منهج ماركس پول سويزى ترجمة خليل كلفت
خليل كلفت
الحوار المتمدن
-
العدد: 6471 - 2020 / 1 / 22 - 16:41
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
منهج ماركس بقلم پول سويزى ترجمة خليل كلفت
من المحتمل أن تكون مناقشات المنهجية فى الاقتصاد، كما فى المجالات الأخرى، مزعجة وغير مجزية. ومع هذا فإن تفادِى المشكلة تماما يعنى المخاطرة بسوء فهْم خطير. ولهذا، سنحاول فى هذا الفصل بأقصى إيجاز ممكن أن نبدأ بالعناصر الرئيسية فى مقاربة ماركس لعلم الاقتصاد. وهذا هو الأهم فى حالة ماركس إذ إن كثيرا من مساهماته الأصيلة والمهمة ذات طابع منهجى. بل ذهب لوكاش، وهو أحد الماركسيين المعاصرين الأكثر ذكاءً، بعيدا إلى حد تأكيد أن "الأرثوذكسية فى مسائل الماركسية ترتبط على وجه الحصر بالمنهج"(1).
1. ضرورة التجريد
ومن وجهة نظر شكلية قد تبدو المنهجية الاقتصادية عند ماركس مماثلة بصورة صارخة بالمنهجية الاقتصادية عند سابقيه الكلاسيكيين ولاحقيه النيو-كلاسيكيين. ذلك أنه كان نصيرا قويا للمنهج التجريدى-الاستقرائى الذى كان سمة مميزة ملحوظة للمدرسة الريكاردية. كتب ماركس فى مقدمة "رأس المال": "فى تحليل الأشكال الاقتصادية، لافائدة لا للميكروسكوپات ولا للمعامِلات الكيميائية. ويجب أن تحل محلهما كليهما قوة التجريد". وعلاوة على هذا كان ماركس يؤمن ﺑ------ ويمارس ما يسميه المنظرون المحدثون بمنهج "التقريبات المتعاقبة"، الذى يتمثل فى الانطلاق من الأكثر تجريدا إلى الأكثر عينية بطريقة الخطوة-خطوة، مُلْغِيًا الافتراضات المُبسَّطة فى مراحل متتالية من البحث بحيث يمكن للنظرية أن تأخذ فى اعتبارها وتفسر نطاقا متزايد الاتساع من الظواهر الفعلية.
غير أننا عندما نبحث أكثر نجد اختلافات ملحوظة بين ماركس وممثلى التراث الكلاسيكى والنيو-كلاسيكى. ومبدأ التجريد ذاته عاجز عن إنتاج المعرفة، وتتعلق الأسئلة الصعبة بطريقة تطبيقه. وبكلمات أخرى يجب أن يقرر المرء ماذا يمكن التجريد منه وماذا لا يمكن التجريد منه. وهنا تبرز مسألتان على الأقل. أولا، أىُّ مشكلة يجرى بحثها؟ و، ثانيا، ما هى العناصر الجوهرية للمشكلة؟ وإذا حصلنا على الإجابة على هذين السؤالين، سنعرف بالتأكيد ما الذى لا يمكن التجريد منه، و، ضمن هذه الحدود، سنكون قادرين على صياغة فرضياتنا وفقا لمعايير الملاءمة والبساطة. والآن، لا حاجة بنا إلى الذهاب أبعد من السؤال الأول لإقناع أنفسنا بأن الاقتصاديين لم يكونوا دائما متفقين على أهدافهم. ويمكن الاستشهاد بالمشكلات التى طرح العديد من الاقتصاديين المعروفين جيدا على أنفسهم بحثها: "طبيعة وأسباب ثروة الأمم" (آدم سميث Adam Smith)؛ "القوانين التى تنظِّم توزيع حاصلات الأرض" (ريكاردو Ricardo)؛ "أفعال الإنسان فى أعمال الحياة العادية" (مارشال Marshal)؛ "السعر وأسبابه ونتائجه المباشرة" (داڤ------نپورت Davenport)؛ "السلوك البشرى كعلاقة بين الغايات والوسائل النادرة ذات الاستعمالات البديلة" (روبنس Robbins). ولا شك فى أنه يوجد تراكُب هنا، غير أن من المشكوك فيه ما إذا كان يمكن النظر إلى كل اثنين على أنهما متطابقان. وينتج عن هذا أنه لن يعالج باحثان موادهما - بما فى ذلك الطريقة التى يطبقان بها سلاح التجريد - بنفس الطريقة بالضبط. ويمكن أن يكون التجريد من اختلاف يحاول الآخر تفسيره، غير أنه يمكن أن يكون كلٌّ منهما مبرَّرا من وجهة نظر المشكلة التى يدرسها. ويجب أن يأخذ دارس ماركس هذا فى الاعتبار على وجه الخصوص، لأن هدفه المتمثل فى "أن يكشف القانون الاقتصادى لحركة المجتمع الحديث"(2)- مختلف جذريا عن هدف المدارس الفكرية غير الماركسية.
