مقدمة عن اليسار العربي والثورات العربية
خليل كلفت
الحوار المتمدن
-
العدد: 5291 - 2016 / 9 / 21 - 21:28
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مقدمة عن اليسار العربي والثورات العربية
خليل كلفت
(مقدمة محرر كتاب "خارطة اليسار العربي" الصادر عن مكتب شمال أفريقيا-مؤسسة روزا لوكسمبورج)
اكتسب اليسار العربي سماته النوعية، االتي تميزه عن اليسار في البلدان الصناعية المتقدمة في الشمال/الغرب، من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية االتي نشأ في إطارها. وجاءت تطورات سياسية متنوعة في منطقتنا وفي العالم طوال أكثر من قرن بسمات مميزة جديدة.
وقد نشأ اليسار في سياق الإطار الاقتصادي السياسي العام المتمثل في التبعية الاستعمارية في بلدان عربية كانت أغلبها مستعمرات وبعضها أشباه مستعمرات، سيطرت عليها جميعا الإمپرياليتان البريطانية والفرنسية، باستثناءات مثل إيطاليا في ليبيا. وكان من المنطقي أن يفرض واقع التبعية الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة قضايا بعينها: فرضت البنية الاجتماعية الاقتصادية التابعة للاقتصاد الرأسمالي العالمي القضية الوطنية بجانبيها المترابطين: التحرر من التبعية الاقتصادية وخلق مجتمع رأسمالي حديث يقطع الطريق أمامه القفصُ الاستعماري الحديدي، والاستقلال السياسي عن طريق طرد الاحتلال العسكري والتخلص من الإدارة الاستعمارية لهذه البلدان العربية.
وفي هذا الإطار نشأت رأسماليات عربية تابعة، وانطلقت بقيادتها حركات وأحزاب استقلالية قومية، ونشأت حركات وأحزاب وطنية/قومية لشرائح طبقية برجوازية صغيرة وغيرها بدت متناقضة المصالح ليس فقط مع الاستعمار بل كذلك مع الرأسمالية القومية التابعة، كما وقعت انقلابات عسكرية في سياق قضية الاستقلال الوطني، بدت معادية للإقطاع والرأسمالية التابعة. وعندما جاء زمن استقلال المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية في الأربعينات والخمسينات والستينات تحولت هذه الحركات والأحزاب والانقلابات تدريجيًّا إلى طبقات رأسمالية حاكمة كرأسماليات دولة أو رأسمالية خاصة أو كشراكة بينهما. وكان لا مناص من أن تبقى البلدان العربية في إطار التبعية الاقتصادية بحكم بنية اقتصادها رغم شعارات الاستقلال، وذلك بسبب العائق الاستعماري المباشر، وعقلية مدرسة التبعية االتي تربت فيها هذه الرأسماليات الجديدة التي تكونت من أنقاض الرأسماليات الكولونيالية السابقة، وارتفعت شعارات استقلالية وحتى اشتراكية ضللت الشعوب باسم الاستقلال مرة، وباسم الاشتراكية مرة أخرى.
وكان من المنطقي والتاريخي أن تعجز الرأسماليات الوطنية/القومية التابعة عن تحقيق أيّ شعار كبير من شعاراتها البراقة، وانتهت هذه البلدان إلى التراجع التاريخي الشامل بعيدا عن الاستقلال والاشتراكية، بحكم طبيعتها الرأسمالية، وساد الاستغلال الفاحش بمعدلات بالغة الارتفاع، وعمَّ الفساد الشامل للدولة والمجتمع والسكان، وتدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتؤدي إلى حدود قصوى للديكتاتوريات العسكرية والبوليسية، وتفاقم الفقر والإفقار رغم مكاسب اشتراكية مزعومة، وتفاقمت مصادرة الحياة السياسية من خلال حظر الأحزاب السياسية اليسارية والليبرالية أو ترويضها وتقزيمها فقامت تعددية صورية متقلصة عدديا ومنعزلة جماهيريا وفقيرة فكريا وانتهازية سياسيا وذيلية للسلطة الطبقية الاستبدادية، وكل هذا باسم الديمقراطية السليمة أو الديمقراطية الاجتماعية، وبفضل متلازمة الفقر والجهل والمرض نشأت بيئة وخيمة صارت مرتعا خصبا للتدهور الثقافي والرجعية الدينية وحركاتها الأصولية الجهادية الإرهابية الواسعة الشعبية االتي يتغذى انتشارها على بؤس الشعب اقتصاديا وفكريا، ماديا وروحيا.
