروف المدبب " تفاحة ادم " دليل الرجولة الذي لا يقبل الشك. لكن تأتى أوقات لا يحتاج المرء فيها الى دليل الرجولة ، أو الرجولة نفسها . ثم ما علاقة غضروف مدبب فى الرقبة بالرجولة ؟. هذا ما لا يستطيع أن يفهمه.
لكن الأشياء تبدو أكثر وضوحا. انها ليست أشياء ولكنها شيء واحد .. شيء واحد ابتلع كل الأشياء وأصبح ضخما... أكثر ضخامة من أي شيء ، رآه فى حياته. أكثر ضخامة من الهرم الأكبر. حين وقف أمام الهرم ، كان يستطيع أن يرفع رأسه ويرى قمته، أما الآن فهو لا يستطيع أن يرى القمة، وربما لا يستطيع أن يرفع رأسه.. ان رأسه ليس في ذلك الوضع الرأسى المألوف ، الذ يستطيع منه أن يحركه بسهولة ويرفعه. رأسه في وضع أفقى غريب، يتساوى فى ارتفاعه عن الأرض ، مع رقبته وصدره وبطنه ومؤخرته. كأنه منبطح فوق بطنه على الأرض ، أو على أقل تقدير نائم على بطنه.
لكنه واقف، اذا كان الوقوف يعنى الارتكاز على القدمين. انه مرتكز بقدميه على الأرض، هذا شيء مؤكد ، أو يصبح مؤكدا الآن، والشيء الطرى المفلطح ليس بطنه بأدنى شك، فهو يدوس عليه، يدوس عليه بكل ثقله ، حتى يكاد يغوص فيه. قد يكون الغوص هو السبب في ذلك القصر الشديد ، الذي أصاب قامته ، فأصبح قزما ، لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض.
ربما هو فخ نُصب له. أى شيء يمكن أن يكون فخا في هذه الأوقات.. وهو بطبيعته حذر شكاك ، يرتاب في كل شيء ، ولكن أحيانا ما يخطىء ويثق .. ليست ثقة تماما ، ولكنها ثقة متشككة، فالأشياء لا تبدو هى الأشياء، والكلمات لا تبدو هي الكلمات، بل هو أيضا لا يبدو أنه هو . كان فارع الطول ، اذا ما وقف على قدميه ارتفع رأسه فوق رقبته ، واستطاع أن يطل بعينيه الى فوق.
لكن عينيه لا تستطيعان رؤية ما هو فوق، فالبناء ضخم، أضخم من الأهرامات ، لو أنها تراصت بعضها فوق البعض ، وأصبحت هرما واحدا ، قمته أعلى من قدرة البصر، وجسمه أكبر من حدود الحواس الخمس. بناء ضخم يحجب من خلفه السماء والشمس ، ويرسم ظله الأسود الكثيف ، فوق الأرض وفوق البيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام.
فخ لا ريب فيه ، وعليه أن يتملص. لاتزال قدماه رغم كل شيء ، قادرتين على الحركة. حركة القدمين تصبح احيانا معجزة. يرفع قدما ويخفض القدم الأخرى ، وهكذا يتحرك. لا يعرف الى أين يهرب. ليس مهما أن يعرف. انه قادر على التحرك. هذه القدرة فى حد ذاتها شيء خارق. انه قزم ، لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض والبناء الضخم شامخ في السماء ، لكنه يستطيع أن يتحرك ، أما البناء فلا يستطيع.
مقارنة تنطوى على خبث. الخبث أيضا قدرة خارقة. انه ليس كحركة القدمين، ولكنه حركة داخل الرأس. ربما حركة جسدية أيضا ، ولكنه حركة على أي حال. انه قدرة بغير شك. وهو يفتش عن قدراته. يبحث داخل جسمه الصغير عن كل أسلحته الخفية. أجل الخفية، فكل شيء يجب أن يعمل في الخفاء ، في هذه الأوقات، وبالذات حين يواجه المرء بمثل هذا الشيء الضخم. انه بناء، وليس الا بناء حجريا عاجزا عن الحركة، ولكنه ضخم. ضخامة غريبة. ضخامة تملأ المساحة بين الأرض والسماء، ضخامة تبدو من كبرها ، ممتدة بين السماء والأرض ، فكأنما هي شيء متحرك ، مع أنها جماد ثابت كالكرة الارضية ، ثابتة ومتحركة في الوقت نفسه.
وارتعدت قدماه. انه حذر وشكاك ، لكنه ليس جبانا ، الحذر شيء والجبن شيء آخر. لا يذكر أنه خاف مرة من أحد. كان احساسه بنفسه ، يفوق احساسه بالآخرين. مجرد احساس ، أو مجرد وهم. ولكن ما هو الانسان ؟ . الانسان هو ما يتوهمه فى نفسه. وكان يتوهم أنه أقدر من الآخرين ، فاصبح أقدر منهم . وأصبح جسمه أقدر على التهام الأكل.. وفى كل مرة حين يجلس الى المائدة ، ويحس ببطنه يعلو طربا فوق فخذيه.
