البرلينية الصغيرة قصة: روبرت ڤالزر
خليل كلفت
الحوار المتمدن
-
العدد: 6773 - 2020 / 12 / 28 - 20:48
المحور:
الادب والفن
Robert Walser
ترجمها عن الإنجليزية: خليل كلفت
اليوم.. صفعنى بابا على أذنىَّ، بالطبع بطريقة حنونة وأبوية للغاية. وكنتُ قد قلتُ عبارة: "أبى، لا بدَّ أنك مجنون". والواقع أنه كان طيشًا منى بعض الشيء. "السيدات ينبغى أن يستخدمن لغة مهذبة للغاية"، هكذا تقول مُدرِّسة اللغة الألمانية فى مدرستنا. إنها كريهة جدًا. لكن بابا لا يريد أن يسمح لى بالسخرية منها، وقد يكون على حق. وعلى أىّ حال، يذهب المرء إلى المدرسة ليُبْدِى حماسًا بعينه للتعلُّم واحترامًا بعينه. زِدْ على هذا أنه شيء رخيص ومبتذل أن نكتشف الأشياء المضحكة فى كائنات بشرية مثلنا ثم نضحك عليهم. والسيدات الصغيرات ينبغى أن يعوِّدْنَ أنفسهن على ماهو رفيع وسام - وأنا لا أفهم هذا تمامًا. لا أحد يرغب فى أىّ عمل منى، ولا أحد سيطلبه منى أبدًا، لكن الجميع سيتوقعون أن يجدوا أننى مهذبة فى عاداتى. هل سألتحق بمهنة من المهن فى مستقبل حياتى؟ بالطبع لا! سأكون زوجة شابة أنيقة؛ سأتزوج. ومن المحتمل أننى سأعذِّبُ زوجى. غير أن ذلك سيكون فظيعًا. والمرء يحتقر نفسه دائمًا متى أحسَّ بالحاجة إلى أن يحتقر شخصًا آخر. وأنا الآن فى الثانية عشرة من عمرى. لا بد أننى مبكرة النضج للغاية- وإلا، لما فكرتُ مطلقًا فى مثل هذه الأشياء. هل سيكون لى أطفال؟ وكيف سيحدث ذلك؟ وإذا لم يكن زوجى المنتظر كائنا بشريا حقيرا - إذن، أجل إذن فأنا واثقة من ذلك - سيكون لى طفل. حينئذ سأربِّى هذا الطفل. ولكننى أنا نفسى ما زلتُ بحاجة إلى تربية. أية أفكار حمقاء بوسعها أن تكون فى رأسى!
برلين أجمل وأرقى مدينة فى العالم. وسأكون إنسانة تدعو إلى الاشمئزاز إذا لم أكن مقتنعة بهذا بلا تردُّد. ألا يعيش القيصر هنا؟ أكان بحاجة إلى أن يعيش هنا إذا لم يكن يفضِّل الحياة هنا على أىّ مكان آخر؟ ومنذ بضعة أيام رأيتُ الأطفال الملكيِّين فى سيارة مكشوفة. إنهم ساحرون. وولىّ العهد يشبه إلهًا شابًّا مقدامًا، وكمْ بدت السيدة النبيلة جميلة إلى جانبه. لقد حجبها تمامًا الفراء الشذىّ العطر.. وبدا أن البراعم تنهمر على الحبيبيْن من السماء الزرقاء. ومنطقة "تيرجارتن" Tiergarten(1) رائعة. وأنا أذهب سيرًا على القدمين إلى هناك كلّ يوم تقريبًا مع سيدتنا الشابة؛ المربِّية. ويمكن أن يجُوسَ المرء ساعات خلال الأشجار، على طُرُق مستقيمة أو ملتوية. حتى أبى، الذى لا يريد فى الواقع أن يتحمس لأىّ شيء، متحمس ل "تيرجاتن". وأبى رجل مهذب. وأنا واثقة من أنه يحبُّنى بجنون. وسيكون شيئًا مفزعًا أن يقرأ هذا، لكننى سأمزق ما كتبتُ. والواقع أنه ليس من الملائم على الإطلاق أن أظلَّ حمقاء جدا وغير ناضجة وأن أرغب الآن، فى نفس الوقت، فى أن أحتفظ بيوميات. لكننى، من حين لآخر، أصبح مزعجة بعض الشيء وحينئذ أُفْسِحُ المجال بسهولة أمام ما ليس صحيحًا تمامًا. والمربِّية لطيفة جدا. حسنًا، أعنى بوجه عام. وهى مخلصة وتحبُّنى. بالإضافة إلى أنها تُكِنُّ احترامًا حقيقيًّا لبابا- وهذا هو الشيء الأكثر أهمية. وهى هزيلة البنية. كانت مربِّيتنا السابقة سمينة مثل ضفدعة. وكانت تبدو دائمًا وكأنها على وشك الانفجار. كانت إنجليزية. وهى لا تزال إنجليزية اليوم، بالطبع، غير أنه منذ اللحظة التى سمحتْ فيها لنفسها بتجاوز الحدود، لم تَعُدْ تهمنا. لقد طردها أبى.
