حنان قليل .. قصة قصيرة
نوال السعداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7458 - 2022 / 12 / 10 - 22:00
المحور:
الادب والفن
------------------------------
كانت تجلس القرفصاء على بلاط الحمام البارد، وجسمها الضئيل الضامر ينتفض من البرد، وأسنانها تصطك...
وأخذت تتلفت حولها فى الحمام الواسع مذهولة.. أهذا هو الحمام؟... لم تكن تتصور أنه يمكن أن يكون فى العالم حمام بهذا الشكل، فإن الحمام الوحيد الذي رأته فى حياتها هو حمام العمدة.. وقد دخلته مرة واحدة صدفة حينما كانت تلعب «المساكة» مع ابنة العمدة، وابنة شيخ الغفر ودخلت لتختفى فى حجرة في آخر الدوار، قالت عنها ابنة العمدة إنها الحمام.. ورأت فيه طشتاً كبيراً، وزيرا، وفنطاسا ضخما في نهايته صنبور صغير، ولم تكن قد رأت صنبوراً قط فى حياتها، أو حماما.. وكان كل ما رأته فى دار أبيها طشتاً وكوزاً من الصفيح تنقلهما أمها من قاعة الى قاعة كلما رغب فرد من أفراد البيت فى الاستحمام.. وكانت ترى أمها تضع في هذا الطشت نفس الدقيق لتنخله، وفي موسم الحصاد ترى الطشت مملوءا بالشعير، وفي موسم «الذرة» مملوءا «بالذرة» .
وتلفتت حولها في دهشة، ومسحت بطرف جلبابها عينيها الملتهبتن وأنفها، وأخذت تتأمل ذلك الشئ الأبيض اللامع الذي يشبه الحوض الواسع، والذى لو ملئ بالماء لغرقت فيه ، وتلك الصنابير الفضية الكبيرة التي تعلوه ...
ورأت حوضاً آخر صغيراً معلقاً فى الحائط ، تعلوه أيضا صنابير كبيرة براقة .. ورأت شيئاً عجيباً أبيض يشبه الكرسى وليس بكرسى.. وشيئاً آخر يشبه سلطانية الشوربة ، ولكنه كبير الحجم جداً يتسع لسلق جدى أو خروف...
وكفكفت دمعها ، وأخذت تتحسس بيديها السمراوين الخشنتين أرض الحمام الملساء الناعمة ، فى مثل نعومة الصحن المصنوع من الخزف.
- بت یا بهیة.. یا بهیة...
جاءها صوت رفيع حاد من خلال باب الحمام المغلق .. فانتفضت لسماع اسمها .. ووقفت مذعورة حائرة.. ماذا تفعل ...
أصبح الصوت الرفيع أكثر حدة ، فارتجفت بهية وهى تمسك بأكرة الباب البراقة تحاول أن تلويها لتفتح الباب، ولكن الأكرة أبت أن تتحرك ، فالصقت فمها بالباب وقالت بأعلى صوتها كما كانت تنادى على أمها في الحقل :
- ده أنا جوه في اللي اسمه ايه الحمام مش عارفه أطلع ...
ووقفت بهية مشدوهة حينما رأت أمامها امرأة بضة نظيفة .. ثم رأت يد المرأة ترتفع إلى أعلى، ثم تهوى على وجهها النحيل في لطمة قوية ...
- أنت قاعده جوه الحمام بتعملى ايه .. مين قالك تدخلى هنا؟ .
- معلش يا ستي ..والنبي يا ستى.. ربنا يخليكي ياستي .. مش أنا والنبي ده الراجل عبده اللى عندكم ، قال لى اقعدى هنا لغاية ماستك تنادي عليكي...
وفهمت بهية منذ ذلك اليوم ، ما يجب فى هذا البيت وما لا يجب. وما عليها أن تعمله ومالا تعمله.. ماهو محلل وما هو محرم.. وكان يعمل معها في البيت نفسه طباخ اسمه عبده يبيت في حجرته فوق السطح، وفتاة أخرى كبيرة تبيت معها على دكة خشبية في أحد أركان المطبخ.. وأنست بهيه إلى خديجة، حتى راحت تروى لها كيف قتل والدها.. وهما تتسليان بالحديث قبيل النوم .. ولكن خديجة نفرت من الحديث خشية أن يطلع لها عفريت القتيل.. وفضلت أن تنام.. وسرعان ما كان شخيرها يملأ المطبخ...
وظلت عينا بهية مفتوحتين لا يغلبهما النعاس.. وراحت تفكر في أمها، وفى أختها الرضيع زينب .. وهمست لنفسها ، ياترى يا أمه بتعملى ايه دى الوقت ؟.