يقول لنفسه سأقلل من الطعام، ثم يأكل أكثر من أى مرة سابقة.
لو أكل أقل ، ربما كان أكثر قدرة على الحركة .. ربما كان أخف وزنا ... ربما كانت مطالبه أقل. لكن مطالبه كانت تزداد يوما بعد يوم. لیست مطالبه وحده ، وانما مطالب زوجته ومطالب أولاده، ومعارفه وأصدقائه. لا أحد في هذه الأوقات بغير مطالب، وعليه أن يسد أفواها كثيرة. عليه أن يدفع مقابل الوهم ، بأنه أقدر من الآخرين... عليه أن يدفع مقابل أى شيء ، وان كان مجرد فم يغلق.
وتحسس فمه. شفتاه موجودتان ، و قادرتان على الانفتاح والانغلاق . وهذا صوت يخرج يشبه صوته. انه صوته بالفعل. النبرة المعهودة والكلمات نفسها. ان مجرد النطق معجزة في بعض الأوقات. النطق قدرة خارقة فى حد ذاتها. انه قزم ، لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض ، والبناء ضخم شامخ ، لكنه يستطيع اأن ينطق . أما البناء فلا .
على أن هذا أيضا سلاح قديم أبلاه الزمن.. فهذا صوت أعلى من صوته، ونبرته أكبر وأضخم... تكاد تصم أذنيه الصغيرتين... قد لا يكون صوتا بشريا تماما، والكلمات قد لا تكون منطوقة بالطريقة نفسها التي ينطق هو بها، ولكن هل من الضرورى أن يكون كل شيء بشريا تماما ؟ . هل من الضروري أن يكون كل شيء مفعولا ، بالطريقة التي يفعلها هو؟ . لماذا يحكم دائما على الأشياء بجسده ؟.
ارتعدت قدماه أكثر. هذا البناء الحجرى ، قادر على اصدار أصواتا مسموعة في كل أنحاء السماء والأرض... ليست مسموعة فحسب ، ولكنها رنانة ضخمة تبتلع فى جوفها صوته ، فلا يسمعه أحد. وهذا البناء الحجرى ، قادر أيضا على التحرك، ليست حركة صغيرة كحركة قدم وراء القدم الأخرى ، ولكنها حركة ضخمة جبارة تهز الأرض كزلزال ، وتبتلع في جوفها حركته فلا يلحظه أحد. لا أحد يسمعه ، ولا أحد يلحظه ، فماذا يدل على أنه موجود ؟ . ليس هناك أي دليل.
تصبب العرق من كل جسمه ، غزيرا لزجا وله رائحة. لأول مرة في حياته يشم رائحة عرقه... الرائحة نفسها التى كان يتأفف منها ، كلما اشتد اقترابه من الآخرين. لو كان ميتا ، لفقد قدرته على الشم. انه موجود اذن... وتشبثت أصابعه بأنفه... بهذا الدليل الوحيد على أنه لم يمت. لم يكن يهتم كثيرا بأنفه، فالأنف لم يكن فى نظره عضوا مهما. بعض الناس قطعت أنوفهم وعاشوا ، بعض الناس دفتوا أنوفهم في التراب ، وبقيت أجسامهم تعيش وترفل في النعيم.
وارتجفت أصابعه فوق أنفه. أنفه أيضا لم يكن مائلا إلى أعلى ، في ذلك الوضع الطبيعى المألوف... كان مائلا إلى أسفل، وأرنبة أنفه الرفيعة المدببة ، مرتكزة على الأرض ، على حين كانت قدماه معلقتين في الهواء. كيف استطاع أن يقف على أرنبة أنفه ؟؟. وكيف استطاعت أرنبه الرفيعة المدببة ، أن تحمل جسده ؟ .
قد تكون صلاة... وربما هو نسى حركات الصلاة... أربعون سنة مضت ، منذ كان يصلى ... كان طفلا صغيرا ، وكان هناك شيء اسمه الايمان... ولكن ماذا يكون الآن ... هذا البناء الحجري الشامخ في السماء ، وظله الكثيف الأسود ، مرسوم فوق الأرض والبيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام.
أيرجع الزمن الى الوراء ، ويعود يعبد الأوثان ؟.
فخ لاشك وقع فيه، ونفخ من الغيظ ، فدخلت ذرات التراب الى أنفه. وحاول أن يعطس ، أو لعله عطس فعلا ، فلكزه أحد في جنبه، لم يكن يدرى حتى تلك اللحظة ، أن معه آخرين... لكنه استطاع أن يلحظ بطرف عينه ، صفا طويلا من الأنوف أرنبتها الرفيعة المدببة ، مرتكزة على الأرض ، على حين بقيت الأقدام معلقة في الهواء..
---------------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " وكانت هى الأضعف " 1958
------------------------------------------------------------