ويمكن إيجاز بعض الخصائص النوعية المميزة لليسار العربي ونضالاته في عدد من الجوانب الأساسية:
يتلخص تاريخ البلدان العربية في العصر الحديث في إخضاعها للإمبريالية البريطانية والفرنسية، ونشأة رأسماليات قومية تابعة فيها، وعجْز تطورها الاقتصادي بحكم تبعيته وكذلك عجْز ثوراتها بحكم طبيعتها كثورات شعبية خالصة استقلالية أو احتجاجية على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للجماهير الشعبية، بعيدا عن أن تكون ثورات اجتماعية-سياسية، عن إخراج هذه البلدان من حظيرة التبعية، وعن كل تحديث اقتصادي أو ثقافي. وأدى كل هذا إلى تشكُّل ما يسمَّى بالعالم الثالث ببلدانه االتي تسود فيها رأسماليات تابعة وريعية وبقايا قبل-رأسمالية تسير على طريق التراجع التاريخي الشامل، مثل باقي بلدان ما يسمَّى بالعالم الثالث، ليس إلى مجرد التهميش بل إلى ما هو أخطر لأنه تراجع تاريخي يمس بقاء هذه الشعوب.
وحكمت أوضاع التبعية القديمة والجديدة في مصر، على سبيل المثال، على ثورة 19، وعلى تداعيات انقلاب 52 العسكري، وعلى ثورة يناير 2011، بحدود قاسية وبعيدة عن إحداث تطور جذري على طريق التصنيع والتحديث والاستقلال والخروج من التبعية. وتكررت هذه المسارات في مختلف البلدان العربية.
وكانت بداية نشأة اليسار العربي ومسار تطوره متزامنا إلى حد كبير مع قيام الاتحاد السوڤ---ييتي وقيام ما سُمِّيَ بالمعسكر الاشتراكي، واندلاع حركة تحرر وطني واستقلالي واجتماعي في المستعمرات وأشباه المستعمرات في إطار التحرر من الاحتلال الاستعماري والإدارة الاستعمارية، وكذلك في إطار أوسع من الحركات الشعبية الاستقلالية والاجتماعية المسلحة وخاصة في الصين تحت راية الماركسية. وكان للإطار الشيوعي واليساري العالمي تأثيره المنطقي المتمثل في التبعية اليسارية العربية والعالمية، باستثناءات مهمة، لمركز أو آخر من المراكز الشيوعية، خاصة الشيوعية السوڤ---ييتية، والشيوعية الصينية الماوية، والشيوعية الأوروپية، في فترات مختلفة. كما كان لانهيار ذلك المسار الشيوعي واليساري العالمي، على تطور اليسار العربي، مثل اليسار في كل العالم، تأثيرٌ قاصم للظهر، مع اتضاح طبيعة الصيرورة الرأسمالية للأنظمة االتي نتجت عن كلٍّ من الثورات "الاشتراكية" والتحررية المسلحة في كل مكان، وكذلك مع اتضاح الطبيعة الرأسمالية التابعة للرأسمالية القومية، ومع كل جوانب الانكسارات القومية في البلدان العربية، خاصة بحكم الانكسارات الأصلية للحركة الشيوعية العربية تحت الضربات القاصمة للظهر لديكتاتوريات رأسمالية تابعة معادية للشيوعية تحت التأثير الفكري والسياسي الغربي.