وكلانا، بابا وأنا، سنقوم قريبًا برحلة. إنه الآن ذلك الوقت من السنة الذى يتعيَّن فيه على الناس المحترمين أن يقوموا ببساطة برحلة. أليس شخصًا من نوع مريب مَنْ لا يقوم برحلة فى مثل هذا الوقت من التبرعُم والإزهار؟ ويذهب بابا إلى شاطئ البحر ومن الواضح أنه يتمدَّد هناك يومًا بعد يوم ويَدَعُ نفسه كذلك لتلوِّحه شمس الصيف حتى يصير لونه أسمر داكنًا. وهو يبدو دائمًا أوفر صحة فى سپتمبر. وشحوب الإنهاك لا يليق بوجهه. وبالمناسبة، أنا نفسى أحبُّ الطلعة التى لوَّحَتْها الشمس فى وجه الرجل. فهو يبدو وكأنه عائد لتوِّه من الحرب. ألا يبدو هذا شبيهًا تمامًا بهراءٍ يقوله طفل؟ حسنًا، أنا ما زلتُ طفلة، بالطبع. وفيما يخصنى، سأقوم برحلة إلى الجنوب. قبل كل شيء سأذهب لفترة قصيرة إلى ميونخ ثم إلى البندقية، حيث يعيش شخص وثيق الصلة بى بشكل لا يوصف- ماما. ولأسباب ليس بوسعى أن أفهم أعماقها وبالتالى ليس بوسعى أن أقوم بتقييمها، يعيش والداى منفصليْن. وأنا أعيش معظم الوقت مع أبى. غير أن أمى أيضًا لها الحق بالطبع فى أن تحوزنى لمدة قصيرة على الأقل. وأنا أنتظر الرحلة الوشيكة بفارغ الصبر. فأنا أحبُّ السفر، وأظن أنه لا بد أن كل الناس تقريبًا يحبُّون السفر. يستقل المرء القطار، ويرحل القطار، ويمضى فى طريقه ويندفع بعيدًا. ويجلس المرء ويتم نقله إلى المجهول النَّائى. كمْ أنا ميسورة الحال، حقا! ماذا أعرف عن العَوَز، وعن الفقر؟ لا شيء على الإطلاق. كما أننى لا أجد من الضرورى على الإطلاق أن أعانى شيئًا حقيرًا كهذا. لكننى أحسّ بالأسف من أجل الأطفال الفقراء. ويمكن أن أقفز من النافذة فى مثل هذه الظروف.
