من صدى الأنين
إلهام مانع
الحوار المتمدن
-
العدد: 6975 - 2021 / 7 / 31 - 19:33
المحور:
الادب والفن
من صدى الأنين
هذه السطور من رواية صدى الأنين، كتبتها وأنا في الثلاثينيات من عمري ونشرتها دار الساقي في عام 2005. اليوم، وانا في الخامسة والخمسين، أقرأها وأمني نفسي بفسحة من الزمن أدون فيها الذكريات من جديد. إلى ذلك الحين، هذا قدر من الصدى، فتمعنا.
رحلة بنت بطوطة
احكي يا شهرزاد.
هتف شهريار وهو يتأوه.
فأومأت شهرزاد له أن يُقفل فَمَه ويخرس.
وأشارت إلى مسرور أن يقف على رأسه: "لوح بسيفك أمام عينيه إن حاول أن ينطق، وضع حافته على عنقه إن َجرُؤ على التفكير".
دعه يذوق ما أذاقه لغيره.
عساه يتذكر رؤوس العذارى التي أطاح بها كل صباح،
عساه يرى الدماء التي أراقها بسبب خياله المريض،
عساه يدرك فداحة الجريمة التي أقترفها باسم شرفه المنتهك.
ثم أخذت الدف،
وبدأت تضرب عليه بقوة،
وبدأ صوتها يعلو،
ولم تصرخ.
بل أكملت الحكاية.
-----
كم مرة قلت لي "إن الجنون أرحم"؟
قلتها لي بعينيك ألف مرة.
منذ شفائك،
ورحيلك بعيدا عن الزوج والوطن.
قصصتها علي مراراً في حكاية كان مدادُها إنكسارَ عينيك.
وحزنٌ،
حزنٌ حطَّ عليك كالأجل،
منذ بدأت رحلتك، رحلة إبنة بطوطة،
من منزل إلى منزل،
ومن بلد إلى آخر.
وعشت في كل ذلك دون بيت.
وفهمتك جيدا يوم قلت لي: " تعبت من الترحال. أريد أن أعيش في بيتي".
ولم يكن بوسعي أن أهَبَك ما تريدين.
فلوكان الأمر بيدي لكانت الحالُ غيرَ الحال.
ولو أن الواقع غيرُ ماهو عليه الآن، لأعدت بناء ذلك البيت الذي تتوقين إليه
طوبة طوبة، وحجراً حجراً،
بيدي العاريتين،
طوال اليوم، صباحاً وليلاً، حتى يكتمل لك.
كنت سأبعثه لك حياً ولو دفعت دمي فداء له.
لولا أن البيت قد أنهار منذ زمن ياسيدتي،
ضاع كما ضاعت الأحلام،
وتلاشى كجزء من العدم،
فأصبح من المحال أن نبنيه من جديد.
أصبح مستحيلاً.
وكنت تدركين ذلك وأنت تقولينه لي،
وأنا كنت أدركه جيدا كذلك.
ولذلك فهمتك أكثر يومها،
وأحسست بحرقة تنهدك،
لفحتني بنارها يا سيدتي،
هدّتني.
وصدقُتك،
كاليقين.
-----
ذكريات
"لمّ تلاحقُني الذكرياتُ يا ابنتي؟
"تتبعني كظلّي، في القيام والقعود، وحتى في المنام.
"لا ترحمني،
"وتطنّ حولي كالأجل".
ذكرياتٌ تعيدك إلى الحُلم يا أبي.
حلمٌ أصبحت تراه كلَّ يوم منحوراً،
وكنت قد رأيته من قبل وهو يُقتل أمامك.
أو لعلّك رأيه وهو يشنق؟
يتدلى من على حبالٍ عفنة،
ويتحرك.
يحمل عُنقه المكسورة على كفّه
ويدور في الشوارع
ويهتف من الموت صارخاً: "آه يا بلد".
أصبحت ترى موته كل يوم
في كل دقيقة، وفي كل ثانية
في الناس من حولك
في الطفولة البائسة وفي الشيخ.
ولأن الحلم، كما الوطن، ظل حياً في وجدانك،
أصبحت الذكرى سوطاً لا يرحم.
الأمان
هل نسيت يوم انهمرت الدموع من عينيك... وانت تستمع إلى أغنية يمنية حزينة.
بكيت وهو يرثي المغتر الذي رحل إلى بلاد الحبشة...
وقصصت عليَّ حكاية خالك الذي بكته جدتك سنينَ طويلة.... كل يوم... بعد صلاة المغرب.
يوم تزوج ولم يتمكن من فعل اللازم ليلة عُرسه... فهرب خوفاً من العار... ورحل إلى الحبشة... وعندما عاد... عاد ابكم... ابله ... الله وحده يعلم ماحدث له بعد هربه.
وكنت تراها وهي تنتحب وتدعو إلى ربها أن يعيده إليها سالماً... كل يوم.
وكنت تستمع إلى نشيحها وأنت تجلس في ركن من الغرفة... أنت وغيرك من الأيتام... من أبناء أبنائها.
كان بكاؤها يقتلك.