على أنه حتى بعد أن يكون قد تم تحديد مهمة الباحث، يظل لا توجد أىّ صيغة مستقلة لإرشاد خُطاه. وكما لاحظ هيجل بصورة صحيحة جدا فى المدخل لكتابه "فلسفة التاريخ" Philosophy of History: فى "عملية الفهم العلمى، من المهم أن يتم تمييز الجوهرى والمجيء به إلى الصدارة فى مقابل ما-يسمَّى بغير-الجوهرى. غير أنه فى سبيل جعل هذا ممكنا علينا أن نعرف ما هو جوهرى essential ..."(3). المجيء بالأساسى إلى الصدارة وجعْل تحليله ممكنا: تلك هى المهمة النوعية للتجريد. ولكنْ من أين تكون البداية؟ وكيف يتم تمييز الجوهرى من غير-الجوهرى؟ يمكن أن تطرح المنهجية هذه الأسئلة، غير أنها للأسف لا يمكن أن تمدَّنا بإجابات جاهزة. ولو استطاعت، لكانت "عملية الفهم العلمى" مسألة روتينية أكثر بكثير عما هى عليه بالفعل. وفى الممارسة، من الضرورى لصياغة فرضيات عما هو جوهرى، العمل من خلال هذه الفرضيات، وفحص استنتاجاتها على أساس معطيات التجربة. وإذا كان لنا أن نفهم منجزات عالم بعينه فإن علينا، لهذا، أن نحاول تحديد فرضياته الأساسية وأن نرى، إذا كان ممكنا، من أين حصل عليها وكيف يقوم بتطوير مقترحاتها. ولا حاجة تقريبا إلى الإشارة إلى أن هذا ليس دائما مهمة سهلة، غير أننا فى حالة ماركس نعرف ما يكفى حول تطوره الفكرى للقيام بهذه المحاولة.
وكطالب جامعى، ركَّز ماركس على فقه القانون والفلسفة وخطَّط للحصول على مهنة أكاديمية. وحالت ميوله "الراديكالية"—دون حصوله على منصب تعليمى، وفى 1842 قبِل رئاسة تحرير "راينيشه تسايتونج" [الجريدة الرينانية] Rheinische Zeitung. وبهذه الصفة صار ماركس على صلة للمرة الأولى مع مشكلات اجتماعية فعلية وكذلك مع الأفكار الاجتماعية الجديدة، خاصةً الأفكار الاشتراكية والشيوعية التى كانت تنطلق من فرنسا بكميات كبيرة فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر. وفى مناظرة مع "آوجسبيرجر تسايتونج" [الجريدة الآوجسبيجرية] Augsburger Zeitung، كان ماركس مُحْبَطًا بطريقة ما عندما اكتشف أنه لا يعرف ما هى الاشتراكية؛ ولهذا عقد العزم على أن يُعطى الموضوع فى أول فرصة الدراسة الجادة التى كان مقتنعا بأنه جدير بها. ولم تتأخر الفرصة عن المجيء؛ ففى أشهر قليلة أغلقت السلطات "راينيشه تسايتونج"، ووجد ماركس نفسه ناطقا حرًّا باسمه. وفى الحال انغمس فى دراسة مكثفة عن الاشتراكية والشيوعية، والتاريخ الفرنسى، والاقتصاد السياسى الإنجليزى. وإنما أثناء الشهور القليلة التالية، التى قضى معظمها فى پاريس وبروكسل، دخل فى قطيعة مع ماضيه الفلسفى وحقق وجهة النظر الناضجة التى كان عليه أن يكتب منها أعماله الاقتصادية اللاحقة. وباختصار، كانت مقاربته لعلم الاقتصاد قد تشكلت وتقررت بوقت طويل قبل أن يتخذ قرار أن يجعل دراسة علم الاقتصاد اهتمامه الرئيسى.
ولدينا فى المقدمة الشهيرة عن حق لكتابه "نقد الاقتصاد السياسى" The Critique of Political Economy عرضٌ ﻟ------ ماركس بخصوص تطوُّره الفكرى خلال تلك الأعوام الحاسمة. ورغم أن كثيرين من القراء سيكونون مطَّلعين على هذه المقدمة، فربما لا يكون من الخطأ نسخ جانب منها هنا. (الحروف المائلة مضافة).
