كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ -إعادة قراءة لدوستويڤسكى- تأليف: يورى كارياكين عرض: خليل كلفت
خليل كلفت
الحوار المتمدن
-
العدد: 7047 - 2021 / 10 / 14 - 21:53
المحور:
الادب والفن
كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟
"إعادة قراءة لدوستويڤسكى"
تأليف: يورى كارياكين
عرض: خليل كلفت
(مجلة القاهرة 5 نوڤمبر 1985)
نقرأ معا خلال الدقائق التالية الفكرة الأساسية فى كتاب "دوستويڤسكى: إعادة قراءة" لمؤلفه يورى كارياكين. وترجع أهمية الكتاب المذكور إلى أن المؤلف يعالج فيه العملية الإبداعية ذاتها، أىْ الطريقة المحدّدة التى ألّف دوستويڤسكى من خلالها أعماله وكنموذج تطبيقى محدّد: "الجريمة والعقاب"، التى يَعُدُّها المؤلف رائعة من روائع دوستويڤسكى. ويضع المؤلف أمام أعيننا ثلاثة مستويات لتصور دوستويڤسكى للجريمة والعقاب أو يضع بالأحرى إلى جانب المستوى الذى يعرفه الجميع مستوييْن آخرين. فإلى جانب الشكل النهائى أىْ الرواية المطبوعة يضع المؤلف شكلها الأوّلى أو الجنينى ويتمثل فى رسالة كتبها دوستويڤسكى إلى كاتكوڤ محرّر المجلة التى نشرت الرواية لأول مرة على حلقات وفى تلك الرسالة يبيّن الروائى العظيم فكرة وخطة روايته. أما الشكل الوسيط الذى يتطور الشكل الجنينى من خلاله إلى الشكل النهائى فإنه يتمثل فى المذكرات الخاصة بالرواية ويدرس فيها دوستويڤسكى مختلف أحداث وشخصيات وتقنيّات وتفاصيل ودقائق الرواية التى كان يعتزم كتابتها أىْ "الجريمة والعقاب"، وقد اعتمد على مذكرات مماثلة فى كتابة روايات أخرى، "الإخوة كارامازوڤ"، على سبيل المثال.
ولا جدال فى أن الدراسة التطبيقية لعملية الإبداع ذاتها تُهِمّ جمهور القراء كما تُهِمّ الكتّاب أنفسهم وبالأخص شبابهم، وعلى هذا نستعرض الفصول الأربعة من الكتاب المذكور مع التركيز على نقاط محدّدة. ويبدأ المؤلف مناقشته كما يلى:
من الغريب أننا فى أغلب الأحيان نعرف عن أعمال الفن أكثر مما نعرف عن مبدعيها. وعلى سبيل المثال فنحن نعرف "دون كيخوته" أفضل مما نعرف سرڤانتيس، و "هاملت" أفضل من شكسبير، و راسكولنيكوڤ أفضل من دوستويڤسكى. وقد يقول قائل: "لكن هذا ليس غريبا أبدا، إن هذا وحده هو الطبيعىّ!" لكنْ هل هو حقا كذلك؟ والواقع أنه دون أن نعرف الثمن المدفوع من أجل أعمال الفن من جانب مؤلفيها - الكائنات البشرية ذات الآلام البشرية - لا يمكننا أن نأمل فى أن نفهم تمامًا الأعمال ذاتها. وتبرهن العملية الإبداعية أن إمكانيات الإنسان غير قابلة حقًّا للاستنفاد، ولكن المبدع أكثر واقعية، وأقوى دلالة، وأوفر حياة من أىّ عمل من أعماله.
