عن الحيز الثالث: هو السلام ما أعنيه


إلهام مانع
الحوار المتمدن - العدد: 8121 - 2024 / 10 / 5 - 12:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


"إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، انظر مجددًا؛ فقد تكون أنت النور!" جلال الدين الرومي

------
لعل الحديث عن السلام في هذه اللحظة من التاريخ يبدو ضربًا من الجنون، ولكنه حديث لا غنى عنه. هو أو الجحيم الذي نعيشه اليوم. ومنذ متى كان الطريق إلى السلام الدائم سهلًا؟ كان دوما طريقًا محفوفًا بالتحديات، ممزوجًا بالاستحالة. نصنعه من رحم الحرب، من المعاناة والألم، رغم كل الصعاب. والسؤال، كيف لنا أن نخلق السلام من قلب الصراع؟ هنا تأتي أهمية الحديث عن الحيز الثالث.

الحيز الثالث
مجزرة السابع من أكتوبر لعام 2023 وما تبعها من حرب كارثية على غزة، كانت لحظة حاسمة في حياتي. حاسمة لأنني أدركت أن لا مستقبل لمنطقتنا، ذاك الصرح الحضاري بدون حل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، سنظل ندور في دوامة دماء جهنمية، ولن نخرج منها إلا بإقرارنا أن لا حل لهذه القضية إلا بالحوار السلمي. الكثير منكن ومنكم سيشيح بوجهه، أي سلام؟ والدماء التي سالت وتسيل؟ وأنا أصر، هذا هو وقت الحديث عن السلام، وقته الآن، ولن أدخل في تفاصيل النزاع.
نعم، قد يبدو التركيز على تفاصيل النزاع مغريًا، ولكن ذلك لن يقودنا إلا إلى المزيد من الجدل والاحتقان، سنكرر نفس النقاشات، نفس الاتهامات، ونفس الاتهامات المضادة. الأفضل أن نركز على السلام الذي ننشده، على الرؤية التي تجمعنا لا تلك التي تفرقنا. السلام الذي أتحدث عنه، هو أكثر من مجرد غياب العنف؛ هو العدالة، هو الحياة الكريمة، وهو الأمان لكل من يعيش في مناطق النزاع. الأفضل إذن، أن أتحدث عن السلام الذي نبحث عنه.
تخيل التغيير الذي تنشده، ثم اعمل على تحقيقه. هذه عبارة قالها فيلسوف جنوب إفريقي أبيض، وقتل من أجلها. وأنا أقول: تخيل السلام الذي تحلم به، ثم اعمل على تحقيقه. هذه عبارتي. علينا البدء من مكان ما. وبالنسبة لي، هذا المكان أسميه الحيز الثالث
الحيز الثالث هو تلك المساحة التي نجتمع فيها، بعيدًا عن الاستقطاب والانقسام؛ حيث نرى الإنسان في الآخر. هو فضاء إنساني يجمع المختلفين والمختلفات؛ في أوج معاناتهن، أحزانهم وآمالهن، ويعملوا ويعملن من القاعدة على بناء مستقبل مشترك وسلام دائم، وهي فكرة متواجدة منذ الأزل. في كل مناطق الصراعات. تجدون من يجرؤ على رفض الكراهية والعنف، وينظم إلى جموع الحيز الثالث. يصر على رؤية الإنسان فيمن نسميه عدوًا. والأمثلة كثيرة
نجدها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. في مبادرة "مقاتلون من أجل السلام" Combatants for Peace: التي جمعت فلسطينيين وإسرائيليين، قاتلوا سابقًا في النزاع المسلح، ولأنهم عاينوا ويلات الحرب، قرروا التخلي عن العنف والعمل سويًا لتعزيز السلام.
نجدها في منتدى العائلات الثكلى Parents Circle-Families Forum: الذي يضم عائلات فلسطينية وإسرائيلية فقدت أفرادًا من عائلاتها في الصراع. يجتمعون معًا، يتبادلون حكاياتهم، ويعملون على نشر ثقافة التسامح والمصالحة.

وهي فكرة نسعى إلى تحقيقها واقعًا هنا في سويسرا. مجموعة من المثقفين والمثقفات السويسريين، من أصول عربية، إسرائيلية، مسلمة، يهودية، مسيحية، ولا دينية. نعيش في سويسرا، وننعم في ديمقراطيتها وسلامها، لكننا نختنق من الظلمة التي تدمر منطقتنا. نشعر بمرارتها وهي تمزق نسيج إنسانيتنا. اتفقنا على أن الألم، الحزن، والشجن، والإحساس بالغربة يجمعنا.
اتفقنا على أن الوضع الراهن لا يطاق. غير دائم، ولن يؤدي إلا إلى دمار منطقتنا. اتفقنا أننا، وفي قلب الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، نجد أهلنا وأحباءنا في المنطقة، عالقين، منقسمين، مستقطبين ومصابين بالصمم. صدى الصرخات يصمّ الآذان. هم أيضًا يختنقون من الألم، ولذا لا يرون الإنسان فيمن نسميه عدونا والحديث لنا على الجانبين. إذن؛ في وسط الظلام الداكن، في تلك العتمة الباهرة، عندما يكون الأمل سرابًا، عندما تكون الكراهية هي لغة الحوار، وعندما يكون السياسيون عنوان اللامسوؤلية، سيكون علينا أن نبدأ من مكان ما. اتفقنا إذن. سيتحتم علينا البدء من مكان ما، أسميناه الحيز الثالث. هي نقطة البدء، نبدأ في البناء لصناعة ذاك المستقبل المشترك الذي نحلم به.
في الحيز الثالث، تتغلب الوحدة على الانقسام، والرحمة على الكراهية، والأمل على اليأس. هنا؛ في ظل الصراع، نجد العزاء في إنسانيتنا المشتركة، متحدين في حزننا وراسخين في التزامنا بالسلام. في هذه المساحة المقدسة، يصبح التعاطف نبراسًا لنا، ينير لنا الطريق إلى المصالحة. هنا نقف جنبًا إلى جنب، ونشهد على المعاناة الجماعية للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. نكرّم معًا الأرواح التي فُقدت، والعائلات التي تحطمت والأحلام التي انطفأت بسبب موجة العنف التي لا هوادة فيها.
الرصاص لا يصنع سلامًا. الكراهية لن تبني مستقبلاً مشتركًا. لكن ذاك القبس، نور الإنسانية، يجمعنا، وينير لنا الطريق.

إذن. لن أدخل في تفاصيل النزاع؛ فهي لن تقودنا إلا إلى المزيد من الجدل والاحتقان. الأفضل أن أتحدث عن السلام الذي ننشده لمنطقتنا، سلام عادل يحترم الإنسان؛ كرامته وأمانه لكل من يعيش في مناطق النزاع. تخيل التغيير الذي تنشده، ثم اعمل على تحقيقه. وأنا أقول، تخيل السلام الذي تحلم به، ثم اعمل على تحقيقه. هذه عبارتي. علينا البدء من مكان ما. مكان أسميه الحيز الثالث. فيه نعمل من أجل مستقبل يليق بإنسانيتنا. وللحديث بقية.