قادتنى دراساتى إلى استنتاج أن العلاقات القانونية وكذلك أشكال الدولة لا يمكن لا فهمها فى حد ذاتها، ولا تفسيرها بما يسمَّى بالتقدم العام للعقل البشرى، بل هى متجذرة فى الشروط المادية للحياة والتى يوجزها هيجل على طريقة الإنجليز والفرنسيين فى القرن الثامن عشر تحت اسم "المجتمع المدنى"؛ وينبغى البحث عن ذلك المجتمع المدنى فى الاقتصاد السياسى. وتلك الدراسة التى كنتُ قد بدأتُـها فى پاريس، واصلتُها فى بروكسل . . . ولعلَّ من الممكن إيجاز الاستنتاج العام الذى توصلتُ إليه، والذى، بمجرد أن توصلتُ إليه، استمرَّ فى أن يكون بمثابة الخيط الرئيسى فى دراساتى، فيما يلى: يدخل البشر فى سياق الإنتاج الاجتماعى الذى يقومون به فى علاقات محدَّدة مستقلة عن إرادتهم؛ وتتوافق علاقات الإنتاج هذه مع مرحلة محدَّدة من تطوُّر قُوى إنتاجهم المادية. ويشكِّل المجموع الكلى لعلاقات الإنتاج هذه، البنية الاقتصادية للمجتمع-الأساس الحقيقى الذى ترتفع فوقه أبنية فوقية قانونية وسياسية وتتوافق معه أشكال محدَّدة للوعى الاجتماعى. ويحدِّد نمط الإنتاج فى الحياة المادية الطابع العام للعمليات الاجتماعية، والسياسية، والروحية للحياة. وليس وعى البشر هو ما يحدِّد وجودهم، بل، على العكس، يُحدِّد وجودُهم الاجتماعى وعيَهم. وعند مرحلة بعينها من التطور، تدخل قوى الإنتاج المادية فى المجتمع فى صراع مع علاقات الإنتاج القائمة، أو- ما ليس سوى تعبير قانونى عن نفس الشيء- مع علاقات الملكية التى كانت تعمل ضمنها من قبل. ومن أشكال تطوُّر القوى المنتجة هذه تتحوَّل هذه العلاقات إلى قيود عليه. عندئذ تأتى فترة الثورة الاجتماعية. ومع تغيُّر الأساس الاقتصادى تتحول البنية الفوقية الهائلة بكاملها بسرعة إلى هذا الحد أو ذاك.
ومن الواضح من هذا أن اهتمام ماركس الرئيسى كان يتمثَّل فى المجتمع ككلّ، و، بصورة أخصّ، فى عملية التغيير الاجتماعى. والاقتصاد السياسى-"تشريح" المجتمع- مهم ليس بصورة رئيسية فى ذاته بل لأنه فى هذا المجال يوجد الدافع إلى التغيير. ويجب التشديد، لأن العكس تم تأكيده فى كثير من الأحيان، أن ماركس لم يكن يحاول اختزال كل شيء إلى شروط اقتصادية. وكان بالأحرى يحاول أن يكشف العلاقات المتبادلة بين العوامل الاقتصادية وغير الاقتصادية فى مجموع الوجود الاجتماعى.
وحالما توصَّل إلى استنتاج أن من المفترض أن يكون مفتاح التغيير الاجتماعى موجودا فى حركات نمط الإنتاج، كان ماركس ملتزما فى الحقيقة بدراسة شاملة للاقتصاد السياسى من وجهة نظر القوانين التى تحكم التغيُّرات فى نمط الإنتاج. وصار الآن "كشف القانون الاقتصادى لحركة المجتمع الحديث الهدف العلمى الذى كرَّس له معظم باقى حياته".
كيف يمكن، بافتراض هذا الهدف، أن يميِّز المرء الجوانب الجوهرية للمشكلة؟ ولأنه بدا أنها تقع تحت دراسات البحث عن واقع التطور التاريخى، احتفظ ماركس بتلك العناصر فى فكر هيجل التى شددت على المسار والتطور من خلال صراع القوى المتعارضة أو المتناقضة. غير أنه، على خلاف هيجل، تتبَّع صراعات تاريخية حاسمة إلى جذورها فى نمط الإنتاج؛ أىْ أنه اكتشفها لتكون ما سمَّاه بالصراعات الطبقية. وبالتالى يبدأ "البيان الشيوعى" (1847) Communist Manifesto بعد إشارة تمهيدية كما يلى: "تاريخ كل مجتمع قائم إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراعات الطبقية". وتتجلى القوى الاقتصادية العاملة فى الصراعات الطبقية فى ظل الرأسمالية وكذلك فى ظل الأشكال المبكرة للمجتمع. وينتج عن هذا أن العلاقات الاقتصادية الأساسية هى تلك التى تمثِّل أساس شكل الصراع الطبقى وتعبِّر عن نفسها فيه. وهذه هى العناصر الجوهرية التى يجب عزلها وتحليلها عبْر منهج التجريد.
