حينما أكون تافهة ..... قصة قصيرة
نوال السعداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7535 - 2023 / 2 / 27 - 00:29
المحور:
الادب والفن
حينما أكون تافهة
---------------------------
جلست على المقعد الخشبي المؤلم ، وأسندت ذراعي التي تحمل رأسي على مكتبى، وأخذت أفكر رغم أنفي .. ورغم أنني عاهدت نفسى على ألا أفكر، وأن أشتغل فى هذه الوظيفة كما يشتغل الناس، لكنني في هذه اللحظة شعرت بالعجز الكامل عن مقاومة التفكير، فالأشياء التي تعيش داخل رأسى نصفين.
واستسلمت في ضعف لأن أفكر، فوضعت الملف الغليظ في درج المكتب وأغلقت القلم الحبر ووضعته فى حقيبتي، وأعطيت ظهري للرجل الذي يجلس بالقرب مِنى ، لأحجب عن عينى رأسه الغليظ ، ولأبعد أذني عن صوته الأجش.
وأخذت أفكارى تتقاذفنى بسرعة هائلة ، وأنا بينها أدور وألف ، كأنني داخل تروس ساقية تدور وتئن وتزن.
وسمعت الأشياء التى تعيش فى رأسى تدب من فوقى وتقول : " ما هذا الذي أعمله؟ ، هل هذا هو طموحي ؟ . هل هذه هى آمالی؟. لاشئ! واحدة من الناس .. من الملايين .. أجلس على هذا المكتب الخشبي ست ساعات متواصلة ، أقوم فيها لأتمشى مرة أو مرتين لألين مفاصلي ثم أجلس ثانية.. لو مت هذه اللحظة فلن يفقد العالم شيئاً يذكر، بل لعله سيزيد مقعداً خالياً ، للآلاف المنتظرين على الأبواب يطلبون الشغل.. لن يشعر العالم بفقدى أبدا.. ربما سطر أو سطران في ذيل جريدة لا يقرأها الا بعض الموظفين المحالين إلى المعاش.
وأحسست بوجوم يجثم على صدرى ، فأغلقت درج مكتبى بالمفتاح وأخذت حقيبتى وخرجت إلى الشارع.. وكانت السماء تمطر رذاذا خفيفا ، وهواء الشتاء يهب باردا يلفح وجهي ويصيب جسمى برعدة تصطك لها أسناني.. ووضعت يدى في جيبى لأدفنها وسرت أنظر إلى العربات الفاخرة وهى تجرى ، ومن وراء الزجاج المحكم في تعال وكبرياء بلا إشقاق على حالى ، وأنا أصارع المطر الذي بدأ ينهمر ثقيلاً على رأسي فيفسد تسريحة شعرى التى دفعت فيها بالأمس ثلاثين قرشا ، أقتطعتها بمشقة من ميزانية الأكل..
وضعت حقيبتي على رأسى ، ونظرت شذراً إلى امرأة تجلس كملكة في عربة طويلة جداً.. وقلت لنفسى إنها عربة زوجها بلاشك ، تأخذها منه في الوقت الذى يعمل فيه لتذرع بها الشوارع من أجل لاشئ.. إن شكلها لايدل على أنها تشتغل شيئاً ، وإنما أحد يشتغل من أجلها... لا يمكن لهذه المرأة أن تصحو من النوم قبل الحادية عشرة صباحا.. أي لذة تلك التي تجدها في الراحة والكسل !
ومضيت أفكر.. وخطرت لى فكرة غريبة.. سأستقيل من عملى وأبحث لي عن زوج يشتغل من أجلى ، وأنام حتى العاشرة صباحا.. لقد تعبت من القيام مبكرة.. ما جدوى كل هذه العناء الذي أنا فيه ؟ . لاشئ ! حتى المأكولات التى اشتهتيها وأنا تلميذة صغيرة ، لا أستطيع أن أشتريها.
وأحسست ببرودة أخرى غير قطرات ماء المطر تتساقط على رأسى ، وأنا أشعر بطموحى وآمالي واحلامي كلها تتقلص وتنكمش ، لتنحصر فيهدف واحد هو العثورعلى زوج.