وعندما ننظر إلى العالم الرحب والعدد الهائل من الشخصيات، اللذين أبدعهما دوستويڤسكى، لا نملك إلا أن نعجب كيف استطاع شخص واحد أن ينتج كل ذلك فى نطاق المدى القصير لحياة الإنسان، ولا سيّما شخص لم تكن الحياة بالنسبة له فراشا من الورود. وتتمثل المعجزة الكبرى فى الإبداع الفنى فى واقع أن "غير العادىّ" يُولد من "العادىّ"، وأنّ "النظيف" يخرج من "غير النظيف"، ولا يمكن لهذا أن يكون شيئا مختلفا لأنه يشكّل جوهر العملية الإبداعية. وأفضل برهان على هذا تقدّمه مذكرات دوستويڤسكى الخاصة بروايته "الجريمة والعقاب".
وكما هو معروف، أحرق دوستويڤسكى نسخة كاملة تقريبا من "الجريمة والعقاب" (ومن حسن الحظ أنها لم تُدمّر بكاملها). ولا تزال الدوافع الكامنة وراء هذا التصرّف غير واضحة تمامًا.
فى سپتمبر (أيلول) 1865 كتب دوستويڤسكى رسالة إلى م. ن. كاتكوڤ، محرّر "روسكى ڤستنيك" (ولم يبق سوى مسوّدة من هذه الرسالة):
"هل لى أن آمل فى أن تُنشر روايتى فى مجلتكم "روسكى ڤستنيك"؟ إن فكرة الرواية لا تتعارض بأىّ طريقة مع ما تمثّله مجلتكم.
"إنها وصف سيكولوچىّ لجريمة. شابّ مطرود من الجامعة، برچوازى من حيث خلفيته الاجتماعية، يعيش فى فقر مدقع، يقرّر، مدفوعا بالطيش واضطراب التفكير، أن يخلّص نفسه من حالته التعيسة عن طريق ضربة جريئة واحدة. وهو يستسلم للأفكار الفجّة التى يتّفق أن تنتشر. ويقرّر الطالب أن يقتل مرابية عجوزًا، وهى زوجة موظف صغير. والمرأة العجوز غبيّة، صمّاء، مريضة، شرهة، وهى تحصل على فوائد ربويّة، وهى دنيئة وتدمّر حياة شخص آخر، أختها الصغرى التى تعذّبها هى رغم أنها تعمل من أجلها. (إنها لا تفيد فى شيء أىّ غرض لها فى الحياة؟ هل هى مفيدة لأىّ شخص؟)؛ تلك الأسئلة تخرج الشاب عن طوره. فهو يقرّر أن يقتلها ويسرقها، لكىْ يساعد أمّه، التى تعيش فى مدينة إقليمية، ولكى يُنقذ أخته، التى تعيش مع أسرة مالك عقارى ريفىّ باعتبارها وصيفة، من المخططات الشهوانية لرأس تلك الأسرة، تلك المخططات التى تهدّد بتدميرها، ولكى يُنهى دراسته، ثم يسافر إلى الخارج، وبعد ذلك يكون أمينا بقية حياته، حازما وصلبا فى تحقيق واجبه الإنسانى نحو البشرية. الأمر الذى سوف يعوّض عن الجريمة، إنْ كان بوسع المرء أن يسمى بالجريمة... قَتْلَ المرأة العجوز، الصمّاء، الغبيّة، الدنيئة، المريضة، التى ليست لديها فكرة عن سبب وجودها على قيد الحياة والتى كان من الممكن أن تموت بعد ذلك بشهر على أيّة حال.
"ورغم أن من الصعوبة بمكان تنفيذ مثل تلك الجرائم، أىْ أنها تترك وراءها دائما تقريبا دليلا ما فظًّا وما إلى ذلك، ويتوقف الأمر إلى أقصى حدّ على الصدفة التى تكون دائما تقريبًا ضدّ المجرم، فإنه ينجح، بطريقة ترجع بصورة كاملة إلى المصادفة، فى تنفيذ خطته وبدون صعوبة كبيرة.