على أنه حتى هذه الفرضية يمكن أن تؤدِّى إلى تدابير متباعدة. وكان الاقتصاديون الكلاسيكيون أيضا مهتمين كثيرا جدا بالجذور الاقتصادية للصراعات الطبقية- وبمعنى ما فإن هذا بالضبط هو ما كان يعنيه "توزيع حاصلات الأرض" ﻟ------ ريكاردو- غير أن التناحر الاجتماعى الذى شغل معظم اهتمامهم، الفكرى والوجدانى على السواء، كان الصراع بين الرأسماليين وبارونات الأرض. ووضعُوا بالتالى تشديدا، مُهيمنا أحيانا، على الأرض والدخل المستمد من ملكية الأرض. والحقيقة أن ريكاردو دون أن يعرف "المذهب الصحيح للريع"، أكَّد أن "من المستحيل أن نفهم تأثير تقدم الثروة على الأرباح والأجور، أو أن نتتبَّع تأثير الضرائب على مختلف طبقات المجتمع . . ."(4) وأدرك ماركس الميْل إلى التركيز الرئيسى على الأرض والريع، غير أنه نظر إلى ذلك على أنه مضلِّل. وقد كتب: "لا شيء يبدو أكثر طبيعية من البدء، مع الملكية العقارية، حيث إنها مرتبطة بالأرض، مصدر كل إنتاج وكل وجود، ومع أول شكل للإنتاج فى كل الجماعات المستقرة إلى هذا الحد أو ذاك، أعنى، الزراعة"(5). وأضاف فى الحال أنه مع هذا "لا شيء يمكن أن يكون أكثر خطأً". ومنطقه فى اتخاذ هذا الموقف هو مفتاح برنامج عمله اللاحق. فى المجتمع الرأسمالى،
تنتهى الزراعة إلى أن تكون بصورة متزايدة مجرد فرع من الصناعة ويسيطر عليها رأس المال بالكامل . . . رأس المال هو القوة الكلية-السيطرة فى المجتمع البرچوازى. ويجب أن يشكِّل نقطة الانطلاق وكذلك النهاية ويجب تطويره قبل تطوير ملكية الأرض . . .
ويمكن بالتالى أن يكون غير عملى وخاطئا أن يتم ترتيب المقولات الاقتصادية بالترتيب الذى كانت فيه العوامل الحاسمة فى مجرى التاريخ. وبالأحرى فإن ترتيب تسلسلها تُحدِّده العلاقة التى يحملها بعضها لبعضها الآخر فى المجتمع البرچوازى الحديث، وهو النقيض المباشر لما يبدو أنه ترتيبها الطبيعى أو ترتيب تطورها التاريخى. وما يهمنا ليس المكانة التى تشغلها العلاقات الاقتصادية فى التعاقب التاريخى لمختلف أشكال المجتمع . . . إننا نهتم بارتباطها العضوى داخل المجتمع البرچوازى الحديث.(6)
والجملة التى بالحروف المائلة مهمة بصورة خاصة. وواقع أن "رأس المال يمثل القوة الاقتصادية الكلية السيطرة فى المجتمع البرچوازى" كان يعنى ﻟ------ ماركس، كما كان سيعنى لأحد الاقتصاديين الكلاسيكيين، أن العلاقة الاقتصادية الرئيسية هى تلك التى بين الرأسماليين والعمال. كما عبَّر عن هذه الفكرة فى مكان آخر، "تُحدِّد العلاقة بين العمل المأجور ورأس المال الطابع الكلى لنمط الإنتاج"(7). وحتى قبل أن يبدأ أبحاثه عن النقد وعن رأس المال، كان قد عبّر عن نفس الرأى فى المانيفستو (البيان الشيوعى): "المجتمع ككل ينقسم إلى معسكرين كبيرين متعاديين، إلى طبقتين كبيرتين تُواجهان بعضهما البعض- البرچوازية والپروليتاريا". ولا بد أن هذه العلاقة تشكِّل مركز البحث؛ ويجب استعمال قوة التجريد لعزلها، لاختزالها إلى شكلها الأنقى، لتمكينها من الخضوع للتحليل الأكثر تدقيقا، متحرِّرا من كل الاضطرابات المستقلة.
ويتطلب اتخاذ هذا الموقف تدبيرا ينطوى على الأقل على خطوتين متميزتين بوضوح.
أولا، يجب الاستبعاد مؤقتا لكل العلاقات الاجتماعية باستثناء تلك التى بين رأس المال والعمل، لإعادة إدخالها، علاقة بعد علاقة، فقط فى مرحلة لاحقة للتحليل.
