نُظر ويُحفظ .. قصة قصيرة
نوال السعداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7490 - 2023 / 1 / 13 - 04:42
المحور:
الادب والفن
نُظر و يُحفظ .. قصة قصيرة
----------------------------------------
جالس على المقعد وأمامه الدوسيه الكبير المفتوح ، عيناه مفتوحتان لا ترمشان، والقاعة الكبيرة جدرانها بيضاء، وسقفها عال تتدلى منه نجفة بللورية، والمائدة مغطاة بمفرش من الجوخ الأخضر، وفناجين القهوة تصنع فوقها نصف دائرة، يتوسطها فنجان أكبر تغطيه طبقة كثيفة من البن، أكثر كثافة من الفناجين الأخرى، وأكواب الماء مثلجة تكثفت عليها قطرات صغيرة من الماء، وجهاز التكييف يزن في أذنيه كنحلة دؤوب، وأصوات عالية خشنة ورؤوس تهتز، وتهتز معها دوائر على الجدران ، هي انعكاسات الضوء على الصلعات ، وأمام الفنجان الأكبر ذى الطبقة الكثيفة من البن ، جسد كبير له رأس أبيض، يتحرك إلى اليمين فتتحرك الرؤوس إلى اليمين وتتحرك معها الدوائر ، ودخان السجائر يتصاعد في الجو ويلتف حول النجفة فى حلقات صغيرة تبتلعها حلقات أكبر.
وهو جالس على المقعد، يرتطم بأذنه اسم مدحت عبد الحميد كحجر مدبب، وتتحرك الشفاة المبللة بالقهوة، وتظهر أطراف الأسنان المصفرة بالدخان. مدحت عبدالحميد ، كفاءة نادرة، ويهتز الرأس الأبيض وتهتز الصلعات اللامعة..
ويحاول أن يفتح شفتيه، ويحرك لسانه، ولكن شفتيه لا تنفتحان ، ولسانه جاف لا يتحرك، ومرارة غريبة ملتصقة بحلقه كالصمغ . يعرف قصة مدحت عبد الحميد وهى مكتوبة أمامه في الدوسيه، ولكن هل يتكلم ؟.
وبلل شفتيه الماء المثلج، وأحس بحنجرته وهي تعلو وتهبط وتحتك بجدار عنقه، ما قيمة أن يفتح شفتيه ويقول شيئا ؟.. أنهم لا ينظرون إليه، يتكلمون أحيانا بلغة لا يفهمها ، أياديهم بضة أظافرها ناعمة نظيفة، وربطات أعناقهم منشاه قوية كالورق الكرتون، وهم يضحكون ويتبادلون النكات ، وهو لا يستطيع أن يضحك، مع أنه يضحك بسهولة مع زملائه فى المكتب، ومع زوجته في البيت. ولكن هؤلاء لهم هيبة، نظراتهم تأمره بالصمت ، تفرض عليه أن يكون من طبقة أدنى.
ولكن اسم مدحت عبد الحميد يخترق رأسه كرصاصة ، مدحت عبد الحميد انطلاقة تحطم اللوائح الجامدة .. وتتحرك الشفاه الندية والرؤوس اللامعة، أيمكن أن يسكت ؟. وفتح شفتيه لينطق الكلمات الملتصقة بحلقه كالصمغ، والمرارة يمتصها جوفه ويمتلئ بها، وتضغط علي عضلات بطنه وصدره فيشعر بالغثيان، لكنه غثيان عاجز ، لا يستطيع أن يطرد ما يريد أن يطرد ، غثيان لا يشفى الا إذا طرد الهواء من صدره ، وطرد الدم من قلبه ، وطرد معهما الكلمات الملتصقة . الفم ينفتح، وحلقه يصطك بكلمات عالقة كالديدان.
وفتح شفتيه نصف فتحة ، وأخرج من بينهما بعض الهواء الساخن.. أيمكن أن تخرج بعض الكلمات؟.. ولكن ما جدوى أن يتكلم ؟ . إنهم أكبر منه، وهم يملكون قوت عياله ، ما قيمة أن يدخل معركة خاسرة ، ما قيمة قطرة في محيط ؟ . من هو ؟ . الرقعة الصغيرة في البنطلون ظاهرة ، وربطة عنقه متهدلة، وجلد يديه خشن مجعد ، وهما يقلبان في الدوسيه ، وما قيمة الدوسيه ؟.
