الرجل ذو الأزرار قصة قصيرة
نوال السعداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7576 - 2023 / 4 / 9 - 22:47
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
--------------
الرجل ذو الأزرار
-----------------------------
منذ عشر سنوات تقريبا ، كانت لى عيادة فى بنها، وكنت قد بدأت أنشر ما أكتب. وفى احدى المجلات نشرت لى قصة بعنوان " زوجي لا احبك " . وبعد ايام قليلة جاءتنى سيدة شابة ومعها قصتى ، ومصمصت شفتيها بما معناه أنها لم تعجبها . ثم تركت لي قصة من تأليفها ، بقيت في درج مكتبى حتى عثرت عليها أخيرا ، مطوية كالرسالة القديمة.
***
زوجي العزيز أمين فاضل عفيفي ,
قد يدهش بعض الناس حين يرون زوجة تخاطب زوجها باسمه الثلاثي، ولا أظن أن أحدا في أيامنا هذه يحرص على أن يعرف أحدا باسمه الثلاثي، اللهم الا موظفى مكاتب الأمن والمباحث ورجال البوليس والمحققين فى المحاكم وأطباء مكاتب الصحة لاستخراج شهادة الوفاة.
لا أخفى عليك سرا ، أننى لم أعرف اسمك الثلاثي الا بعد زواجنا بخمسة أعوام، حين جاء ذلك الشرطى وصاح من خلف شراعة الباب ، أمين فاضل عفيفى. وقلت لى يومها انها قضية قديمة أقامتها ضدك أختك فهيمة ، بسبب استيلائك على العشرة قراريط نصيبها من الميراث.
كنت حتى ذلك اليوم زوجة مطيعة لرجل اسمه أمين بك عفيفي. لم أكن أعرف ملامحك معرفة كاملة . فأنا لم أنظر إلى وجهك نظرة كاملة أبدا. ولكنى أستطيع أن أميزك من بين الرجال بسبب صلعتك العريضة اللامعة تتوسطها زبيبة سوداء. قالت لى جارتنا أن هذه الزبيبة دليل جسدى على التقوى والصلاح . وتساءلت يومها ما علاقة قطعة من الجلد الأسود تنمو فوق الجبهة بالتقوى والصلاح ؟ . فقالت : انها احتكاك الجبهة الناعمة المتكرر بالأرض الخشنة أثناء الصلاة المنتظمة والسجود الطويل بسبب الخشوع . الحقيقة أن هذه الزبيبة كانت ترتطم بعيني كلما نظرت اليه ، والأسوأ من ذلك انها كانت ترتطم بجبهتي ، حين كان يحدث بيننا ذلك الشيء رغم الظلام التام الذى كان يسود حجرة نومنا ، الذي لم يكن يسمح لى بأن أرى شيئا منك، إلا أن هذه الزبيبة كانت قابلة للرؤية دائما . ربما بسبب لونها الأسود الداكن او بسبب بروزها، ورغم المسافة التي كانت تفصل دائما بين وجهينا، ولم يحدث أن عرفت ملمس شئ من وجهك ،أو لامست شفتاك خطأ شيئاً من وجهى ، الا هذه الزبيبة فقد كانت وحدها ودون تقاطيع وجهك الأخرى، قادرة على اجتياز المسافة بين وجهينا ، وترتطم بجيهتى ككرة من المطاط.
وحينما قال لك الشرطى " أمين فاضل عفيفى" تغير لون وجهك، و دهشت يومها لماذا بدا اسمك الثلاثى كالسبة، وقلت لي بعد أن انصرف الرجل ، أن رجال الشرطة (أجلاف) من الريف لا يعرفون كيف يخاطبون الناس. ولم أسألك عن كلمة " جلف " ولم أستطع أن أعرف ماذا تعنى بكلمة جلف. حين سمعتها منك لأول مرة كان لون وجهك متغيرا. وحين يتغير لون وجهك ، أعرف أنك غاضب أو خائف. وقد استطعت بشئ من التمرين أن أفرق بين لون الغضب ولون الخوف. حين ارتطم بنا الأتوبيس فجأة بأتوبيس آخر ، أصبح وجهك لونه أبيض مشوب بصفرة. هذا هو لون الخوف. وحين تغضب وتضرب الخادمة بحذائك القديم ، يصبح البياض مشوبا بصفرة أيضا ولكنها صفرة مختلفة. أما لون وجهك الأصلي فأنا لا أعرفه.