ثانيا، يجب اختزال العلاقة رأس المال-العمل نفسها إلى شكلها أو أشكالها الأكثر أهمية. وهذه ليست مسألة كمية، فهى لا تعنى أن الأشكال الأكثر تواتُرا، أو شكلية لهذه العلاقة يجب اختيارها للتحليل. والأهمية، فى مثل هذا السياق، مسألة تتعلق بالسمات البنيوية المميِّزة وميول المجتمع بكامله. وقد اختار ماركس، كما هو معروف، أشكال العلاقة رأس المال-العمل التى تنشأ فى مجال الإنتاج الصناعى باعتباره الأكثر أهمية للمجتمع الرأسمالى الحديث. ويجرى اختزال الرأسماليين والعمال على السواء إلى عدد من الأنماط القياسية، التى تُزال منها كل السمات المميِّزة التى لا صلة لها بالعلاقة المطروحة للبحث. وقد كتب فى مقدمة "رأس المال"، "يجرى تناول الأفراد فقط بقدر ما تكون تشخيصات لمقولات اقتصادية، تجسيدات لعلاقات طبقية ومصالح طبقية محدَّدة".
فما هى طبيعة العلاقة رأس المال-العمل هذه؟ إنها من حيث الشكل علاقة تبادلية. الرأسمالى يشترى قوة العمل من العامل؛ والعامل يتلقَّى نقودا من الرأسمالى يحصل بها العامل على ضروريات الحياة. ومن الواضح أنها كعلاقة تبادلية، حالة خاصة من نوع أوسع من مثل هذه العلاقات التى لها شكل وبنية مشتركان. ومن الواضح، بالتالى، أن دراسة العلاقة رأس المال-العمل يجب أن تبدأ بتحليل للظاهرة العامة للتبادل.
وبهذه الطريقة نصل إلى نقطة الانطلاق الفعلية للاقتصاد السياسى عند ماركس. ويحمل الجزء I من المجلد الأول من "رأس المال"، وهو يلخص الكتاب السابق "نقد الاقتصاد السياسى"، عنوان "السِّلَع". والسلعة أىّ شيء مُعَدّ للتبادل أكثر مما للاستعمال المباشر؛ ولهذا فإن تحليل السِّلَع يقتضى تحليل العلاقة التبادلية وجانبها الكمى (القيمة التبادلية)؛ وهو يشمل، علاوة على هذا، تحليلا للنقود. وكما سنرى فيما بعد، تَنْتُج بعض النتائج الأكثر إثارة التى يتوصل إليها ماركس عن معالجة السِّلَع.
وبعد أن أرسى الأساس الضرورى بتحليل السِّلَع، ينطلق ماركس إلى مهمته الرئيسية. إذْ إن تقريبا كامل باقى المجلد الأول من "رأس المال" مخصَّص للعلاقة رأس المال-العمل فى أشكالها "الأكثر انعزالا" و "الأكثر نقاءً". وبكلمات أخرى، يبدأ المجلد I ويبقى على مستوًى عالٍ من التجريد.
ومن الصعب على غير المُلِمِّين بمنهج ماركس أن يُصَدِّقوا أن هذا العرْض يمكن أن يكون مقصودا بجدِّية. وهم يُشيرون إلى تلك الثروة من المادة الوقائعية والتاريخية التى تنطوى على مثل هذه السمة البارزة للمجلد I. ألا يعنى هذا أن ماركس كان، فى الواقع، العكس المباشر للمجرَّد؟ هذا المنطق لا يدرك النقطة المهمة. ذلك أن الهدف المنطقى فى العلوم الاجتماعية لا يعنى أبدا أن نبتعد عن العالم الواقعى بل يعنى بالأحرى أن نعزل جوانب بعينها من العالم الواقعى فى سبيل البحث المكثف. وبالتالى فإننا عندما نقول إننا نستخدم مستوًى عاليا من التجريد نعنى أننا نتعامل مع عدد صغير نسبيا من جوانب الواقع؛ ونحن لا نعنى قطعا أن تلك الجوانب التى نتعامل معها ليست قابلة للبحث التاريخى أو التوضيح الوقائعى. ويكفى فحص خاطف لتوضيح أن الجانب الأكبر من المادة الوقائعية التى يقدِّمها ماركس فى المجلد I يرتبط مباشرة بالعلاقة رأس المال-العمل وله طابع توضيحى أو تاريخى. وهو، بالتالى، إثبات أكثر منه تناقضا مع تأكيد أن المجلد I يبدأ ويبقى على مستوًى عالٍ من التجريد.
