عن فيينا ورائف بدوي أتحدث!
إلهام مانع
الحوار المتمدن
-
العدد: 6677 - 2020 / 9 / 15 - 17:31
المحور:
حقوق الانسان
كل عام أزور النمسا، مرتين أو ثلاث.
زيارة عمل.
اعقد فيها ورشات عمل، لمختصين ومختصات، وعاملين وعاملات في مجال التعليم، والشباب، والمرأة والهجرة والإدماج، والشرطة.
غالباً ما يكون الموضوع عن التطرف.
وعادة ما يكون موعدي مع فيينا في سبتمبر من كل عام .
اقضي فيها أسبوعاً.
اختار فندقاً، ومنه اتحول إلى ورشات العمل. أسبوع مرهق. لأن كل ورشة عمل تستغرق يوم عمل كامل. وبعضها يتطلب سفري بالقطار إلى مدن قريبة في أنحاء النمسا.
أحب فيينا. رغم مشاكلها. وفي الواقع أعشقها. ولولا العمل لذهبت إلى ساحات سيمفونياتها وأروقة متاحفها كل يوم.
"يوماً ما، سنمضي عطلتنا الصيفية هنا"، قلت هذا لزوجي في حديثنا المسائي.
لم يعترض. يوماً ما إذن.
في كل زيارة، التقي بصديقة العمر. تعمل في منظمة دولية هناك. اتصل بها. نلتقي على العشاء، ونتحدث كأننا لم نفترق يوماً.
اليس رائعاً ان يكون للإنسان مثل هذا الصديق؟
ثم نودع بعضنا، على أمل اللقاء من جديد... بعد عام ربما.
تُذّكرني بصديقة روح أخرى. أحببت قلمها ومن ثم عقلها قبل أن اعرفها. ثم تعَّرفت عليها عن قرب، وعندما فعلت تنفست الصعداء. ليس هناك أشق على النفس من غربة الروح رغم المحيط الهائل من البشر الذي يحيط به.
كأنني وجدت روحاً افتقدتها كل هذه العقود.
نلتقي اسبوعياً عبر الأثير.
اليس رائعا أن يكون للإنسان مثل هذا الصديق؟
في أسبوع فيينا التقي في كل مرة بأصدقاء من النمسا.
على العشاء ايضاً.
هم من ينظمون/وينظمن وقفات احتجاج أسبوعية امام مركز الملك عبدالله للحوار بين الأديان في فيينا للمطالبة بإطلاق سراح الكاتب والمدون السعودي رائف بدوي.
شخصيات إنسانية.
تجمعنا مواقف حازمة ضد الأيديولوجيات الشمولية في كل صورها، وعلى الأخص الإسلامية الأصولية واليمين المتطرف. والاثنتان متواجدتان في النمسا.
وإيمان عميق بالحريات الأساسية للإنسان، وبحريته، كرامته، وحقه في التعبير.
كما تجمعنا ايضاً قضية واحدة، الحرية لرائف بدوي.
هل تذكروه؟ هل تذكرنه؟
كثيرة هي القضايا التي احملها على كتفي.
لكن قضيته هو تحديداً أصبحت بالنسبة لي هاجساً شخصيا.
أبني وأحبه. مسجون ظلماً، وأريد له الحرية. فمن يلومني؟
قضية رائف بدوي لمن لا يعرف بدأت بسبب كتاباته الليبرالية.
رجل رفض سلطة الكهنوت وممارساتها في وطنه.
رفض سلطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي خنقت حياة الإنسان في المملكة.
ودعا إلى مواجهة التطرف الذي تدعمه مؤسسات وجامعات دينية.
وتحديدا التطرف بكل اشكاله الأصولية التي نعرفها. ذاك الذي تسبب في أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية.
طالب أيضاً بحرية المرأة. والقضاء على نظام الولاية الذي كبلها.
وطالب بحرية الإنسان. والقبول بالأخر. واحترام كافة العقائد.
ثم تغنى بالحياة.
الحياة، الموسيقى، الألوان، والفن.
فأرادوا كتم صوته.
زُج به في السجن بسبب أبيه.
اعتبره عاصياً.
ثم حكم عليه بالسجن عشرة سنوات لإهانته الإسلام. كأن رجال الدين هو الإسلام؟ وبالجلد ألف جلدة!
أخذت قضيته منحا دولياً عندما أقدمت سلطات السجن على جلده في يناير 2015. ولأن جلده تم علناً، ولأن العالم كان يئن تحت وطأة المجزرة التي ارتكبها إرهابيون ضد العاملين والعاملات في مجلة شارلي أبيدو الفرنسية الساخرة، جاء الاستنكار عالمياً.
كل يوم جمعة منذ جلد رائف بدوي عام 2015 تقف هذه المجموعة أمام مركز الملك عبدالله للحوار بين الأديان في وقفة احتجاج قصيرة مطالبة بإطلاق سراح رائف.
كل يوم جمعة.
منذ عام 2015.
منهن الكاتبة والفيلسوفة، ومنهم الباحث أو الموظف أو المتقاعد.