"لقد مرّ شهر تقريبا قبل الكارثة النهائية، ولم يكن هناك ارتياب، بل لم يكن يمكن أن يوجد أىّ ارتياب ضدّه. وهنا يبدأ كامل المسار السيكولوچى للجريمة. فهناك مشاكل غير قابلة للحلّ تظهر أمام القاتل؛ وتعذّب قلبه مشاعر غير متوقعة وغير منتظرة. لقد وقع فى نهاية الأمر فى مصيدة الحقيقة الإلهية والقانون الذى صنعه البشر، وهو مضطرّ إلى التبليغ عن نفسه، مضطرّ، حتى إذا كان لا بدّ أن يهلك فى السجن، إلى أن يعود إلى الناس من جديد. لقد أرهقه الشعور بالعزلة والانفصال عن البشر وهو الشعور الذى استولى عليه بمجرّد ارتكابه الجريمة. وأخذ قانون الحقيقة والطبيعة الإنسانية يُحْدثان أثرهما. فالمجرم يقرّر من تلقاء نفسه أن يقبل العذاب ليكفِّر عن جريمته... زدْ على هذا أن قصتى توحى بأن العقاب الذى يحدّده القانون يخيف المجرم أقلّ كثيرا مما يظنّ مشرِّعو القانون؛ ويرجع ذلك إلى أن المجرم نفسه يحتاج إليه أخلاقيًّا".
وهكذا يمكن وصف "الجريمة والعقاب"، كما تصوَّرها دوستويڤسكى فى سپتمبر (أيلول) 1865، فى إطار النقاط الستّ التالية التى تغطِّى، بطبيعة الحال، الحبكة بأسرها:
1: الدوافع وراء الجريمة نبيلة تمامًا؛ 2: لا تتمثّل الجريمة إلَّا فى قتل امرأة عجوز، مُرابية؛ 3: الحدث السابق "للكارثة النهائية" يغطّى مدة شهر تقريبًا؛ 4: الاعتراف الطوعىّ والندم من جانب الطالب لا ينفصلان؛ 5: التكفير عن الجريمة ليس أمرًا أساسيًّا فى الرواية؛ 6: الحبكة جرى تصوُّرها على أنها اعتراف يُدْلى به مجرم.
فى النسخة الأخيرة (المنشورة) تعرَّضتْ هذه النقاط الست لتغييرات جوهريّة:
1: الدوافع وراء جريمة راسكولنيكوڤ تشتمل على الجنون ب نابليون الذى يحجبه خداع النفس حول "الأهداف النبيلة"؛ 2: هناك ضحايا آخرون بالإضافة إلى المرابية العجوز؛ وهم يشملون ليزاڤيتا التى كانت حُبْلَى وأمَّ راسكولنيكوڤ، و ميكولكا الذى نجا بشقّ النفس من الأشغال الشاقّة؛ وفى أحلامه يرى راسكولنيكوڤ العالم بأسره يهلك؛ 3: تغطِّى الحبكة فترة تمتدّ حوالى عامين وعندئذ يبدو أنها تمتدّ إلى أعماق اللّانهاية؛ 4: الاعتراف بالجريمة، والندم عليها، والتكفير عنها، لا تجرى فى نفس الوقت: يعترف راسكولنيكوڤ فى اليوم الحادى عشر بعد الجريمة لكنه لا يندم عليها إلا بعد ذلك بثمانية عشر شهرًا؛ 5: المجرم التائب لا يجد طريقه إلى التكفير فى الحال؛ 6: السرد مكتوب بضمير الغائب.
فى النسخة الأخيرة، المنشورة، هناك أيضا مقال راسكولنيكوڤ وقصة عائلة مارميلادوڤ. والموضوع الذى يبقى دون تغيير، والذى هو أساسىّ فى الكتاب بأسره، هو "الشعور بالعزلة والانفصال عن البشر والذى... أرهقه". لكنّ شيئا واحدا جلىّ: التصوّر المبكّر للرواية حلَّ محلّه تصوُّر جديد ("يجرفنى معه بعيدا الشكل الجديد والخطة الجديدة").
