قصة من حياة طبيبة
نوال السعداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7619 - 2023 / 5 / 22 - 20:47
المحور:
الادب والفن
قصة من حياة طبيبة .... قصة قصيرة
----------------------------------
كتبت الطبيبة " س " في يومياتها تقول:
التقطت نظراتي المرهقة، نظراتها الفزعة القلقة في استنجادها المكتوم، وفى حيرتها الهائلة، وكأنها بعينيها الصغيرتين الزرقاوين تتفحصان وجهى وتبحثان في أعماقي ،عن شئ من الرحمة والإشفاق.
وأحسست أن أرهاق جسمى من كثرة العمل ، بدأ يتبدد سريعاً وأن نشاطاً جديدا اجتاح أعماقي.. وكأنما أحست نفسى ، أنها على وشك أن تعطى شيئاً من ذاتها، أو أن تمنح شيئاً لصاحبة هاتين العينين المستغيثتين، فأخذت تشحن نفسها بطاقة جديدة استعداداً للبذل.
وجلست الفتاة المتهالكة أمامى ، ونظراتها متشبثة بوجهى لا تتحول عنه ، مما جعلنى لا أتنبه للرجل الطويل العريض الواقف بجوارها ، والذى أدرك أننى لم أره ، فأراد أن يشعرنى بوجوده ، فقال بصوت له نبرة مثقفة ، لم تهذب من غلطته وخشونته :
- أرجوكِ يا دكتورة أن تكشفى على أختى .. أريد أن أطمئن عليها ، وذلك لاننا سنزوجها في الاسبوع القادم لابن عمها.. ولا أدرى من أين جاءتها الشجاعة فسمعتها تقاطعه قائلة:
- أنا لا أحبه ... ولا أريد أن أتزوجه .
ونظرت إلىَ في استعطاف :
- لاأحبه يا دكتورة .
وأشار لها الأخ في شدة أن تصمت ، وقال محتداً :
- إنها لا تريد أن تتزوج لسبب آخر يا دكتورة. أظنك تفهمين. أرجوك الكشف عليها لتطلعيني على الحقيقة.
وعادت العينان الصغيرتان الزرقاوان ، تفزعان في قلق واستنجاد مكتوم.. وأخذت أنظر فى أعماقها لعلى اهتدى إلى خيوط القصة . لكنى لم أجد فيهما الا فزعا وقلقا، واسترحاما .. وكنت على وشك أن أقذف في وجه الأخ برأيي. أن أقول له :
- متأسفة يا سيدى .. أنا لا أستطيع الكشف عليها من أجل هذا الغرض.. إن الطب لم يعمل من أجل هذا .. ثم إن هذه المسألة شىء يخصها وحدها ولا داعى لك كاخ لى أو كطبيبة أن نتدخل.
وكأنما أحست الفتاة بما يراودنى ، فازدادت نظراتها تشبثاً بي وكأنهات تقول لي:
- أرجوكِ.. لا تتخلى عنى.. سيذهب بي إلى طبيب آخر .
ووقفت وقد عزمت على أمر. وقلت بلهجة الطبيب حينما يقرر أمرا، وليس هناك من قوة تستطيع أن تقف أمام الطبيب ، حينما يحزم في نفسه أمرا :
- تسمح تجلس في الخارج قليلا حتى انتهى من الكشف .
وأصبحت أنا والفتاة وحدنا.. ونظرت إليها.. وشجعتها نظراتي المشفقة الرحيمة على أن تنظر إلىَ فى اطمئنان. قالت في استعطاف :
- أرجوك يا دكتورة .. ارحميني من هذا الاخ سيقتلني .
واقتربت منها قليلا ، فرأيتها تنظر الى يدى في فزع وتقول :
- هل ستكشفين علىَ .. أرجوك .. لا أستطيع .. لا أستطيع .
ووضعت يدى في جيبي المعطف الأبيض لأطمئنها ، وقلت لها وأنا أجلس إلى جوارها :
- لا تخافي.. لن أكشف عليك.. ولكن قولى لى الحقيقة. وسوف تكون سرا، لن أبوح به لأحد أبدا.
قالت:
- لا أحبه يا دكتورة.. ولا أريد أن أتزوج..
ونظرت إليها وابتسمت ابتسامة ذات معنى ،، فقالت:
- ولا أحب رجلا آخر..
وأحسست أن الفتاة لا تقول الحقيقة..
ووضعت رأسى بين يدى وفكرت .. إني لن أكشف على الفتاة ، لأن هذا ليس من حقى إلا إذا طلبت منى ذلك .. وهي لم تطلب بل إنها ترفض .
وأخذت أنظر إلى ملامح الفتاة لعلى أنزع الحقيقة منها، ولكنى سرعان ما تراجعت وقلت لها:
- حسناً يا فتاتى الصغيرة.. سأخبر أخاك أنني لا شأن لي بهذ الموضوع .
ورأيت الفتاة تقبل نحوى في ذعر واستعطاف ، قائلة :
لا .. لا .. أرجوك سيذهب بي إلى طبيب آخر قد يكون فظاً. قولى أنك كشفت علىَ.. واننى فتاة شريفة.. هذا شي يسير عليك يا دكتورة .......
سأقول لك الحقيقة.. إننى أحب رجلا آخر.. وهو يحبنى وقد اتفقنا على الزواج فى الشهر القادم.. أقسم لكِ أنه لم يحدث بيننا شىء مخل بشرفى .
ونظرت إلى العينين الزرقاوين المستغيثين ، وكأنما تؤكدان لى أنها على حق.
وابتسمت لها وكأنني أؤكد لها أنها على حق..
ولكن ماذا ؟ .
سألت نفسي.. وسألت ضمیری.. و راجعت كلمات القسم الذي رددته في أول يوم مارست فيه عملى.. واستعدت في ذاكرتي قوانين الطب.
ولم أشعر إلا وأنا اتجه إلى الباب فأفتحه، وطلبت من أخيها الدخول وقلت له في ثبات وقوة :
- أن أختك فتاة شريفة .
قلتها وأنا أؤمن بعقلي ووجداني وانسانيتي أنها شريفة .. إن الطب يستطيع فقط أن يفرق بين المرض وغير المرض.. ولكن لا يستطيع أبدا أن يفرق بين الشرف وغير الشرف..
وارتسمت على ملامح الأخ الفجة ابتسامة عريضة ، وكأنه بهذه الكلمات قد اطمأن على شرفه أو استرده .
وقلت له وقد انفعلت بالشعور الجديد :
- أظن أنه من اللائق أن تعتذر لأختك عن شكك فيها .
واعتذر لها وهو ينظر إليها فى سعادة ريفية ساذجة ، ثم أخذها وخرج .. ووضعت رأسى على كتفى.. أفكار شتى تعصف برأسى..
ولم أشعر بيدى وهى تزحف إلى درج المكتب وتسحب منه ورقة بيضاء وقلما .. وكتبت ورأسى مازال ثقيلا.. كتبت قسماً جديداً وهو :
" أقسم أن تكون إنسانيتى وضميرى هما قانوني في عملى وفني ."
ووضعت القلم.. وأحسست براحة ، لم أشعر بها منذ فترة طويلة.
------------------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " حنان قليل " 1958