وأدى انهيار الاتحاد السوڤ---ييتي والمعسكر "الاشتراكي" وحركة التحرر الوطني إلى انهيار الحركات الشيوعية واليسارية، على طريقة الدومينو في كل العالم بشماله وجنوبه، بشرقه وغربه، وكان التأثير النوعي لذلك كارثيا على الأحزاب الشيوعية ذات التوجه السوڤ---ييتي التحريفي، فسارت في طريق العزلة الجماهيرية المُطْبِقة، في بيئة سادتها أنظمة الحزب الواحد، والرأي الواحد، والنقابات العمالية والمهنية التابعة للدولة، وتصفية الحياة السياسية بالوسائل البوليسية والإدارية، ومحاربة الثقافة، وترويض المثقفين واليساريِّين، وبالأخص، ومع الزمن، وبفضل بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية صارت جاهزة، الصعود الصاروخي لجماعات الأصولية الإسلامية الإرهابية باستغلال النتائج السياسية والثقافية لأوضاع متلازمة الفقر والجهل والمرض التي هيأت جماهير واسعة لتبنِّي الفكر الرجعي للإسلام السياسي في غياب يسارٍ أضعفته ضربات أمنية قاصمة وتطورات اجتماعية وثقافية غير مواتية.
ومن خصائص اليسار العربي، واقع أن معارك الاستقلال الوطني بقيادة الرأسمالية القومية جلبت معها قضية الوحدة القومية العربية التي صارت هدفا مباشرا للأنظمة القومية الفاشية الطراز، ولفلول تلك الأنظمة التي عملت على إحياء مراحل استقلالية لتطور الرأسمالية القومية مع الدفاع عنها، وعن سياساتها التي قادت إلى الانكسارات والهزائم والنكسات وإحكام الخضوع للرأسمالية الاستعمارية، وتبرير الديكتاتوريات العسكرية-البوليسية االتي أقامتها بنفس الحجة القديمة المتمثلة في ما يُسَمَّى بالديمقراطية الاجتماعية، وحتى عن مغامرات الأنظمة القومية التي دمرت الأمة العربية، وجلبت التدخلات والاحتلالات الاستعمارية والصهيونية.
وصار اليسار يعني أحزابا شيوعية ضعيفة أيديولوچيًّا وعدديا وشعبيا، وتحريفية فكريا وسياسيا، باستثناءات قليلة وضعيفة، أيْ أن اليسار صار يعني "فلولا" للشيوعية العربية القديمة السوڤ---ييتية الطراز، إلى جانب "فلول" أيديولوچيات الرأسمالية القومية التابعة، كالناصرية، والبعثية بجناحيها السوري والعراقي، وحركة القوميِّين العرب التي كانت لها امتدادات أفضل في كثير من الأحيان. وبطبيعة الحال فإن هدف اليسار القومي العربي هو الاستقلال على طريق الناصرية والبعثية، مع بعض الانتقادات المبعثرة، وعلى عكس الناصرية التي صارت ناصرية الشارع ولم تَعُدْ ناصرية الحكم الرأسمالي التابع الشمولي بعد رحيل عبد الناصر ونظامه، امتدت أعمار الأنظمة القومية البعثية العراقية والسورية فظلت تمثل طموح عراق بعث صدام حسين حتى إعدامه، وسوريا بعث الأسديْن حافظ ونجله بشار إلى يومنا هذا، إلى توسيع مناطق نفوذهما وخلق امتدادات مباشرة لحكمهما، الأمر الذي يجرِّد الكثير من هذه الأحزاب والحركات من صفة اليسار.