وأسرعت إلى بيتى، وقد غمرتني الفكرة الجديدة بنوع من الحماس.. وحينما وصلت إلى العمارة ، رأيت عربة خضراء طويلة تقف وتنزل منها فيفي.. ورأيت البواب يقف لها في احترام واكبار، ولا يكاد ينظر إلىَ وفتح لها باب المصعد فدخلت أمامي.. ودخلت وراءها .. كانت فيفى ممثلة ناشئة لم تشتهر بعد، لكنها كانت تستأجر شقة بأربعين جينها .. خمس غرف وكنت أنا أعيش فى غرفة واحدة بعشرة جنيهات، ولا يتبقى لى من المرتب ، الا ستة جنيهات تقريبا أنفقها في الأكل والملبس والمواصلات.. وإلا يبقى للبواب الا عشرين قرشا ، أدفعها له في أول كل شهر في خزى شدید ، فیرشقنى بنظرة احتقار بالغة ، وأبلع ريقى وأقول له: " معلهش يا عم محمد، أن شاء الله في الشهر الجاي أزودك".
وتمر الشهور تلو الشهور ، ولا يحدث شئ ، غير أننى كنت أنقص وزنا.
وقلت لنفسى وأنا أدخل شقتى ، سأستقيل من شغلى وأصبح ممثلة.. ولم لا ؟انه أسهل طريق للحصول على الفلوس واحترام الناس.. أسهل من الحصول على زوج!
ونظرت إلى المرآة أتأمل ملامحى ، وأتخيل نفسى على الشاشة أمثل والناس يتفرجون.. وأخذت أفتح فمى وأغلقه، وأنظر نظرة غرام مرة ونظرة عتاب مرة ونظرة انتقام مرة .. مدهش ! ورضيت على نفسى.. إنني أصلح للتمثيل. ياللغباء ؛ كيف ضللت طريقي ودخلت كلية الطب ؟ .
وخلعت ملابسي ولبست ملابس النوم ودخلت السرير دون أن أكل . شهيتى ممتلئة بعد أن انتشيت من بريق المجد والجاه والشهرة التي رسمتها لحياتي المقبلة. وغلبنى النوم فنمت..
ولم أدرك كم مضى من الوقت، لكننى صحوت على صوت طرق شدید علی باب شقتي، فقمت مذعورة لأرى منْ الطارق، ورأيت عم محمد البواب ، يقف لاهثاً ويقول لى فى استعطاف: " والنبى يا دكتورة عايدة ، الست فيفى تعبانة جوى وطالبة حضرتك دلوقت ".
ووضعت على كتفى روباً صوفيا، وأخذت حقيبتي ، وصعدت مع البواب الى شقة فيفى.. وهناك على السرير الناعم الذي يبرق بالحرير من فوق ومن تحت رأيتها.. فيفى.. التي سحرت لي بعربتها وملابسها ومالها ، تنام أمامى وحول عينيها هالتان سوداوان وعلى وجهها صفرة بائسة.. كانت ترتجف وتئن.. ولما رأتنى قالت فى استعطاف: " أرجوك يا دكتورة أنا عيانة خالص ، عندى صداع وحرارة وجسمي بيترعش .. أرجوكى تكشفى عليا ".
وجلست بجوارها، وأمكست يدها لأعد نبضها .. ومضت لحظة صمت رهيبة كتمت فيها فيفى أنفاسها، ووقف البواب خلفي، وأحسست كأنه من رهبة الموقف ، كتم هو الآخر أنفاسه ، ووقف في خشوع وإجلال..
ومددت يدى فى ثقة ووضعت السماعة في أذني.. ونظر البواب إلى الآلة الصغيرة فى خشوع ، كأنه ينظر إلى شئ سحرى إلهي فوق قدرته البشرية، ثم استدار وأعطانا ظهره متأدباً.
وتركت فيفى صدرها تحت سماعتى فى استسلام، ونظرت إلىَ في ثقة واجلال كأننى قادرة على منحها الشفاء ، في اللحظة التي أسمع فيها دقات قلبها.. وأتممت الفحص، وكتبت لها العلاج ونصحتها بما أن تتبعه..
ورأيت فيفى تبتسم في راحة ، وأنا أضع أدواتي في حقيبتي ، وأخرجت من تحت وسادتها كيساً ، ومدت لى يدها بجنيهين..
لكني تراجعت في إباء وكبرياء ، وقلت لها باسمة: " لا مش معقول. ده احنا جيران ".
نظر إلىَ البواب مندهشاً ، ثم أسرع فحمل عنى حقيبتي وسار خلفى في خشوع.
وعند باب شقتي أخذت منه الحقيبة ثم أغلقت بابي.. وذهبت إلى فراشي لأكمل نومى، وابتسمت لنفسى في سعادة وأنا أحس بدفءالسرير.. ونمت أحلم بورقتين ناعمتين كل منهما تساوى جنيها.
من المجموعة القصصية : " حنان قليل " 1958
------------------------------------------------