ويسمح لنا ترسيخ هذا الواقع بأن نستنتج نتيجة منطقية مهمة هى أن النتائج المحققة فى المجلد I ذات طابع مؤقت. وهى تخضع فى حالات كثيرة، ولكنْ ليس فى كل الحالات بالضرورة، لتعديل مكثف إلى هذا الحد أو ذاك على مستوًى أدنى من التجريد، إنْ جاز القول، عند أخذ جوانب أكثر من الواقع فى الاعتبار(أ). وينتج عن هذا أن الميول أو القوانين المذكورة فى المجلد I لا ينبغى تفسيرها على أنها تنبؤات مباشرة عن المستقبل. وصحتها مرتبطة بمستوى التجريد الذى استُمدَّت منه هذه التنبؤات وبمدى التعديلات التى ينبغى أن تخضع لها عندما يتم الوصول بها إلى مستوى أكثر واقعية. وكان من شأن الإقرار بهذا الواقع أن يؤدِّى إلى تفادى قدر كبير من الجدال العقيم. ولعلنا نستشهد كمثال بقانون شهير هو "قانون البؤس المتزايد للپروليتاريا"، الذى سمَّاه ماركس "القانون العام المطلق للتراكم الرأسمالى"(8). وقد اعتقد أعداء الماركسية دائما أن هذا القانون زائف واستنتجوا من هذا عدم صحة تحليل ماركس للرأسمالية(ب). ومن جهة أخرى، ظل بعض الماركسيين مهتمين كذلك بإثبات صحة القانون(ج). وهكذا احتدم جدال يخلق كثيرا من الحرارة ويُلقى قليلا من الضوء على مدى أكثر من نصف قرن. والجانبان ملومان على نفس سوء الفهم لمنهج ماركس. والقانون المطروح للنقاش مستمد على مستوى عال من التجريد؛ وكلمة "مطلق" المستعمَل فى وصفه مستعمَلٌ بالمعنى الهيجلى "للتجريد"؛ وهى لا تشكِّل بأىّ معنى تنبُّؤًا ملموسا عن المستقبل. وعلاوة على هذا، فى هذه الحالة المحددة، يقول ماركس فى لغة واضحة تماما، بحيث يبدو من الصعب بصورة خاصة قبول سوء التفسير. وبعد أن أعلن القانون، يضيف فى الحال، "مثل كل القوانين الأخرى يتم تعديل أدائه عن طريق ظروف كثيرة، لا يهمنا تحليلها هنا" وسيكون من المستحيل أن نجد تحذيرا أوضح من تفسير القانون على أنه تنبُّؤ مادىّ. ومن شأن نظرة حقيقية إلى مشكلات المنهج أن تجعل سوء الفهم هذا، جنبا إلى جنب مع أشكال كثيرة أخرى من سوء الفهم، غير ضرورية.
ولا حاجة بنا إلى مناقشة كامل مشروع "رأس المال". ولأهدافنا الحالية، من الضرورى فقط ، أن نشير إلى أن هدف المجلدين 2 و 3 أن يأخذا فى الاعتبار عوامل تم تركها عن قصد خارج المجلد I، إنْ جاز القول، إجراء التحليل عند مستويات أدنى فأدنى من التجريد. وفى الوقت نفسه، وبمعنى ما فإن من المفارقات، أن المجلدين 2 و 3 يحتويان على مادة وقائعية أقل نسبيا من المجلد I. ويجرى تفسير هذا بحالتهما الناقصة. وفى جمعه المجلدين 2 و 3 من مخطوطات ماركس، من ناحية أخرى، وجد إنجلس قدرا كبيرا من المادة الوصفية، ولكنها كانت "مُرتّبة بالكاد، أقل منها محسوبة"(9). أما المجلد I، من الناحية الأخرى، فقد أعدَّه ماركس للصحافة بنفسه، بحيث إنه كان قادرا على دمْج مادته الوقائعية والنظرية بطريقة من الجائز أن إنجلس لم يكن قادرا على تحقيقها للمجلدين اللاحقين دون أن يذهب إلى أبعد من وظائف محرِّر، وهو طريق رفض بحكمة أن يتبعه.
وقد سبق أن ناقشنا استخدام ماركس للتجريد بعبارات عامة ولا نعتزم فى هذه المرحلة الدخول فى حالات خاصة. غير أن من المفيد أن نشير إلى أن انتقادات كثيرة جدا لعلم اقتصاد ماركس مبنية، بصورة واعية أو لا واعية، على رفضٍ للفرضيات التى يعمل بها. وعلى مناقشتنا أن يساعد على تحديد معايير نحكم بها على صحة هذه الانتقادات. وفى كل حالة، ينبغى توجيه الأسئلة الثلاثة التالية عن الفرضيات (أو التجريدات) الميسرة التى تؤدِّى إلى الانتقاد: (1) هل هى مَصوغة بمراعاة حقيقية للمشكلة المطروحة للبحث؟ (2) هل تستبعد العناصر غير الجوهرية للمشكلة؟ (3) هل لا تذهب إلى حد استبعاد عناصر جوهرية؟ إذا كان من الممكن الرد بالإيجاب على كل هذه الأسئلة الثلاثة، يمكن أن نقول إنه تمت مراعاة مبدأ التجريد الملائم. ويقدِّم هذا المبدأ عونا كبيرا فى اختبار الملاءمة والصحة لدائرة كبيرة من انتقاد ماركس.
