الشئ الصعب .. قصة قصيرة
نوال السعداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7659 - 2023 / 7 / 1 - 22:50
المحور:
الادب والفن
الشئ الصعب قصة قصيرة
---------------------
كان صوته العميق الهادئ ينساب فى الليل، ويصل الى أذنى دائما هادئاً يريح أعصابي المرهقة من العمل طول اليوم، ويجعلني أمدد ساقي على السور الحديدى فى استرخاء يشبه النوم، وأترك نظراتي المطمئنة تهيم في صفحة النيل الساكنة.. هدوء.. هدوء عجيب يخلفه صوته، ونظراته، وحركاته فى كل مكان يوجد فيه.. وأنا أحب كل شئ هادئ في الرجل .. ليس دائما...
وأرهفت أذنى الى الصوت العميق أستمع .. كان يحدثني عن نفسه، عن طفولته، وحياته ، وشبابه عن أمه وأبيه، وأخيه.. عن تجاربه مع النساء.. عن عمله.. عن ماضيه، وحاضره ومستقبله.
كان يتكلم، وكنت أستمع، وأنا أنظر فى عينيه الـ.. العسليتين.. لا.. البنيتين ؟ ، لا ليستا بنيتين. ما لونهما ؟ . لا أدرى.. ليستا سوداوين ولا زرقاوين، ولا خضراوين.. ولكن لهما مع ذلك لون أراه، وأحسه، وأفهمه.. لون غريب عميق.. كأنه طبقات كثيفة كثيرة، متراكمة بعضها فوق بعض، ليس لها قرار، وليس لها سطح.. شيئان كرويان يطلان على عالم معلوم وغير معلوم، وينفذان الى عالم مجهول وغير مجهول..
وسمعته يقول :
- ولكن لماذا أحكى لكِ كل هذا عن نفسى..
ونظرت إلى طبقات عينيه وابتسمت.. فقال :
- لا أدرى.. ولكني أشعر أننى أريد أن أحكى لكِ كل شىء عنى.. حتى تلك الأشياء التي كنت أخجل منها بيني وبين نفسي ، أريد أن أحكيها لِك..
وأسند رأسه الى ظهر الكرسى فى راحة واسترخاء ، ونظر بعينيه العميقتين الى السماء.. وظل تائهاً فى ذلك السواد الداكن فترة ، كأنما يبحث فيه عن شئ ، ثم التفت الىَ .. ونظر في عيني نظرة طويلة ؛ أحسست بها تمشى فى كل كياني، وتصيبني برجفة غريبة ، كأن شحنة جديدة من الأحاسيس اجتاحت نفسی و جسمی..
ورأيته يقترب مِنى.. وامتدت أصابعه تبحث عن يدى. وأمسكها بكلتا يديه.. واستكانت يدى بين كفيه الكبيرتين الدافئتين ، كما يستكين العصفور الوليد في صدر أمه..
لكنها لم تكن سوى لحظة، لحظة استكانة قصيرة ، غافلت فيها عاطفتى وعقلى، وتسربت مِنى تريد أن تمارس حقها في أن تعيش.. وأن تستكين.. وأن تهدأ .. وأن تضع رأسها على صدر عريض حنون .
لم تكن سوى لحظة تنبه بعدها عقلى، وشد عاطفتى من لجامها فأخضعها.. وجذبت يدى من كفيه الدافئتين الكبيرتين ، فشعرت بالبرد..كأنني تعريت فى برودة الليل.. كأنني فقدت مأوى يوم ممطر .
وانتفضت .. انتابني شعوربالخوف، ذلك الخوف الذى يشعر به المرء ، حينما تتولد فى نفسه حاجة جديدة ، إلى شئ ضرورى ، قد لا يستطيع الحصول عليه، أو قد يضيع منه ، لو أنه حصل عليه..
وقادني الشعور بالخوف ، إلى رغبة في التمرد.. ذلك التمرد الذي يحسه الانسان العاجز ، ليضفى على نفسه قوة من عنده ..
وجدتني من حيث لا أدرى أغضب.. وقلت له في ثورة :
- ماذا تريد ِمنى؟ .
قال في حنان:
- أحبك.. أحبك.. أحبك.
قلت في ثورة :
- هل نسيت أنك رجل متزوج؟.. إننى لا أقبل هذا الحب ، لأنني أعرف نهايته..
- وما نهايته ؟.
- ستأتى بعد فترة وتقول لى .. لن أستطيع التخلى عن زوجتى..
- لن أقول ذلك ..
- ولن أقبل منك أن تتخلى عن زوجتك..
وسكت قليلا . ثم قال:
- وما الذى يرضيك الآن ؟ .
- ألا نتقابل ..
- أبدا ..
- هل هذا هو الحل ؟ .
- ليس أمامنا سواه..