يمزقك،
ألم تكن هي... هي وحدها السكن والسلوى لك ولهم، الحضن الدافيء الحنون... هي وحدها من كانت تُغيب ذلك الخوف الرابض في نفسك...
آه، كم هو حزين أن تفقد الأمان.
وأراك اليوم... وأنا في العقد الرابع من عمري،
أراك بعين أخرى...
عين أدركت كم كنت جريحاً دوماً... وحزيناً.
آه يا أبي كم كنت مجروحاً دوماً.
طفولة مُرّة ... وتأبي حتى اليوم أن تحكيها لي قصة كاملة...
وتكتفي بالقول... "كانت أياماً قاسية"... ثم تلتفت إلي وتقول كأنك تريد أن تطمئنني: لكن الطفل يخلق دائما لنفسه لحظات تنسيه تلك الصدمات. وتبتسم وأنت تحكي لي كيف كنت تأخذ الحجر وتجري به متخيلاً أنه عربة الإمام.
وكنت وحيداً أيضاً.
في فكرك، وفي إيمانك بالإنسان.
ألم تقلها لي وأنت على فراش المرض.
كنت إلى جانبك، نقطع الوقت بحوار فكري ممتع متصل، كما كان دأبنا دائما. وقلت لك في معرض الحديث: لا يهمني دين أو عرق أو لون الشخص، لا أرى فيه سوى كونه إنساناً.
فرفعت يدك الضعيفة لتمسك بذراعي، وقلت لي وعيناك تبرقان: الآن أنت أبنتي.
ثم إنك كنت خائفاً دوماً.
ألم تقلها لي يوماً؟
"أخشى أن يدخل علي رجل أمن في عقر داري ويدوس كرامتي بنعليه".
وسمعتك أنت وصديق عمرك... تجلسان معاً على الأرجوحة في حديقتك الجميلة... سلواك.
ورأيتكما تتناجيان... تحكيان عن عمر مضى...
وبدوتما لي تماماً كما بدا بيتنا الكبير القديم... متهالكاً... لكنه شامخ ذو كبرياء، والعز بادٍ عليه... عزٌ مضى... لكنه لا يزال محفوراً في خطوط وجهيكما.
وسمعتك وأنت تمازحه عندما خلط بين اسمين... عبد الكريم أم عبدالإله؟
فقلت له نصفَ ممازح: لا يهم... في النهاية كلُنا عبيد.
وسمعته وهو يقول لك: لولا أحفادي وأبنتي لرحلت عن هنا... أن تعيش دون أمان هو أن تعيش ميتاً.
جلست أنظر إليكما معاً.
أنهل من وجودكما معاً، وأملأ عيني بمنظركما الذي قد لا يتكرر بعد ذلك.
صورة من ماضٍ جميل... نظيف... ونزيه.
جيل آمن، وكافح ... وكان يحلم.
ثم رأى الحلم يتعفن...
فأنزويتما كلٌ في ركن،
ترقبان...
وتتنهدان.
ولذلك لم أندهش كثيراً عندما قلت لي يوماً: إذا فكرت في العودة سأضربك.
لم تضربني في حياتك سوى مرة وأنا في السابعة من عمري.
وتريد أن تكررها إذا فكرت يوماً في العودة ... إلى الوطن... إلى الحلم، حلمك وحلمي.
بيد أنّي لي أن ألومك، وقد رأيتك وأنت تفجع فيه ليل نهار.
أبيت أن تراني أواجه نفس المصير. كنت خائفاً علي.
ثم على من أكذب؟
أنا أيضا أشعر بالخوف، بنفسي تنزلق في داخلها في كل مّرة أطيء فيها بقدمي على أرض الوطن...
أخاف من الوطن. هل تصدق؟
وكيف لا أخاف منه والأمان فيه يتبخر أمامي، يتلاشى كفقاعة في الهواء.
كرامتي تصبح كريشة خفيفة بلا وزن، أي هبة ريح تطيح بها إلى الجحيم.
نفسي لذلك تهوي في بئرٍ قلقٍ عميقةٍ بلا قاع...
وأنتظر.
أنتظر لحظة الرحيل... بصبر... بترقب... كأني أنتظر الفرج... كأني أبحث عن هواء نقي صاف فلا أجده... وأحبس أنفاسي بقوة...
وأنتظر...
أنتظر لحظة التنفس.
-----
ويكا يا ويكا.
خالة أبي كانت تحكي له عن السلطان.
قالت له إن السلطان ثعبان... فمه واسع كالدنيا
قالت له إن الثعبان بطنه كبير... جوفه بلا قاع
قالت إنها رأت السلطان فيما يشبه المنام
يقف وهو ثعبان تحت شلال جارف رهيب
قالت إن فمه واسع كالدنيا أنفتح وأبتلع الشلال
قالت إنها كانت عطشى
لكن السلطان أبتلع السلطان فلم يُبق لها سوى الرذاذ...
قالت له حذار ألفَ مرة من السلطان
فهو شخص بلا أمان
ويكا ياويكا، ليتك تقصين علي مرة حكاية جميلة.