بوصلته البسيطة والطبيعية
بسام الصالحي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7338 - 2022 / 8 / 12 - 16:23
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
أريد أن أتحدث حول جزء من العلاقة التي ربطتنا بالرفيق الراحل محمد نفاع. هناك ثلاثة حوادث من عدة حوادث جمعتني بالرفيق الراحل أحب أن أشير اليها. الأولى، الشعور بالفقد الكبير لإمكانية أن تكون هناك جلسات مطولة بين الحزبين رغم الالحاح الذي كان يلح به الرفيق محمد، وللأسف نحن دائمًا نعتقد أنه لا زال هناك وقت، ونُفجع في النهاية أننا خسرنا الوقت. ولكن في إحدى الجلسات التي حضرها الرفيق والرفيقات لتعزيني بوفاة والدي، تحدثنا طويلاً عن أشياء وأشياء، عكست شخصية محمد نفاع التي تعرفونها ونعرفها، بعمق التزامه الطبقي والوطني والأممي أيضًا.
والحادثة الثانية، حصلت عندما كنا نلتقي في مرات عديدة في مؤتمرات دولية، ويكون هناك رفاق من أحزاب شيوعية عربية، تنفر من العلاقة مع الذين يمثلون الحزب الشيوعي الإسرائيلي. في المؤتمر نفسه تكون العلاقات رسمية وحادة، ولا يريد ممثلو الاحزاب الشيوعية العربية أن يظهروا أن هناك أي علاقة بهم بالحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهذا شيء مؤلم. ونحن الذين نتواجد في المنتصف، تتحول مهمتنا ما بعد الاجتماعات، كيف نُشعر هؤلاء الرفاق الأعزاء العرب، أن هذه الصورة المغلوطة والسخيفة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ليس فيها أي شيء من الحقيقة. فنذهب نحن في جلسات يكون فيها الشيوعيون الفلسطينيون من الطرفين مع شيوعيين عرب، ويكون فيها حديث خارج المألوف ويتم نسيان البرود في العلاقات وتكون العلاقات طبيعية بين الأطراف، حتى ثاني يوم في المؤتمر تعود "الفتنة". ففي أحد المرات قال لي محمد نفاع: "يخرب بيتهم يا أخي، ولكم يا عمي أنا اسمي محمد، انا اسمي محمد". كان ببساطته الطبيعية يكسر الحواجز التي يجب أن تُكسر، وكان ينجح في كسرها في الغالب، ولكن يعود ليجمدها ستار سطحي من الحسابات السياسية.
والحادثة الثالثة، عندما كنت في السجن في الانتفاضة الأولى، كان أبو هشام عضوًا في الكنيسيت. وطبعًا بالنسبة لنا في السجون، كانت اللقاءات مع أعضاء الكنيست من الحزب والجبهة، تعني الكثير، ليس فقط لنا كشيوعيين، ولكن ايضًا لكل المعتقلين. وفي الأوقات الصعبة التي كنا نحتاج فيها أن يكونوا بجانبنا، كان أبو هشام موجودًا دائمًا. وكان أبو هشام بتفاؤله وصدق روحه ينقل أهم مشاعر التضامن لزوجتي وابنتي في ذلك الوقت، ولكل الرفاق الذين كان يلتقيهم. وكنت في أيامها قد كتبت كتابًا في السجن، وأنتم تعرفون صعوبة ذلك، وحملته مكتوبًا بخط اليد خلال زيارة محمد نفاع وكنت قد خبأته، وكان لديّ بعض الحرج لأني لم أرد أن أسبب له بمشكلة إذا وجد معه هذا الكتاب، وما أن أوحيت له بذلك حتى خطف مني الكتاب بلا أي تردد أو خوف، ونُقل هذا الورق المكتوب بخط يدي إلى خارج السجن بواسطة محمد نفاع كي يتحول إلى كتاب مطبوع.
الأمر الرئيسي، أن محمد نفاع، كان قريبًا جدًا وبدون حواجز، وبباسطة وحكمة وقوة وسرعة البديهة الكبيرة جدًا. محمد نفاع لو كان معنا اليوم، لكان قال للجميع: "ألم أقل لكم أن الأمور لن تبقى على حالها، أنظروا ماذا يحصل اليوم في الصين وروسيا وأمريكا وفي العالم"، ولم يكن يتردد بأن يقول بأنه منحاز، انحياز واضح تمامًا لمعاداة الامبريالية. محمد نفاع كانت لديه البوصلة بسيطة وطبيعية، بحكم فكره وبحكم منطقه، بوصلة الانحياز للشعب وللطبقات الشعبية وبوصلة العداء للإمبريالية والرجعية والصهيونية، وهذه البوصلة كانت تريحه دائمًا، بعكس فذلكة المثقفين، في حسم العديد من المواقف والقضايا، وبالبساطة المعهودة. ومرت فترة في تاريخ الحركة الشيوعية وخصوصًا بعد الانهيار، التي أصبح فيها من يتبنى أي رأي أو موقف من هذا القبيل، كان يعتبر وكأنه "موضة قديمة" ويحمل "جمودًا عقائديًا"، ولكن بعيدًا عن أي حسابات في المفاهيم النظرية، كانت هذه البوصلة المنحازة للشعوب والطبقات الشعبية، والمعادية للإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، التي حملها محمد نفاع، صحيحة دائمًا، وهي صحيحة الآن أكثر من أي وقت مضى.
لذلك، نحن وأنتم خسرنا، وشعبنا كله خسر، الرفيق محمد نفاع. لأننا نحتاجه في هذا الوقت الذي تتعرض فيه قضيتنا الفلسطينية إلى مساعي التصفية الأخطر من أي وقت مضى، والتي تُلزم في الحقيقة بإعادة تفكير جريء حول كيفية مواجهة هذا الخطر التصفوي، وكسر الحواجز العديدة في التفكير في مواجهة المشروع المتجدد الصهيوني الرجعي العربي. لو كان محمد نفاع معنا، لقال لنا إن الأمور عادت كما كانت، الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية، تُكمل طريقها التي بدأته ما قبل الـ48، وفي الـ48، والآن في مسيرتها لتصفية القضية الفلسطينية. ولقال لنا إن وحدة الشعب الفلسطيني هي العنصر الأساسي في حماية مشروعه بما ذلك إنهاء الانقسام البغيض، وأيضًا لقال لنا بأن التعويل على الوعود الأمريكية، أو البقاء في هذا المربع والفضاء الذي خلقته الولايات المتحدة وإسرائيل في التعامل مع القضية الفلسطينية، هو أمرٌ مدمر ويجب التخلص منه بشكل كلي. ولقال لنا محمد نفاع أن الاشتراكية التي آمن بها تغيرت وتتغير أشكالها، ولكن جوهرها باقٍ، والمستقبل سيحمل شكل جديد لها، ربما لا هو ولا نحن حتى الآن نستطيع تبين ملامحه، ولكن الفجوات الطبقية والصراع الطبقي، والشراسة في الرغبة بنهب الشعوب، كما نراها في كل مكان في العالم، تؤكد أن البديل هو العدالة الاجتماعية والاشتراكية التي آمن بها محمد نفاع.
كل المجد للرفيق محمد نفاع، وكل التحية لكم، ونتعاهد جميعًا على أن نظل أوفياء للبوصلة الرئيسية التي حكمت سلوك وممارسات محمد نفاع، البسيطة ولكن الصارمة في حدتها وفي رؤيتها الكفاحية.