يمكننا الآن أن نلاحظ أنّ رسالة دوستويڤسكى إلى كاتكوڤ قدّمت تصوّرا للرواية لا يعدو أن يكون - بالمقارنة مع الرواية المطبوعة - تصوّرا أوّليًّا ساذجا. والواقع أن المذكرات الخاصة ب "الجريمة والعقاب" هى التى تملأ هذه الفجوة الهائلة. وإذا تأملنا الرواية كما تصوّرتْها الرسالة نجد أنفسنا إزاء اتساق داخلى بحيث لا يمكن الاحتفاظ ببعض عناصرها الرئيسية دون بعضها الآخر، وكان أىّ تصوّر جديد بصورة جوهرية يعنى تحطيم الاتساق القديم بكل عناصره الجوهرية، تلك المتصلة بالمحتوى وتلك المتصلة بالشكل على حدّ سواء.
كان تصوُّر الرسالة ينطلق من فرضية فحواها أن "الدوافع وراء الجريمة كانت نبيلة تماما" وأنّ كلَّ ما هنالك أن راسكولنيكوڤ عمد إلى تحقيقها بوسائل خاطئة وشريرة. وهذا العنصر الجوهرى فى تصوُّر الرسالة يحدِّد بقية العناصر. فمن الطبيعى تماما أن نكون إزاء رواية اعتراف، يسردها البطل، وأن يكون التبليغ الطوعى والاعتراف والندم نفس الشيء الواحد، ومن الطبيعى تماما ألّا يحتاج الأمر إلى وقت طويل حيث لا ينفصل الاعتراف والندم عن بعضِهما البعض فى الزمان وحيث لا حاجة إلى وقت تستغرقه عملية معقدة تصل فى نهاية الأمر إلى الندم وتفتح الباب أمام التكفير عن الجريمة، كما أن من المنطقى أن تكون أبعاد الجريمة والرواية محدودة، وأن يجرى تتويج كل ذلك بنهاية دينية، كما توحى الرسالة.
وكما سوف نرى، ينقلب هذا التصوّر بصورة جوهرية. ويبدأ هذا الانقلاب من صميم المحتوى، من مسألة الدوافع وراء الجريمة. ففى الرواية المطبوعة دوافع ظالمة تحققت من خلال وسائل شريرة وأدّت إلى المأساة والكارثة ودوافع نبيلة تحققت من خلال وسائل طيبة وأدّت إلى نتائج طيبة. واحتدم صراع الدوافع والأهداف داخل البطل، وأصبح كلّ حلّ سهل سريع باطلا ومفتعلا وغير قابل للتصديق. وعلى هذا النحو ينشأ اتساق داخلىّ جديد بصورة جذرية بين عناصر الرواية المطبوعة. فالتبليغ والاعتراف شيء والندم المخلص والتكفير شيء آخر مختلف. ويحتاج ملء هذه الفجوة إلى عملية طويلة حافلة بالصراع. كما يفتح التصوّر الجديد آفاقا جديدة واسعة. فالجريمة ترتدى أبعادًا هائلة بدوافعها المعقدة، بكثرة ضحاياها المباشرين والمحتملين، بتعقيد شخصية البطل التى تنطوى على عناصر متناقضة بحدّة بحيث يمكنها السير فى نهاية الأمر فى اتجاه عالم مختلف وحياة مختلفة. وتحتّم هذه التغيّرات فى المحتوى تعديلات جوهرية فى الشكل، من أهمها التخلّى عن رواية الاعتراف لصالح رواية يسردها المؤلف، ومنها السطر الأخير فى الرواية، ومنها البناء المعقد الذى أصبح محتوما وأصبح يحتّم بدوره حسابا وإعدادا بالغىْ الدقة لمعمار فنّى بالغ التعقيد والروعة والخصوبة.
والواقع أن المذكّرات الخاصة ب "الجريمة والعقاب"، والتى يتبلور من خلالها تدريجيا هذا التصوّر الجديد جوهريا للرواية، تكشف عن الحساب الدقيق لكل العناصر الرئيسية قبل الكتابة النهائية، كما أنها تساعد القارئ والناقد فى إضاءة وتفسير نواح قد لا يسهل كشفها بدونها.