وعادت إليها صورة أبيها قبل مقتله بدقائق، وهو يمسك بيدها فيالسوق، ويضرب بعصاه الأرض في قوة وبأس.
ووقفت عند هذه الصورة لا تجرؤ على الاسترسال في ذكرياتها .. فلقد بدأت تشعر بالخوف لو أنها استعادت صورة مقتله، وتكورت بجانب خديجة، والتصقت بها تريد أن تلتمس من دفئها بعض الطمأنينة والأمن.. ، وأغمضت عينيها لتنام. لكن صورة أمها بثيابها السوداء المتربة ، وفى حجرتها أختها زينب تمتص اللبن من ثديها الهزيل الضامر.. ورأت نفسها تجلس إلى جوارها تنبش فى التراب ، وهي تحس آلام الجوع ، اذ مضت أيام كثيرة لم تذق فيها إلا بعض كسرات من الخبز المقدد ، وقطعة خيار مخللة عثرت عليها في قاع «الزلعة» .
وانتبهت على رجل أفندى يقف أمام أمها، ومعه نفوسة تاجرة الفراخ.. ولم تفهم كل الكلام الذى كانوا يقولونه، ولكنها التقطت كلمة «بهية» من بين كلامهم ، فأرهفت السمع لترى ماذا يمكن أن يكون لها من شأن ، في هذا الحديث الجاد مع هذا الافندي النظيف.
وسمعت الأفندي يقول:
هي سنها كام؟.
فأجابت أمها :
- عشر سنين والنبي ..
فقال الرجل:
- ياه .. دى لسه صغيره قوى...
فأجابت نفوسة :
- صغيرة ايه ياسى محمد . دى لهلوبة فى الشغل تمسح وتغسل، وتحمل المحروسة الصغيرة دى .. بكره تعجبك وتبقى عال قوى .. قومى يابت يا بهية .. قومى بوسى ايد سيدك...
وقامت بهية.. إ لا تستطيع الا أن تطيع ، بعد أن رأت أمها تنكس رأسها دلالة على الموافقة ...
وأخذها الافندى معه... وقبل أن تمضى معه استدارت الى أمها الجالسة على عتبة الدار ، وفى حجرها أختها زينب قائلة :
- أقعدى بالعافية يا أمه .. خلى بالك من زينب...
وسمعت أمها تقول :
- الله يعافيكي يا بهية .. خلى بالك من نفسك.
ورأتها تمسح عينيها وأنفها بكمها ، فارتدت مسرعة، وسارت في أثر الافندي.. وقلبها ينوء بثقل كبير...
وفتحت بهية عينيها فى الصباح الباكر على صوت رفيع حاد يقول:
- بت يا بهية .. أنت لسه ما صحيتيش ؟.
فانتفضت بهية فى فزع.. وفتحت عينيها.. وحينما رأت المطبخ الواسع، وموقد الغاز والثلاجة الكبيرة عرفت أنها في مصر ... في بيت سيدها محمد أفندى الشهدى .. وليس فى دارها بقرية كفر خناش...
وردت:
- حاضر يا ستى.. أنا صاحية...
وانطلقت بهية الى سيدتها .. فوجدتها مضطجعة على سريرها الوثير، تحتضن طفلتها، وترضعها من ثدى بض، سمين ...
- أنت يا بنت لسه نايمه ؟.
- لا يا ستى أنا صاحية من الصبح..
- خذى اللفف دى اغسليها في الحمام ، وانشريها في البلكونة... وبعدين تعالى بسرعة علشان تشيلى نوسه...
- حاضر یا ستی..
وفي لمح البصر طارت بهية لتفعل ما أمرته به سيدتها.. ثم حملت الطفلة الصغيرة على ذراعيها، ووقفت تهدهدها.
- بس یا ستی نوسه.. بس .. بس یا ستی نوسه بس.. بس.
وكفت الطفلة عن البكاء، وأخذت بهية تتأمل وجهها، وعينيها، وشفتيها .. فرأت أنها تشبه أختها زينب شبها غريبا.. وخيل لها أنها هي ، فاحتضنتها بحنان وقوة الى صدرها، وقبلتها ...
ولم تكد ترفع وجهها عن الطفلة ، حتى انتفضت على الصوت الرفيع الحاد يقول غاضبا:
- أنت بتبوسيها يابت يا بهية ؟ . عمى في عينيكى.. اياكى تاني مره تبوسيها، ولا تقربى وشك من وشها كده .. فاهمة ؟ .
وقبل أن تنطق بهية بحرف ، أحست بيد تهوى على وجهها في صفعة قوية ...
- حاضر يا ستى.. معلهش ياستى.. والنبى ياستي حرمت...
وابتعدت اليد عنها ، فهدأت دقات قلبها، وانتظمت أنفاسها وحملت الطفلة بين ذراعيها ، وهى تحاول أن تبعد وجهها عنها بقدر ماتستطيع ...