كنت تقول " جلف " بصوت غليظ كثيف اللعاب . فأصبح للكلمة كثافة مادية جعلتها ترتطم بأذنى كما ترتبط الزبيبة بجبهتي. واستطعت أن أستنتج من الحوار الدائر بينك وبين صديقك في حجرة الصالون ، أن هذا الجلف انما هو الشاب الجديد، الذى عين منذ يومين ضمن مرؤوسيك ودخل مكتبك وناداك بالأستاذ " أمين عفيفي " بدلا من " أمين بك عفيفي". كان صديقك منهمكا في تسليك أذنه بعود كبريت . لكنه قال بعد أن أخرج العود وتأمل طرفه ، أن بعض الشباب الجامعيين لا يعرفون كيف يخاطبون رؤساءهم ، وأن التعليم هبط هبوطا مزريا، والجامعة لم تعد تعلم شيئا.
كنت أجلس فى الصالة، وأنصت إلى حديثك مع صديقك كل ليلة وأنتما جالسان فى حجرة الصالون. أصنع الشاي وتدخله الخادمة في الأكواب الصغيرة، مرة ، ومرتين وثلاثا ،وعشرا، وأنتما لا حديث لكما ، الا عن هذا الشباب الجديد. وتعددت صفاته . مرة جلفا، ومرة طائشا ، ومرة أحمقا، أما صفة الجنون فقد حلت به ، حین همس لأحد زملائه الشباب بأنه غير مؤمن بالعهد، ونقل هذا الهمس بالحرف الواحد إليك أحد زملائه.
لم أكن أعرف تماما ما معنى كلمة " العهد " ، وظننت أنه اسم رئيسك بالمكتب، لكننى فهمت من الحوار بينك وبين صديقك أن العهد ، هو أحدأسماء الله سبحانه وتعالى.
وبعد أن ينصرف صديقك، تطفئ نور الصالون، وتراني جالسة في الصالة أحملق في الظلام، وتذهب إلى السرير فتتمدد بجسدك الطويل الضخم كالتمساح ، ولا يكاد يتبقى لى مكان، فأنام في مكاني على الكنبة ، الا فى تلك الليلة كل شهر أو شهرين أو ثلاثة، حين تتذكر فجأة اننى هناك فوق الكنبة، فتنادى علىّ بصوت غليط كثيف اللعاب، وأعرف أن ذلك الشئ سيحدث وأن الزبيبة السوداء سترتطم بجبهتي، وأن الجسد سيصبح راكدا كالبركة، ولاشئ يسرى في القلب، لا ألم ولا فرح ، والجلد يصبح باردا ساكنا سكون الموت. كنت أعجب من ساقى، كيف يثقلان إلى ذلك الحد ، وأنا أسير من الصالة إلى حجرة النوم، فيصبح جسدى كله ثقيلا ، كمريضة، أو عجوز يبست مفاصلها، على حين تصبح ساقاي خفيفتين ، وأنا صاعدة إلى جارتنا . أصعد الستة أدوار دون أن أشعر بساقي أو جسدى، ودون أن ألهث.
جارتنا، لم تكن وحدها بالبيت. كان هناك شخص آخر يجلس في الركن المظلم. لم أره فى الظلام. قلت لنفسى ربما امرأة. لكنه اتجه برأسه ناحيتي. فى تلك اللحظة عرفت لأول مرة الفرق بين الرجل والمرأة. شحنة كالخفقة تسرى من القلب إلى الفم في ثانية أو نصف ثانية ، ساخنة كالدم، تصعد سريعا في ضربة واحدة ، مؤلمة بعض الشيء ، أحسست الألم تحت ضلوعي ، ناحية اليسار، فوق النصف الأسفل من القلب تماما، هناك فى نقطة مستديرة محددة. ليس ألما، لكنه يصبح في لحظة خاطفة مؤلما، مثيرا إلى حد الخوف، إلى حد الشحوب ، له سعادة حادة كالابرة تغوص فى اللحم وتسرى فوق الجلد قشعريرة كالحمى ترج الجسد.
وقالت له جارتنا بصوتها الخافت ، إنني حرم أيمن بك عفيفي. ابتسم دون أن يتحرك ، وقال أيمن عفيفى الموظف. ولأول مرة أعرف لك اسما ثلاثيا آخر، بدا أيضا كالسبة ، ولم أدهش كاليوم الذى جاء فيه الشرطي، لكننى أحسست بخزى، إلى حد أن قطرات عرق بدت تتجمع فوق جبهتي وكل قطرة قائمة بذاتها، أحس ثقلها واستدارتها، واحدة بجوار الأخرى.كأنما نما فجاة فوق جبهتي ، عدد من الزبيب المشابه لزبيبتك.