وكانت النتائج السياسية للخصوصية النوعية للضعف العددي والجماهيري والأيديولوچي لليسار العربي الشيوعي فادحا على رؤيته للحاضر والمستقبل وتجاهله لضرورات إيقاف التراجع التاريخي، وعدم إدراك أبعاد الكارثة التي تعيشها شعوبنا وبلداننا، والعجز، بالتالي، عن الاستفادة بالثورات والانتفاضات والانفجارات الشعبية وعن تحقيق فاعلية يسارية قوية وممتدة خلالها في مجال الاستفادة منها لصالح الشعوب، رغم الدور الكبير لليسار الشيوعي والطليعة الشبابية الديمقراطية في التمهيد لها وتفجيرها وتطويرها.
وعندما جاء زمن الثورات العربية، منذ نهاية 2010 في تونس وبداية 2011 في باقي بلدان الثورة، أدى الافتقار إلى رؤية ثورية ناضجة لهذه الثورات لدى اليسار العربي، مضافا إلى ضعف تأثيره الجماهيري، إلى عدم إدراك أن الثورات تتجه إلى التراجع، بحكم عفوية الثورة والضعف الفكري والجماهيري لليسار، وقوة الثورة المضادة التي تمثلت في الأنظمة الحاكمة وجماعات الإسلام السياسي الأصولية، وضاعت فرصة كبرى لتحقيق مستويات من الديمقراطية من أسفل، بحكم الأنظار الشاخصة إلى أعلى بأحلام وأوهام استيلاء هذه الثورات بطبقاتها العمالية والشعبية على سلطة الدولة، ومع تبدد أوهام ثورة التوقعات سيطرت على قطاعات كبيرة من اليسار حالة من الإحباط اقترنت في كثير من الأحيان بمواقف يسارية طفولية زاعقة.
وترتبط مصائر الثورات العربية الراهنة مهما تنوعت أحوال هذه البلدان والثورات بطبيعة هذه الثورات وبالتالي بطريقة فهمنا لهذه الطبيعة. وفي غياب فهم عميق لطبيعة هذه الثورات، وفي غياب الوضوح النظري الكافي لمفهوم الثورة وطبيعتها، وبالتالي قوانين تطورها، حيث تكتنف الالتباسات مفهوم الثورة وطبيعتها حتى في النظرية الماركسية التي قدمت مقدمات كافية لفهم الثورة دون أن تنجح في مفصلتها تماما، بل أحاطتها بنصوص ملتبسة وبالغة التشوش عند ماركس ذاته وعند باقي مؤسسي الماركسية وكذلك عند باقي مفكري الماركسية، رغم إنجازات الماركسية في مجال الممارسة العملية الثورية في كل مكان، وفي تطور التاريخ العالمي الحديث، وفي تطور العلوم الإنسانية والآداب والفكر طوال هذا التاريخ.
وبالطبع فإنه لا يمكن القول بأن عدم فهمنا لطبيعة هذه الثورات هو ما حدد مصائرها المتمثلة في اتجاهها إلى التراجع والانحسار. بل يتمثل ما حدد كل شيء في "الطبيعة الموضوعية للثورة" وليس في فهمنا لمسألة طبيعة الثورة. غير أن غياب نظرية واضحة ومتمفصلة عن مسألة طبيعة الثورة وبالتالي عن طبيعة ثوراتنا الراهنة كان له أثره العميق على قدرتنا على الاستفادة من هذه الثورات.
ولهذا بالذات فإنه لا مناص من وقفة متأنية تحاول إعادة النظر في مفهوم الثورة وطبيعتها ومصائرها، دون جمود عقائدي أو تعصب مذهبي. ولا أحد ينكر أن الثورات العربية حيّرت كل العقول المفكرة بشأن طبيعتها، وتراوحت الآراء بشأن كونها ثورات اجتماعية أو سياسية بل حتى بشأن كونها ثورات أو انتفاضات أو هبَّات أو احتجاجات أو تمردات أو هوجات، كما سمعنا وقرأنا جميعا. وعلينا أن نخلع على باب هذا الجحيم النظري كل رأي مسبّق، مدركين أننا لا يمكن أن نتناول هذه المسألة بقدر كافٍ من النجاح في مثل هذه العجالة المكتوبة للتنبيه، لا أكثر ولا أقلّ، إلى مسألة محورية من مسائل الثورات.