- إنني أوافق على شرط..
- ما هو ؟ .
- أن تقابليني حينما تريدين أن تغيرى هذا القرار..
وافترقنا .. ومضى يوم .. واثنان .. وثلاثة.
وفى نهاية اليوم الثالث ، جاءني صوته العميق الصادق يقول:
- أريد أن أراكِ ..
- متى ؟
- الآن..
وجلست الى جواره ، أستمع إلى صوته العميق الهادئ، وأشعر براحة تسرى في أعصابي المرهقة، فأمدد ساقي على السور الحديدي في استرخاء يشبه النوم، وأترك نظراتى المطمئنة في صفحة النيل.. قال:
- لن يكون بعد ذلك قرارات..
وضحكت .. فقال :
- أتضحكين.. ماذا فعلت في الأيام الثلاثة ؟ .
- وماذا فعلت أنت ؟ .
قال وهو شارد وعيناه الى السماء :
- تعذبت ..
وشعرت في هذه اللحظة أننى أريد أن أقترب منه.. وأمسك رأسه بين يدى ،
وأسنده على صدرى لأمنع عنه العذاب..
ونظر فى عينىََ .. وكأنه قرأ رغبتى ، فقال في صوت غضوب :
- لماذا تحبين الرجل الضعيف ؟ .
- لأنني أشعر أنه يحتاج إلىَ...
- إنني أحتاج إليك ..
وانتابني مرة أخرى الشعور بالتمرد ، فقلت له في ثورة :
- أنت لست في حاجة إلىَ .. ستعود بعد قليل الى زوجتك .. وسكت فترة طويلة ، وعيناه تفتشان في ظلمة الليل عن الإجابة .. ثم قال:
- أنتِ لا تعرفين .. ان الطاقة التي يشحنها الحب ، لا يفرغها إلا الحب..
وأعجبني كلامه.. لكنى رددت قائلة:
- هل طاقة الحب تفرغ ؟ .
- لا.. إن الحب يشحنها من جديد..
وسكت قليلا لأفكر.. وأحسست به يقترب مِنى ويقول:
- خبريني ماذا تريدين ؟ .
فقلت في ذعر ، وأنا أراه يقترب مني أكثر وأكثر:
- لاشئ .
قال فى شدة :
- ما معنى لاشئ هذه ؟ . أنا لست مستعداً لأن أضحى بحبى لك.. سأكافح من أجله.. لن أضيع فرصة حياتي ، سأتخلى عن كل شئ ، كل شئ ، الا أنتِ ..
هل تتزوجينى ؟.
وسرت رجفة فى كيانى ، ولم أشعر إلا وأنا أضع يدى على فمه وأقول :
- لا تقل ذلك ؟ . لا أستطيع ؟.. هل نسيت زوجتك ؟ .
- إننى أشعر أننى أرتبط بك أنتِ ، ولا أرتبط بها.. لا استطيع أن أتخلى عنكِ.. لم يكن زواجى إلا وظيفة ، ألقيت على عاتقي..
- لا .. لا تقل هذا. سأعود الى القرارات مرة أخرى ..
قال في حزم :
- أنتِ لا تملكين إصدار هذه القرارات وحدك.. لم تعودى وحدك.. لقد ارتبطنا .. أي قرار إن كان هناك قرارات ، يجب أن نصدره معاً.. ونوافق عليه معاً..
واقتربت يداه مِنی تبحثان عن يدى ... وعثر عليهما. واستكانت يدى بين كفيه الكبيرتين الدافنتين ، كما يستكين العصفور الوليد في صدر أمه.
ومرة أخرى لم تكن سوى لحظة .. لحظة استكانه قصيرة ، غافلت فيها عاطفتی وعقلى ، وتسربت مِنى ، تريد أن تمارس حقها في أن تعيش..
لحظة قصيرة لمعت كالبرق ، ثم أدبرت سريعاً.. وتنبه عقلى وانتزعت يدى من كفيه الحانيتين الدافئتين..
ونظر الىَ ، فنظرت بعيداً عنه في صفحة النيل.. وسمعته يقول في مرارة وألم :
- إنك لم تحبيني .
وافترقنا بلا قرار على ألا نعود.. ومضى يوم.. واثنان. وثلاثة، أربعة.. وبت الليل مؤرقة أفكر.. وبدا لى السرير خشنا ، كأنه مصنوع من الحجر، وبدت لى الوسادة يابسة ، كأنها مليئة بالمسامير.. وبدا لي الليل طويلا ممتدا، كأنه لن ينتهى.. وعيناى الحمراوان المسهدتان تجوبان في ظلمة الليل ، تبحثان عن أشياء أحسها ولا أفهمها، وأفهمها ولا أصدقها، وأصدقها فأعود لا أفهمها ..