والآن... لقد حدث تحوّل فى الدوافع، فبدلا من راسكولنيكوڤ الذى يرتكب الجريمة (وسيلة خاطئة) بدافع إنقاذ أمّه وأخته ونفسه (ثم "تحقيق واجبه الإنسانى نحو البشرية" فى بقية حياته"... [أهداف تبدو نبيلة] أصبح لدينا راسكولنيكوڤ.. الذى هو فى المقام الأول مؤلف المقال إيّاه الذى يقسّم البشر إلى فئتين ويعنى دفْع هذه الفكرة إلى أقصاها القتل الجماعى لصالح نابليون مّا أو آخر، و راسكولنيكوڤ شخص "مولود من فكرة" شخص ("أكلته" فكرة، مثل كيريلوڤ فى رواية الشياطين) أو كما يقول هو نفسه: "إن مشاريعى استحوذت علىّ تماما، ورؤيتُها تتحقق أصبحت هدف حياتى" (هنا يقدم دوستويڤسكى مفهوم "الجريمة النظرية"). فقد أصبح لدينا راسكولنيكوڤ الذى يستحوذ عليه تصوّر يقسم الناس إلى "نابليونات" و"بؤساء" ويحلّ للفئة الأولى أن تتخطى العقبة عند الضرورة حتى بالقتل، حتى بالقتل بالجملة. وتستولى على هذا الشاب، بحكم طيشه وبحكم خلفيته الاجتماعية البائسة، الرغبة فى أن يكون نابليونا، فى أن يتخطى العقبة، لإنقاذ نفسه وأسرته والإنسانية قاطبة... وهذا الهدف الظالم يحتّم "الوسائل والنتائج" التى تقوم بدورها بكشف "الهدف الحقيقى" الذى يموّهه خداع النفس...
فكيف يؤثر هذا التطور العميق فى الدوافع وراء الجريمة (أىْ فى صميم المحتوى والمحاكمة التى تنبنى عليه)... كيف يؤثر فى تطوّر الأشكال والأساليب الفنية الرئيسية فى الرواية؟...
ليس من المدهش، إذن، أن نجد دوستويڤسكى يعمل فى "التشريح الرئيسى للرواية" (بهدف إزالة "أشكال عدم اليقين" فيما يتعلق بدوافع الجريمة) فى نفس الوقت الذى كان يحاول فيه أن يقرّر ما إذا كان ينبغى أن يكون السرد بضمير المتكلم أم بضمير الغائب، وقد اختار الأخير، رافضا شكل الاعتراف من نمط المذكرات.
حسب الخطة المبكّرة، كان على راسكولنيكوڤ أن يبدأ يوميات-اعترافه فى اليوم الرابع (؟!) بعد جريمة القتل التى جرت فى 9 يونيو. "16 يونيو. فى الليلة الثالثة بدأتُ يومياتى وقضيت أربع ساعات فى الكتابة".
بعد ذلك نقرأ: "لِيكنْ تقريرا... عمّن؟ ولمن؟" شطب دوستويڤسكى هذه الكلمات، لأنّه لا بد أن يكون قد أدرك أنه كان من المستحيل لقاتل أن ينقلب إلى كاتب سجلات عن جريمته فى اليوم الرابع بعد الحادث (فى النسخة "المنشورة" نجد راسكولنيكوڤ لا يزال فى ذلك الحين يرقد فاقد الوعى فى اليوم الرابع).
كان على راسكولنيكوڤ، حسب خطة دوستويڤسكى المبكّرة، أن يصبح "كاتب اختزال" لنفسه: "هنا تنتهى القصة وتبدأ اليوميّات".