والثورة ببساطة تغيير، أو بالأحرى تغيُّر، جذري ينقل مجتمعا في بلد أو بلدان من نظام/نمط اقتصادي اجتماعي إلى نظام/نمط اقتصادي اجتماعي. وهذه هي الثورة الاجتماعية أو الثورة الاجتماعية-السياسية. ففي فترة هبوط نمط/نظام اجتماعي قائم يبدأ في التكوين والصعود نمط/نظام اجتماعي جديد. وبالتالي فإن الثورة الاجتماعية-السياسية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، لأنها تغيير/تغيُّر تدريجي بطيء يحدث في الاقتصاد، في الصناعة والزراعة والسوق والعلم والفكر والأدب؛ إلخ.. بصورة مترابطة ومتمفصلة للغاية وتكون نتيجتها في التاريخ الحديث والمعاصر تشكُّل واكتمال نظام/نمط إنتاج رأسمالي بصناعته وثمار صناعته في كل فروع الاقتصاد، وبطبقاته الاجتماعية الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل؛ كالطبقة الرأسمالية وطبقة البروليتاريا، بالعلاقات بين هذه الطبقات، وهذه العلاقات هي التي نقصدها بتعبير السياسة.
وهذه العمليات الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية البطيئة التدريجية التراكمية هي االتي ينبغي أن نسميها ثورة لأنها تؤدي إلى ثورة كاملة في المجتمع من حيث كونه مجتمعا. والنتيجة الاجتماعية-الاقتصادية لاكتمال هذه العملية هي المجتمع الجديد، الرأسمالي في التاريخ الحديث. والثورة هي كل هذه العملية التراكمية ولا سبيل إلى اختزالها في نتيجتها المتمثلة في المجتمع الجديد، الرأسمالي، وكل خطوة في هذه العملية جزء لا يتجزأ من الثورة. فالثورة هي الطريق، أيْ العملية التراكمية، فلا تقتصر على النتيجة التي تتوِّجها. إننا هنا إزاء التراكمات الكمية التي تؤدي إلى تغيُّر كيفي، حسب قول شهير لهيجل.
ويعترضنا هنا نصٌّ شهير لماركس في معرض حديثه، في رأس المال، عن "عملية تحوُّل أسلوب الإنتاج الإقطاعيّ إلى أسلوب إنتاج رأسماليّ": "العنف قابلة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد". فما المقصود بالعنف؟ إننا نفهمه عادة على أنه يتمثل في ثورة الجماهير الشعبية، ولكنْ هل يمكن أن يكون ماركس قد قصد به شيئا آخر؛ وأعني به اكتمال العملية التاريخية كما يمكن أن نفهم من عبارة هيجل؟
غير أنه يوجد نص آخر شهير لماركس يوحي بأن المقصود بالعنف هنا هو الثورة "السياسية"، أيْ ثورة جماهير الطبقات الشعبية من ناحية وانتقال سلطة الدولة من الطبقة الحاكمة في نمط الإنتاج القديم إلى الطبقة التي ستغدو حاكمة في نمط الإنتاج الجديد. ذلك أن ماركس يؤكد في نص آخر أن "كل ثورة تلغي المجتمع القديم [...] ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغي السلطة القديمة [...] ثورة سياسية".
ويصف ماركس ثورة 1789 الفرنسية العظمى بأنها ثورة اجتماعية، وإذا أخذنا بهذا فإن الثورة الفرنسية تكون قد جمعت بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية. ومعنى هذا أن ماركس يصف العملية التراكمية ونتيجتها بالثورة. وهنا يبدو أن الثورة الاجتماعية (في لحظة اكتمال تحوُّل المجتمع) تقترن بالثورة السياسية (في لحظة انتقال السلطة من الطبقة الإقطاعية إلى الطبقة الرأسمالية).