لماذا قلت له لا ؟ . .. لماذا تخليت عن حياتي ؟ .
وتقلب كياني المرهق ، ينشد مكانا على السرير أقل خشونة. وتحرك رأسى الثقيل على الوسادة ، يتلمس بقعة خالية من المسامير . سأطلبه في الصباح وأسحب هذه ....
وسبقنى .. كان يسبقنى ببضع دقائق. وجاءنى صوته الحبيب يسألنى عن صحتى :
- وماذا فعلتِ فى تلك الأيام الأربعة ؟ .
قلت له :
- وماذا فعلت أنت ؟ .
قال :
- تعذبت ..
وسكت قليلا .. فقلت له :
- أريد أن أراك ..
- متى ؟ .
قلت :
- الآن..
وانساب صوته العميق الهادئ فى أذنى ، يريح أعصابي، ويجعلني أمدد ساقي على السور الحديدى فى استرخاء يشبه النوم، وأترك نظراتي المطمئنة تهيم على صفحة النيل..
ونظرت الى طبقات عينيه الكثيفة الكثيرة ، ثم قلت له :
- لماذا تحب المرأة الضعيفة ؟ .
قال:
- أنا لا أحب المرأة الضعيفة أبدا.. ولكنى أحب المرأة القوية حينما تضعف..
وأحسست فعلا أننى أضعف. وأننى لا أستطيع أن أقاوم كفيه الكبيرتين الدافئتين ، ورأسى الثقيل المتعب، وهو يميل ليستريح على صدره العريض..
لحظة استسلام بعد أيام من الصراع .. لحظة انتصار العاطفة على العقل بلا خجل.. بلا عُقد.. بلا صراع .. أروع لحظة في الحياة.
ومضت اللحظة ولم أعرف مداها .. خلت أنها عمر جديد يضاف إلى عمرى.. عمر جديد كامل له ماض، وله حاضر، وله مستقبل.
ومضت اللحظة رغم روعتها .. ورغم قصرها .. مضت كما يمضى كل شئ رائع فى الحياة ، وانتهت كما ينتهى أي عُمر ، مهما بلغ مداه..
وفتحت عيني ، واسترددت يدى ورفعت رأسي، وأمسكت حقيبتي ، ووقفت..
قال:
- ماذا حدث ؟ .
قلت:
- كل شئ ينتهي ..
- ولماذا تهربين ؟ .
- إنه شي صعب..
- ما هو ذلك الشئ الصعب ؟.
- إن كل شئ ينتهي ...
وسمعته يضحك في مرارة وسخرية ويقول: ا
- انتهيت من مشكلة زوجتی ، فخلقت ِمشكلة أصعب.. لماذا تعاملين نفسك بهذه القسوة ؟ . لماذا تتركين عقلك وعاطفتك يتصارعان ؟ ..
ونظرت في أسى الى صفحة النيل فاقترب مِني ،، وامسك يدى .. شددتها بقسوة وقال:
- لن تكسبى شيئاً من هذه المعركة ، لأن ميدانها الوحيد هو نفسك، نصف ذاتك يصارع النصف الآخر.. والنتيجة بالنسبة لكِ شي واحد.. هو أنك تخسرين نصفا دائماً..
ونظرت في أعماق عينيه ، أفتش عن شئ من هذا الصراع عنده .. وقلت له وأنت ؟ . الستُ مثلى ؟.
قال في ثقة غريبة :
- لا .. إن ذاتى لا تتصارع .. إن عقلى هو قلبي. وقلبي هو عقلى..وأحسست أنه أقوى مِنى .. أكثر طبيعية .. وأكثر بشرية. .. أكثر انسانية.. ووددت فى تلك اللحظة أن ألقى نفسى ، بين ذراعيه القويتين ، وأقول له :
- علمني .. علمنی
وكأنما أحس رغبتى ، فنظر الى َوكأنه يحتويني بكل كيانه وقال باسما :
- سأعلمك ولنبدأ من هذه اللحظة..
واعتدل في كرسيه، وقال كأنه أستاذ بخاطب تلميذته :
- والآن وقبل كل شئ ، يجب أن تعترفى .. هل تحبينني ؟ .
وكان جاداً.. وكان راضياً .. وكان قوياً.. وكان محباً . ونظرت في أغوار عينيه العميقتين فأحسست أنه .. أنه رجلى الوحيد وقلت له:
- نعم أحبك ..
ورأيته يبتسم ابتسامة عريضة ، ثم يضحك في انطلاق غريب ، وسمعته يقول وهو ينظر في عينيَ بحنان كبير:
- هل كان شيئاً صعباً ؟ .
قلت وأنا أنظر بعيداً عن عينيه ، حتى لا يكتشف كذبي :
أبدا ... لم يكن شيئاً صعباً .
-------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " حنان قليل " 1958