غير أنه سرعان ما تغيرت الخطّة، وأصبحت القصة معقولة ظاهريا: "سوف أروى كلّ شيء فى المحكمة. سوف أسجّله كلّه. وأنا أكتب لنفسى، لكن ليقرأه الآخرون أيضا، كلّ قضاتى، إذا شاءوا. وهذا اعتراف، اعتراف كامل. سأريح منه صدرى ولن أكتم أىّ شيء". وهذا ممكن جسمانيا وسيكولوچيا، على حدّ سواء، لكن هل يمكن أن يقوم بالاعتراف بمثل هذه السرعة بعد القتل؟
عندئذ قرّر المؤلف أن تكون القصة "تقريرا فى شكل يوميات".
لكنْ بعد ذلك بنصف صفحة:
"خطة جديدة
قصة مجرم
منذ ثمانية أعوام
(لكى نحتفظ بمسافة منها)"
هذه خطة أكثر واقعية. و"ثمانية أعوام" ليست رقما اعتباطيا، فهى المدة التى حكم بها بالسجن على راسكولنيكوڤ. ولما كان البطل يبدأ فصلا جديدا فى حياته، فمن الطبيعى أن يستدعى أحداث الماضى.
غير أن الخطة الجديدة فرضت صعوبات بعينها، لأنها طرحت السؤال حول معنى الحياة الجديدة التى وجدها راسكولنيكوڤ. كان هذا سؤالا طبيعيا يمكن طرحه حيث إن وقت كتابة الاعتراف كان قد تمّ مدّه. مع ذلك كان على الاعتراف ذاته أن يبقى. لكن ليس طويلا. ففى الصفحة التالية نقرأ:
"خطة أخرى.
"القصة يسردها المؤلّف، وهو شخص لا يُرى لكنه كُلّىّ المعرفة ولا يترك البطل حتى لدقيقة واحدة".
وهكذا قبل دوستويڤسكى، فى نهاية الأمر، دور "كاتب الاختزال".
بعد صفحات قليلة نجد وصفا أكثر تفصيليّة للخطّة الجديدة:
"أعِدْ النظر فى كافّة المسائل فى هذه الرواية. غير أن الحبكة يجب أن تصبح بحيث تكون القصة يسردها المؤلف، وليس البطل. وإذا كان ينبغى أن تكون اعترافا، فلا بدّ من توضيح كلّ شيء بصورة مطلقة. ويجب أن تكون كلّ لحظة فى القصة واضحة بصورة كاملة.
"ملاحظة - إذا كانت اعترافا، فلا بدّ أنها [الرواية] ستكون فى بعض الأجزاء مفتعلة وسيكون من الصعب تصوّر لماذا كُتِبَتْ.
"لكنْ من ناحية المؤلف. هناك حاجة إلى قدر هائل من السذاجة والصراحة. يجب أن يكون المؤلّف كُلّىّ المعرفة وناجحا فى أن يقدّم إلى القارئ فردا من أفراد الجيل الجديد".
وهكذا.. من العبارة المشطوبة، "لِيكُنْ تقريرا... عَمَّنْ؟ ولمنْ؟" ينتهى دوستويڤسكى إلى إدراك "أنه سيكون من الصعب تصوّر لماذا كُتِبَتْ". ومهمة "إعادة النظر فى كافة المسائل" رُدَّتْ إلى المؤلف نفسه.
يعكس هذا التغيير فى الخطة صراعا بين الدوافع: لقد رغب دوستويڤسكى فى بعث راسكولنيكوڤ، فى أن يكتشف الكائنَ الإنسانىَّ فيه، فى أن يمنحه حياة جديدة، وكان يدرك - فى الوقت ذاته - الصعوبات المتصلة بتحقيق هذه الرغبة. ولأنه هو ذاته مرّ بهذه الصعوبات، فقد كان قادرا على الدخول فى أعماق مشاعر بطله بصورة كاملة.