2. الطابع التاريخى لفكر ماركس
يقول لوكاش إن منهج ماركس، "يتمثل فى جوهره التاريخى الأعمق"(10). وهذا صحيح بالتأكيد، ولا يمكن النظر إلى أية مناقشة تمتنع عن تأكيد هذا على أنها مقبولة(د).
وفى نظر ماركس، لا يتمثل الواقع الاجتماعى كثيرا فى مجموعة محدَّدة من العلاقات، ولا يمثل بالتأكيد خليطا من الأشياء. إنه بالأحرى عملية التغيُّر الكامنة فى مجموعة محدَّدة من العلاقات. وبكلمات أخرى، الواقع الاجتماعى هو العملية التاريخية، وهى عملية لا تعرف، من حيث المبدأ، أىّ غائية ولا أىّ أماكن للتوقُّف(ه). وتمرّ الأنظمة الاجتماعية، مثل الأفراد، بدورة حياة، وتغادر المشهد، عندما "من أشكال لتطور قوى الإنتاج" ... "تتحول إلى قيود عليها". غير أن عملية التغيُّر الاجتماعى ليست آلية خالصة؛ إنها بالأحرى نتاج الفعل البشرى، غير أن الفعل مقيَّد بنوع المجتمع الذى تمتد جذورها فيه. كتب ماركس "البشر يصنعون تاريخهم الخاص، غير أنهم لا يصنعونه كما يرغبون؛ إنهم لا يصنعونه، إنهم لا يصنعونه تحت ظروف اختاروها بأنفسهم، بل تحت ظروف خاصة موجودة، ومعطاة، مباشرة ومنقولة من الماضى"(11). إن المجتمع فى آن معا يُغيِّر و، ضمن حدود، يمكن تغييره.
ويُفضى الالتزام المتماسك بهذا الموقف إلى مقاربة تاريخية متسقة للعلوم الاجتماعية. وعلاوة على هذا- وليس هذا إلا جانبا آخر لنفس الشيء تؤدِّى إلى مقاربة نقدية لكل شكل للمجتمع، تشمل الحاضر. ولا حاجة بنا إلى التشديد على هذه النقطة. فهى سمة مميِّزة للفكر غير الماركسى إلى حد أنه يمكن أن يفهم الطابع العابر لكل الأنظمة الاجتماعية السابقة، بينما تفشل نفس هذه المَلَكة العقلية عندما يتعلق الأمر بالنظام الرأسمالى ذاته. ويصحّ هذا، بلا شك، إلى حد ما على كل العهود التاريخية، ولكنْ، كما سنرى فى موضع لاحق، توجد أسباب خاصة فيما يتعلق بأن هذا ينطبق بقوة خاصة على عهدنا(و). وفى نظر المفكر الحديث النموذجى، كما عبَّر ماركس، "كان هناك تاريخ،غير أنه لم يعُد يوجد أىّ تاريخ"(12). وملاحظة لوكاش بهذا الخصوص لافتة للنظر:
هذا اللُّبّ غير التاريخى واللاتاريخى للفكر البرچوازى يظهر فى شكله الأكثر سطوعا عندما ننظر إلى مشكلة الحاضر على أنها مشكلة تاريخية . . . والعجز الكامل لكل المفكرين والمؤرخين البرچوازيين عن فهْم التطورات العالمية-التاريخية فى الحاضر على أنها تاريخ عالمى يجب أن يبقى ذكرى غير سارَّة لكل الأشخاص العقلاء منذ الحرب العالمية والثورة العالمية(13).
وليس بوسع أىّ شيء حدث منذ 1922 أن يقود المرء إلى تغيير رأيه، بل العكس. ومن جهة أخرى، يفسر الماركسيون التطورات المعاصرة بصورة متماسكة فى إطار تاريخى-عالمى. ومن الواضح أن الاختلاف ليس مسألة ذكاء؛ إنها مسألة منهج ومقاربة.