حاولت أن أدافع عنك. خمسة عشر عاما تحت سقف واحد ، وفي كل يوم ثلاث وجبات طعام. كنت ألمحك وأنت تنظر بنصف عين في صحني وتعد الأرغفة ، قبل أن أكل، لكننى دافعت عنك وقلت أنك لست أمين عفيفى الموظف، والأدهى من ذلك أنه أضاف صفات أخرى لم أكن اعرفها، وقص عنك حكايات لم أسمعها. بل إنه حكى أيضا قصة أختك فهيمة والشرطى وقراريطها العشرة التي استوليت عليها. وضحك وهو يصفك حين دخلت مرة إلى رئيسك وقد زررت ثلاثة أزرار فقط من الجاكتة. أما الزرار الرابع فيبدو أنك زررته على عجل حين سمعت الجرس ، فاذا به لايدخل في العروة، أو أن جزءا صغيرا فحسب هو الذى دخل. المهم أنك ما أن مثلث بين يدى رئيسك ، حتى أصبح هذا الزرار الرابع خارج العروة .
بينما هو يروى لى الحكاية ، تذكرت حوارك مع صديقك عن هذه الحادثة وسمعت كلمة أزرار تتردد كثيرا. لكنني كنت في تلك الليلة أشعر بالنعاس ، لا أتابع حواركما متابعة دقيقة .
وخُيل إلىّ أن الأمر يسير وليس خطيرا ، إلى حد أنك كتبت التماسا إلى رئيسك تطلب منه العفو .
ذكرتني جارتنا بموعد نزولى اليك .لكننى كنت أشعر بخزى كبير، وظللت واقفة مترددة. الحقيقة أنه فى هذه اللحظة بالذات ، سقط ضوء خافت على وجهه وصدره. وخُيل إلىّ أنه يدعونى الى صدره باشارة بطيئة من يده .
هذه المرة تلامسنا . ولأول مرة أعرف ملمس جسدي، ونعومته، حين لامست يدى بشرتی ، شعرت بحركة داخل أناملى كالكهرباء. عشقت ذراعى وساقى وكدت أحتضن نفسى. جسمى أصبح يخف ويخف، وحين أسير ، لا تكاد أطراف أصابعي تلامس الأرض ،أمشي على طبقة من الهواء تفصل بين قدمى والأرض، فيبدو لى السير كأنني أسبح في ماء، ماء أقل كثافة من الماء العذب.
قلت له: ما اسمك ؟.
قال: ما أهمية الاسم؟.
قلت : ماذا تعمل ؟.
قال: أفكر وأظل في الركن الظلم لا أبارحه.
قلت: ليس لك رئيس أو مرؤوس؟.
قال : وليست لى أزرار أزررها ، ملابسي جيمعا بغير أزرار.
قلت له : سأبقى معك ، أنت الرجل الوحيد الذي قابلته.
قال: ولكنكِ لستِ أول امرأة أقابلها.
قلت: ليكن، لا أعترض.
قال: ولكنني أعترض.
قلت: لماذا ؟ .
قال: وقتى لا يتسع.
قلت: ولماذا عرفتني بنفسك ؟ .
قلت: لأنقذك من الموت.
قلت: وتتركني أعود إلى الموت.
قال: لن تعودى كما كنتِ ، ستولدين من جديد ، ستعودين امرأة أخرى.
قلت: لن أقبل حياتي كما قبلتها من قبل.
قال : هذا هو المطلوب.
قلت: سأجن.
قال : هذا هو المطلوب.
قلت: أتدعوني إلى الجنون ؟ .
قال : نعم. هو سبيل الخلاص.
وضحكت ضحكة هستيرية وأنا أودعه ، وانطلقت نحو السلم أهبط الأدوار الستة، وحينما لمحتك تدخل من الباب ، لم أعرف كيف امتدت یدای ، وانهالت عليك ضربا ولكما، وقطعت لك كل أزرارك.
زوجتك فردوس
--------------------------------------------------------
من المجموعة القصصية " وكانت هى الأضعف " اصدار أول 1977
الاصدار الثانى 2018
------------------------------------------------------------------