رغم ذلك، في كل جمعة، يستأذنون ويستأذن من مقار علمهم/ن، كي يشاركوا/ن في الوقفة الاحتجاجية. بعدها يعود كل منهم/ن إلى مقر العمل.
كل يوم جمعة.
عندما يسافر أحدهم/ن، يأخذ أو تأخذ صورة لها، مع لافتة بصورة رائف وعبارة الحرية له، ثم تضعه على صفحتها في الفايس بوك.
وعندما حطت جائحة الكورونا رحالها في النمسا، عمد كل المشاركين والمشاركات إلى تنظيم وقفات احتجاجية عن بعد.
كل يوم جمعة.
لم يتعبوا. لم يتعبن.
اصبح رائف بالنسبة لهم/لهن كما هو بالنسبة لي، صديقاً لم يعرفوه، احبوه، ويريدون له الحرية.
لأنه دافع عن الحرية، علينا نحن ان ندافع عن حريته.
هذا هو لسان حالهم.
لأنه أراد الكرامة للإنسان في وطنه، علينا نحن ان ندافع عن كرامته.
لم ييأسوا. لم ييأسن.
نينا شولتز هي فيلسوفة وكاتبة المانية، والطاقة الدافعة لهذه الحملة. عاشت في المانيا الشرقية خلال فترة الحكم الشيوعي. تعرف خطر الأنظمة الشمولية. لذلك تقف موقفاً واضحاً رافضاً من الحركات الإسلامية الأصولية المتطرفة ومن حركات اليمين المتطرف المتواجدة في المانيا والنمسا على حد سواء.
قالت لي في عشاءنا الأخير هذا الأسبوع، “إنها لا تفهم سبب هذا الإصرار على سجن رائف بدوي. فالسنوات الأخيرة شهدت تبدلات إيجابية كثيرة في السعودية، رغم التجاوزات الخطيرة في الملف الحقوقي. بعض هذه التبدلات تنسجم في بعضها مع ما كان رائف يطالب به. فعلام هذه القسوة إذن؟»
قلت لها، "لعل سطوة السلطة الدينية لازالت قائمة رغم كل ما يحدث. على الأقل السلطة الدينية التي تحتاجها القوة السياسية لمواجهة خصومها من الإسلام السياسي. هذه السلطة الدينية لم تسامح رائف أبدأ على كلماته الواضحة ونقده المباشر لها. ولأنها تكرهه، فلعل صاحب السلطة السياسية متردد في إغضابها. لاسيما وانه اثقل عليها بمطالبه بتغيير خطابها الديني في اتجاه رؤيته المستقبلية."
ولو كان الأمر كذلك فإن كل هذا الحديث عن التغيير الإيجابي في السعودية ليس مستديماً. فطالما السلطة الدينية هي التي تضفي الشرعية على ما يحدث، فإن أي تغيير قد يطال السلطة السياسية، قد يعود بالسعودية إلى عصر فرض نظام ديني اصولي متطرف على المجتمع. ومادام صاحب السلطة السياسية متردد وربما خائف، فعن أي تغيير نتحدث؟
تفسير قد يبدو غير مقنعاً. لكنه قد يوضح هذا التعنت المؤلم.
في مواجهة هذا التعنت، تقف هذه المجموعة كل يوم جمعة مُصّرة، على ان من دافع عن الحرية يستحق الحرية.
سألتني نينا في عشاءنا يوم الثلاثاء الماضي، إذا كان جدول عملي يسمح لي بالإنضمام إلى وقفتهم/ن يوم الجمعة القادم، في الحادي عشر من سبتمبر، الذي سيصادف الوقفة رقم 298.
كنت قد منيت نفسي بجولة سياحية صباح الجمعة على حنطور قبل سفري بعد الظهر بقليل.
لكن السؤال نفسه حسم الرد مع الوقت، فكانت الإجابة بالإيجاب.
اكتب هذه الكلمات اليوم، الجمعة الحادي عشر من سبتمبر. في الطائرة ثم القطار.
بعد أن غادرت فيننا. مدينتي المفضلة، بأنغامها وحضارتها وطابعها المعماري الرائع.
أكتبها بعد أن شاركت في الوقفة الاحتجاجية رقم 298 للحملة النمساوية الحقوقية المطالبة بحرية المدون السعودي رائف بدوي.
وقفت مع أصدقاء وصديقات لي.
يجمعنا موقف. يجمعنا مبدأ. ويجمعنا حب لرجل شاب. صاحب قلم.
يدفع ثمن غضب أبيه، ذاك الذي كان أقسى عليه من الغريب.
يدفع ثمن كره سلطة دينية، تلك التي لازالت حاقدة عليه بسبب رفضه لكهنوتها.
ولأنه دافع عن الحرية، علينا نحن ان ندافع عن حريته.
ولأنه أراد الكرامة للإنسان في وطنه، علينا نحن ان ندافع عن كرامته.
ولأنه أصر على إمكانية الإصلاح في وطنه، نظل نحن أيضاً على قناعة أن وطنه قادر على ذلك.
وقفنا معاً، في وسط فيينا، في وقفه احتجاجية، كل منا يحمل صورته،
وعليها عبارة قصيرة: "الحرية لرائف بدوي".