ما قيمة الحقيقة المدفونة ؟ . مدحت بك عبد الحميد سرق أموال الناس . ولكن قريبه مرموق ، وعبد الغفار أفندى اكتشف السرقة . ولكنه كاتب صغير، التحقيق بدأ وطال وطال ، وكيل النيابة اختفي وجاء غيره، أوراق ضاعت وأوراق جديدة ظهرت ، وانتهى التحقيق وأصبح عبد الغفار أفندى هو السارق .
وتأمل حلقات الدخان الكبيرة وهى تبتلع الحلقات الأصغر، وخفف المرارة المركزة في حلقه ببعض الماء.
أيمكن أن يدافع عن عبد الغفار أفندى ؟ . لقد وعده قبل أن يدخل القاعة بأنه سيدافع عنه، ولكن ما جدوى الدفاع، الأكبر يأكل الأصغر تحت الماء، وفوق الأرض وفى الجو. وإذا فتح شفتيه ودافع عن الغفار أفندى ، فماذا اذن يكون دور الآلهة ؟.
وهو ليس الا موظفا فى الدرجة الثانية ، له زوجة وتسعة أولاد ، كل شهر يؤجل شراء البدلة، وقوته تضعف مع الزمن، وبنطلونه يتهدل. ومع ذلك فكيف سينظر في عين عبد الغفار أفندى بعد الجلسة ؟ . وكيف سينظر في أعين كل الناس ؟ .انهم ينتظرونه خلف باب القاعة، لقد وعدهم بأن يقول الحقيقة، وهز يده فى ضيق، لماذا يطلبون منه المعجزات ؟. إنه ليس الها ؟. وحرك رأسه باستخفاف، وما قيمة هؤلاء الناس ، انهم لا يملكون قوت عياله ، انهم لا يملكون الا نظرات اللوم والعتاب .
وما جدوى نظرات اللوم والعتاب ؟. انها لا تنتزع اللقمة من فمه ، ثم لماذا يقول الحقيقة وحده ؟ . لماذا هم لا يتكلمون ، لا يصرخون ، لا يثورون ؟. انهم كثرة، انهم أغلبية. ولكنهم مشتتون بغير رباط، عصا رفيعة من الخيرزان تخيفهم وكلمة معسولة ترضيهم.
ومد يده إلى فنجان القهوة وابتلع رشفة ، والتقطت أذناه اسم عبدالغفار أفندى من الجو، تلفظه الشفاه الندية كبصقة لزجة، الكاتب الصغير الذي خان سيده، هذا الصنف لا أمان له، هذا الصنف لا أصل له، هذا الصنف تربي في الأزقة.
وصعد الدم إلى رأسه، ما دخل الأزقة في السرقة ؟ . هو أيضاً تربى في الأزقة، وليس له أصل ، ليس له أقارب لهم وظائف محترمة، وليس له قريب واحد مرموق. ولكنه لم يسرق أبدا ثلاثون عاما مضت منذ عين في وظيفته. وكان يمكن أن يسرق لو أراد ، أموال الناس كانت تحت يديه ، وحين مرض ابنه الصغير واستدان ، ساوره الشيطان لحظة . لكنه استعاذ بالله منه ، وطرد الفكرة من رأسه.
وتساءل بينه وبين نفسه ، لماذا سرق مدحت بك عبد الحميد، وكان يملك عربتين وعمارة ، وليس له الا ولدان . لعله مرض أعوذ بالله، أو لعلها العين الفارغة التي لا يملؤها الا التراب.
وسمع الأصوات من حوله تخفت ، ورفع رأسه ، ورأى الرأس الأبيض يتحرك، واليد البضة الناعمة تمسك القلم وتكتب القرار الأخير، مدحت عبد الحميد برئ ، وتعلقت عيناه بسن القلم ، وفتح شفتيه كأنه يلهث ، وسمع صوته كحشرجة : لحظة واحدة يا أفندم .
وتراجعت الظهور السميكة فى استرخاء إلى مساند المقاعد الجلدية ، وارتسمت حول الشفاه الندية دوائر كالابتسامات.
ووضع يده فى جيبه وأخرج منديله وجفف عرقه، وسمع صوتا غليظا مألوفا ، يقول : " اكتب ُنظر ويُحفظ ".
-----------------------------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " وكانت هى الأضعف " الطبعة الأولى 1977
والطبعة الثانية عن مؤسسة هنداوى 2018
------------------------------------------------------------------