ويسلِّم معظم الناس بالرأسمالية كأمر مفروغ منه، تماما كما يسلِّمون بالنظام الشمسى كأمر مفروغ منه. والاختفاء النهائى للرأسمالية، الذى صار معترفا به فى كثير من الأحيان فى الوقت الحاضر، يجرى التفكير فيه مثل البرودة النهائية للشمس، أىْ، يجرى إنكار صلته بالتطورات المعاصرة. ومن وجهة النظر هذه يمكن أن نفهم وننتقد ما يحدث ضمن إطار النظام؛ ولا نستطيع أن نفهم ولا أن نُقَيِّم ما يحدث للنظام نفسه. ونادرا ما تتخذ الحقيقة الأخيرة شكل إنكار بسيط لواقع أننا يمكن أن نتحدث بطريقة ذات معنًى عن أنظمة اجتماعية. غير أن التطورات التاريخية الكبرى، تتعلق بكامل الأنظمة الاجتماعية. وتكون النتيجة أنه بالنسبة للعقل الحديث النموذجى الذى يفترضونه طابع كارثى، بكل ما يتضمنه هذا فى طريق الصدمة العاطفية والتشوش الفكرى.
وبالنسبة للماركسى، من جهة أخرى، يمثل الطابع التاريخى (أىْ، الزائل) النوعى للرأسمالية فرضية رئيسية. وإنما بمقتضى هذا الواقع يكون الماركسى قادرا، إنْ جاز القول، على أن يقف خارج النظام وأن ينتقده ككل. وعلاوة على هذا فلأن الفعل البشرى ذاته مسئول عن التغيُّرات التى يمرّ بها وسيمرّ بها، فإن اتخاذ موقف نقدى ليس فقط ممكنا فكريا، بل هو مهم أخلاقيا أيضا- كما أن موقفا نقديا تجاه النظام الشمسى، مهما كانت نقاط ضعفه، أخيرا وليس آخرا، لن يكون مهمًّا من الناحية العملية.
إشارات الفصل 1
(1) Georg Lukacs, Geschichte und Klassenbewusstsein (1923), p. 13.
(2)Author s Preface to the first edition of Capital I, p. 14.
(3) Philosophy of History, World s Greatest Literature ed., p. 65. Quoted by Henryk Grossman, Die Anderung des ursprunglichen, Aufbauplans des Marxschen "Kapital" und ihre Ursachen , Archiv für Geschichte des Socialismus und der Arbeiterbewegung, Bd. XIV, Heft 2 (1929), p. 327.
(4) Principles of Political Economy and Taxation, Gonor ed., p. 1.
(5) Critique of Political Economy, p. 302. الاستشهاد من Introduction to the Critique of Political Economy غير المنشور، والذى لم يُنشر كجزء من Critique فى الطبعة الأصلية (1859). وكان قد كتبه ماركس فى 1857 ونشره لأول مرة كاوتسكى Kautsky فى 1903. وقد تم إدماجه كملحق فى Introduction to the Critique of Political Economy فى طبعة (Kerr) الإنجليزية.
(6) Ibid. 303-4. Italics added.
(7) Capital III, p. 1025.
(8) Ibid. I, p. 707.
(9) Ibid. II, (Editor s Preface), p. 7.
(10) Geschichte und Klassenbewusstsein, p. 7.
(11) The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, International Publishers ed., p. 13.
(12) The Poverty of Philosophy p. 102.
(13) Geschichte und Klassenbewusstsein, p. 173.
إشارات الهوامش السفلية
أ: هذا الجانب من منهج ماركس عالجه كما ينبغى هنريك جروسمان Henryk Grossmann فى مدخل كتابه Das akkumulation- und Zuzammen-bruchsgesen des kapitalistetz Systtems, 1929.
ب: يستشهد جروسمان بعدد كبير من الأمثلة. Das akkumulation- und Zuzammen-bruchsgesen des kapitalistetz Systtems, pp. 23 ff.
ج: ربما كان المثال الأحدث هو كراس بيتلمان Bittlemann و ڤ------. چ. چيروم V. J. Jerome، "اللينينية- الماركسية الوحيدة اليوم" Leninism-the only Marxism Today (1934). وهذا الكراس نقدٌ لكتاب لويس كورى Lewis Corey "تدهور الرأسمالية الأمريكية" Decline of American Capitalism (1934)"
د: توجد إحدى أفضل المناقشات فى اللغة الإنجليزية عن هذا الجانب من فكر ماركس، وفى الحقيقة عن كل المشكلات التى نتاولها فى هذا الفصل فى: Karl Korsch, Karl Marx (1938) [كارل كورش، كارل ماركس].
ه: توجد حركة متواصلة من النمو فى القوى المنتجة، ومن تدمير العلاقات الاجتماعية، ومن تكوين الأفكار، والشيء الوحيد الدائم هو تجريد الحركة- .[عندما ينتزع الموت الخالد الحياة الفانية] mors immortalis ": Marx, The Poverty of Philosophy, International Publshers ed., p. 93 [ماركس، بؤس الفلسفة].
و: اُنظرْ أدناه، pp. 31-40.