وهنا تتشابك وتتباعد مفاهيم أساسية. فإذا افترضنا أن الثورة الاجتماعية عند ماركس لا تتمثل في العملية التراكمية بل في نتيجتها الاجتماعية، وأن الثورة السياسية تتمثل في انتقال السلطة، نكون قد سلَّمنا بأن المقصود بالثورة الاجتماعية يتمثل في تلك اللحظة التاريخية الوجيزة التي لا تتجاوز سنوات معدودة والتي يتحول فيها المجتمع والاقتصاد وتنتقل فيها سلطة الدولة. وبهذا سيكون المقصود هو أن حدث 1789 هو الثورة الشعبية في فرنسا في تلك السنة وفي جانب من تطوراتها في سنوات تالية. وهنا تتشابك مفاهيم الثورة الاجتماعية والثورة السياسية والثورة الشعبية، ويغدو السؤال: إلى أيّ مدًى تتلاقى مضامين هذه المفاهيم مع وجودها المادي وتطوراتها الفعلية على الأرض؟ وبعبارة أخرى يغدو السؤال: هل تنفصل هذه الوقائع المادية على الأرض أم تأتي كلها مجتمعة معًا؟
وإذا أنعمنا النظر في ثورات التاريخ الحديث فإننا سنجد أن هذه التطورات الأرضية تنفصل ولا تجتمع في نفس اللحظة. فهناك ثورات رأسمالية عديدة (أيْ ثورات اجتماعية) حدثت بدون ثورات شعبية على النمط الفرنسى، وهناك "ثورات شعبية" لا تُحصى ولا تُعَدّ لم ترتبط بانتقال المجتمع إلى الرأسمالية، ولا بانتقال سلطة الدولة من طبقة تنتمي إلى نمط إنتاج قديم إلى طبقة تنتمي إلى نمط إنتاج جديد (أيْ ما يُسمَّى بالثورة السياسية).
ومن الجليّ أن هذه "الثورات" لم تجتمع في اللحظة التاريخية لحدث 1789، كما بدا الأمر لماركس. بل الحقيقة أن اجتماعها وانفصالها يحدثان بطريقة مختلفة تماما. فالعملية التراكمية لتطور الرأسمالية تجمع بصورة تراكمية تدريجية بين الجانبين الاجتماعي والسياسي للثورة الرأسمالية. فالسياسة هي العلاقات بين الطبقات الاجتماعية. وتولد هذه الطبقات مع التطور الاقتصادي التراكمي للرأسمالية وتنتقل سلطة الدولة أيضا خطوة خطوة وبالتدريج البطيء من الطبقة الحاكمة الإقطاعية إلى الطبقة الرأسمالية. ولم يكن انتقال السلطة في الثورة الفرنسية انتقالا من طبقة إقطاعية، رغم وجود بقايا إقطاعية ومنها سلطة الملك، ورغم أن سلطة الدولة بالمعنى الحقيقي كانت قد انتقلت بالتدريج إلى الطبقة الرأسمالية الصاعدة التي انتقلت إليها السلطة في اللحظة التاريخية للثورة الشعبية. وهنا درس تاريخي مهم من الثورة الفرنسية: الثورات الشعبية لا تنقل سلطة الدولة إلى الثورة، بل إلى قيادتها إذا كانت هذه القيادة طبقة رأسمالية، في سياق ثورة رأسمالية.