وتأملت وجه الطفلة مرة أخرى.. فلم تر فيها أي شبه بينها، وبين أختها زينب.. تأملت الطفلة قليلا ، فرأت فى عينيها استعلاء وقسوة ، يشبهان الاستعلاء والقسوة في عينى أمها ، وشعرت أنها تكره هذه الطفلة وتحقد عليها..
أهكذا يكون جزاؤها ؟ . لم تفعل شيئاً، لم تخطئ، لم تكسر كوباً أو طبقاً.. لقد قبلت الطفلة فحسب، وقبلتها لأنها تحبها وتحنو عليها... أهكذا يكون جزاء الحب والحنان ؟ .
وأشاحت بوجهها بعيداً عن الطفلة ، وأخذت تهدهدها مجردة من أى عاطفة . وتذكرت أختها زينب .. ترى منْ يهدهدها ؟.كثيراً ما كانت تسمع بكاءها وهى نائمة على الأرض في صحن الدار، وقد تعرى ردفاها، وغطى التراب أنفها وفمها. فتجرى إليها، وتمسح وجهها، و تهدهدها وتقبلها، وترعاها حتى تعود أمها من الحقل.
ترى منْ يجرى إليها الآن.. ترى منْ يمسح لها التراب من فوق أنفها وفمها ؟.
ونظرت بهية إلى وجه الطفلة التى تحملها، وجه ناعم نظيف بلا تراب.. وهي تهدهدها، وتلاعبها كلما همت بالبكاء.. أليست أختها زينب مثل الطفلة .. ألا تستحق أختها هذا الحنان ؟ .
ويصفعونها بعد كل ذلك ، لأن في قلبها حنانا !.
وأحست بهية، طفلة العاشرة، بثورة عارمة تضطرم في أعماقها.. ولم تشعر إلا وهى تضع الطفلة على السرير، وقد غمرها شعور بأنها لا تريد أن تحملها بين ذراعيها.. ووقفت بجوار الطفلة كالتمثال تنظر إليها في كراهية ...
وبكت الطفلة تريد أن يحملها أحد ..
وكانت أمها في الحمام.. فنادت على بهية بأعلى صوتها :
- نوسة بتعيط ليه يا بنت ؟.
واغتاظت بهية. ممنْ ؟ . لم تكن تدرى.. أمن الأم القاسية، التي تناديها غاضبة .. أم من الطفلة المدللة التى تريد أن تُحمل ؟ . ولم تعرف تماما ماذا فعلت .. لكنها رفعت يدها فى الهواء وهوت بها عليها في لطمة قوية .. ثم جرت إلى باب الشقة وفتحته، وانطلقت في الشارع .
ولم تهدأ بهية ، إلا بعد أن ابتعدت عن بيت سيدها كثيرا ...
ورأت رجلاً تبدو على ملامحه الطيبة، فسألته عن «الكافورى» الذي يمكن أن يوصلها إلى قرية كفر خناش .. وكان الرجل طيباً فدلها على الطريق.. وأعطاها بعض القروش...
وجلست بهية على أرض «الكافورى» ، فقد أبي الكمساري أن يمنحها كرسيا لتجلس عليه، لأن القروش التي كانت معها لم تكف لتصرف بها نصف تذكرة .. وتبرع لها الكمسارى بحيز صغير من أرض العربة ، حتى تصل الى قريتها ...
ووقفت العربة في كفر «خناش» .
وانتفضت بهية واقفة على قدميها .. وقفزت من العربة.. ووضعت ذيل جلبابها بين أسنانها وأطلقت ساقيها للريح.
ووجدت باب الدار مفتوحا كعادته دائما.. فاندفعت داخله متلهفة. وقيل أن تصل إلى صحن الدار سمعت صوت أختها زينب تبكى بحرقة .. فجرت إليها .. ورأتها كما كانت تراها دائماً ، عارية الردفين والتراب يغطى أنفها وشفتيها ...
- یا حبیبتی یا زینب ..
وأخذتها بين ذراعيها، وراحت تغمر وجهها بالقبلات.. وتنهدت بهية في سعادة.. إ تستطيع أن تحب زينب كما تريد، وتحنو عليها كما تريد.. وتقبلها كما تريد.. لن ينهرها أحد ، ولن تتلقى عن ذلك صفعات أو شتائم...
وضمت بهية أختها إلى صدرها أكثر وأكثر.. وحينما رأت أمها تدخل من باب الدار قالت لها :
- ماهانتش عليا زينب يا امه.. قلت آجى أشيلها..
وأجابت أمها والدموع في عينيها:
- بركة يا بنتى اللى جيتي.
----------------------------------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " حنان قليل " 1958
----------------------------------