والواقع أن قصةً حول بطل تقتضى تقمّص المؤلف لشخصية ذلك البطل، غير أن قصةً يرويها البطل تحتاج إلى التقمّص الكامل من جانب المؤلف. وفى إعداده للرواية التى جرى تخطيطها أصلا على أساس أنها اعتراف توصّل دوستويڤسكى إلى فهم أعمق الدوافع الحقيقية وراء جريمة راسكولنيكوڤ، وأدّى به هذا الفهم إلى رفض شكل الاعتراف لروايته.. التى احتفظت، مع ذلك، ببعض عناصر اعتراف. [رأينا منذ قليل أن دوستويڤسكى رغب فى بعث راسكولنيكوڤ وفى اكتشاف الكائن الإنسانىّ فيه وفى منحه حياة جديدة]
وتنتهى الرواية بفكرة العملية الطويلة والصعبة للميلاد الجديد المقبل ل راسكولنيكوڤ.
[فما الذى ردّه، وردّ معه سونيا، إلى الحياة؟ يجيب دوستويڤسكى:]
"الحب ردّهما إلى الحياة، وكان قَلْبُ كلِّ منهما يحمل ينابيع لا نهاية لها من الحياة لقلب الآخر". وفى المذكرات نقرأ: "ملاحظة - السطر الأخير للرواية: (غامضة هى الطرق التى يصل بها الله إلى الإنسان)".
غير أن السطر الأخير فى النسخة الأخيرة، المنشورة، يختلف عن هذا السطر. ولدينا هنا مثال ممتاز عن كيف يمكن لفنان أن ينتصر على التصوّرات التى كوّنها فى وقت سابق. ورفْض هذا السطر ليس مسألة صعوبة فى متابعة الاتجاه الدينى حتى النهاية بقدر ما هو تعبير عن صراع بين التصوّرات المتعارضة التى كانت تمزّق الكاتب.
[وننتقل الآن إلى النقطة الأخيرة. يقول المؤلف]
يبرهن تحليلُنا للجريمة والعقاب وللمذكرات الخاصة بهذه الرواية على بُطلان الادعاء الخاص بالطبيعة اللّاواعية، والشبيهة بالسير أثناء النوم، للعملية التى أبدع دوستويڤسكى عن طريقها رواياته.
ويمكن القول إن دوستويڤسكى كان واحدا من أكثر الكتاب انضباطا عقليا، كان كاتبا يبنى حبكة رواياته بأقصى العناية والدقة. وعندما نقول هذا فإننا لا نقلّل بأىّ طريقة من شأن دور حدسه كفنّان.
ومن ناحية بناء الحبكة يمكن أن نقارن "الجريمة والعقاب" ب "الكوميديا الإلهية" التى طبقّ فيها دانتى نظرية المعنى الرباعى للشعر - المباشر، والمجازىّ، والأخلاقىّ، والتماثلىّ - وهى النظرية التى كان قد طبقها من قبل فى "العيد". ويتمثل المعنى المباشر للقصيدة - فى تصوير ما بعد الحياة، والمجازىّ - فى فكرة العقاب، والأخلاقى - فى إدانة الشرّ والإشادة بالخير، والتماثلى - فى تمجيد حبّه ل بياتريس (وهو الحبّ الذى أوحى بالقصيدة) وتمجيد الله، الذى هو الحب الذى يحرّك الشمس والنجوم.
وفى تطوير المستويات المتعدّدة للمعنى وفى بناء الحبكة بعناية، ذهب دوستويڤسكى إلى ما هو أبعد كثيرا من دانتى. لقد عرف دوستويڤسكى جيّدا ذلك القانون من قوانين الفن الذى ينبغى وفقا له أن يُخْفى عن القارئ السرّ الذى اكتشفه، لكنْ بقدر ما يمكّن القارئ من أن يكتشفه بنفسه، وأن يعيشه وكأنه سرّه هو.
والواقع أنّ دوستويڤسكى، الصوفى المزعوم، كان أكثر الكُتّاب عقلانيّة. ومن ناحية الدقة والإحكام يمكن مقارنة تجاربه فى الفن بالتجارب فى العلم، فى حين يمكن مقارنة القوة العاطفية فى كتابته بتلك التى فى الموسيقى.