فماذا بقي للثورة الشعبية؛ أيْ ثورة الغضب والاحتجاجات على الأوضاع المادية والسياسية لحياة الطبقات الشعبية؟ وكنتُ قد دأبت في السنوات الماضية على وصف الثورة المصرية الراهنة بأنها ثورات "سياسية" بعيدة كل البعد عن سياق الثورة الاجتماعية وكنت مخطئا تماما. والآن أصف الثورة المصرية والثورات العربية الأخرى بأنها ثورات شعبية وليست ثورات اجتماعية أو بالأحرى ثورات اجتماعية-سياسة تتجسد في العملية التاريخية التراكمية البطيئة. وتتنوع الثورات الشعبية ولكنها لا تأتي حاملة معها ثورات اجتماعية أو سياسية؛ أو بالأحرى ثورات اجتماعية-سياسة.
فما هي إذن قصة انتقال سلطة الدولة في فرنسا من طبقة إلى طبقة في سياق ثورة شعبية خالصة؟ والقصة بسيطة وقد يكون جانب منها مفاجئا لنا للغاية. فهي بسيطة للغاية لأن السلطة لم تنتقل في سياقها لأنها كانت قد انتقلت من خلال الثورة الاجتماعية-السياسية التراكمية الطويلة من الإقطاع إلى الرأسمالية، ولم يكن انتقال السلطة من الملك إلى البرجوازية إلا إجراءً جزئيا، ولم يكن بفعل ضرورة ثورية لأن الملك يمكن أن ينسجم مع النظام الرأسمالي كما انسجم معه الإمبراطور نابوليون بونابرت والبوربون والأورليان.
أما الجانب الذى يمكن أن يفاجئنا والذي ينبغي أن نفكر فيه جيدا فهو أن الثورة الفرنسية لم تكن ثورة ضد الإقطاع بل كانت ثورة داخل نطاق الطبقات الاجتماعية التي خلقتها العملية التاريخية للثورة الاجتماعية-السياسية التي كانت قد قضت على الإقطاع الذي كان قد زال منذ وقت طويل. بل كانت ثورة شعبية/احتجاجية للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة ضد الطبقة الرأسمالية التي استغلتها زمنا طويلا. وككل ثورة شعبية عاشت الجماهير الشعبية أوهام الحرية والإخاء والمساواة وبثورة توقعات هائلة؛ وإذا بنظام رأسمالي على طريق الاكتمال يسيطر على السلطة والاقتصاد، فصارت فرنسا مجتمع استبداد واستغلال وفساد، بل تحولت فرنسا إلى إمبراطورية استعمارية بدأت بالجزائر. ولكن الشعب الفرنسي كسب ليس من الثورة بل من نضاله قبلها وأثناءها وبعدها في سبيل ديمقراطية شعبية من أسفل. وعلى من يزعم الآن أن فرنسا بلد ديمقراطي أن يدرك أنها بلد مزدوج تحققت فيه فاعلية الطبقة الرأسمالية؛ أيْ الديكتاتورية العسكرية الرأسمالية الاستغلالية الاستبدادية من أعلى، وفاعلية الطبقة العاملة والطبقات الشعبية، أيْ الديمقراطية الشعبية، من أسفل. ونفس الشيء في كل البلدان الرأسمالية المتقدمة.
وعندما نتقدم أكثر في تأملنا سنجد أن الثورة الرأسمالية هي على وجه التحديد ما يتحدث عنه ماركس بوصفه ما يُسَمَّى بالتراكم الرأسمالي البدائي، ففي هذا على وجه التحديد تتجسد العملية الرأسمالية التراكمية.
وكانت حيرتنا الكاملة أمام الثورة ترجع إلى غياب مفهوم نظري واضح عن طبيعة ثوراتنا الراهنة، بحكم غياب مفهوم نظري واضح متمفصل عن الثورة عند ماركس، وبحكم تقديس الجمود العقائدي عند أفضل المفكرين الماركسيين في العالم للنصوص، في هذا المجال بالذات، رغم إنجازاتهم الكبرى في مجالات أخرى، بدلا من إعمال الفكر بحرية، وذلك خوفا من كابوس الزلل.
16 سبتمبر 2014