بابا وأنا نقيم فى أروع حىٍّ فى المدينة. والأحياء الهادئة، والنظيفة بشكل دقيق، والقديمة بكل معنى الكلمة، رائعة. الجديد تمامًا؟ لا أودّ أن أعيش فى منزل جديد تمامًا. ففى الأشياء الجديدة هناك دائما شيء ليس سليما تماما. ومن الصعب أن يرى المرء أىّ أشخاص فقراء - العمال على سبيل المثال- فى المنطقة المجاورة لنا، حيث المنازل لها حدائقها الخاصة بها. والناس الذين يعيشون فى المنطقة المجاورة لنا هم أصحاب المصانع، وأصحاب البنوك، والأشخاص الأغنياء، الذين مهنتهم الغِنَى. وهكذا ينبغى أن يكون بابا، على أقل تقدير، ميسور الحال تمامًا. أما الفقراء والفقراء بعض الشيء فلا يمكنهم ببساطة أن يعيشوا بالقُرْب من هنا لأن الشقق باهظة التكاليف للغاية. ويقول بابا إن الطبقة التى يسيطر عليها البؤس تعيش فى شمال المدينة. يالها من مدينة! ماذا يعنى الشمال؟ إننى أعرف موسكو أفضل مما أعرف شمال مدينتنا. لقد أُرسلتْ إلىَّ بطاقات بريدية عديدة من موسكو وپطرسبرج وهولندا؛ وأعرف "إنجادين"(2) بجبالها التى ترتفع إلى عنان السماء ومروجها الخضراء، أمَّا مدينتى أنا؟ وربما بالنسبة لأشخاص كثيرين، كثيرين، يعيشون فيها تظلُّ برلين لغزًا. وبابا يدعم الفن والفنانين. وما يشتغل به هو الأعمال التجارية. حسنًا، كثيرًا ما يشتغل السادة بالأعمال التجارية، كذلك، وبالتالى فإن صفقات بابا تَتَّسِمُ برقَّة مطلقة. إنه يشترى ويبيع الصور الزيتية. ولدينا صور زيتية جميلة للغاية فى منزلنا. وفكرة تجارة أبى هى، فيما أظن، كالتالى: الفنانون، كقاعدة، لا يفهمون شيئًا عن الأعمال التجارية، أو أنهم، لسبب أو لآخر، لا يجوز لهم أن يفهموا أىَّ شيء عنها. أو هى كالتالى: العالم واسع وبارد القلب. والعالم لا يفكر مطلقًا فى وجود الفنانين. وهذا هو المدخل الذى يدخل منه أبى، خبير بالحياة والناس، مزوَّد بكافة أنوع الصلات المهمة، وبطريقة ملائمة وحاذقة، يجذب انتباه هذا العالم - الذى قد لا يكون بحاجة مطلقا إلى الفن - وإلى الفنانين الذين يموتون جوعًا. وغالبًا لا يُبالى أبى بالمشترين منه. ولكنه غالبًا لا يبالى بالفنانين، أيضًا. ويتوقف كل شيء على الظروف.
لا، لا أريد أن أعيش بصورة دائمة فى أىِّ مكان سوى برلين. هل يعيش الأطفال فى المدن الصغيرة، المدن التى هى قديمة وخربة، حياة أفضل بحال من الأحوال؟ بالطبع تُوجد فى هذه الأماكن بعض الأشياء التى لا توجد لدينا. أشياء رومانسية؟ أعتقد أننى لستُ مخطئة حين أهتمُّ بشيء نصف حىّ بالكاد كالشيء الرومانسى. الناقص، المقوَّض، السقيم؛ جدار مدينة عتيقة مثلا. كل ما هو عديم الفائدة لكنه جميل بصورة مبهمة - هذا هو الرومانسى. وأنا أحبُّ أن أحلم بمثل هذه الأشياء، وحسب تصوُّرى فإن الحلم بها كافٍ. وأخيرًا فالشيء الأكثر رومانسية هو القلب، وكل شخص حساس يحمل فى داخله مدنًا قديمة مُحاطة بجدران عتيقة. أما مدينتنا برلين فسوف تنفجر عما قريب من فرط الحداثة. ويقول أبى إن كل شيء فذٍّ من الناحية التاريخية هنا سوف يختفى، ولن يعرف أحد برلين القديمة بعد ذلك. وأبى يعرف كل شيء أو على الأقل كل شيء تقريبًا. وتستفيد ابنته من هذه الناحية بالطبع. نعم، قد تكون المدن الصغيرة المنتشرة فى قلب الريف لطيفة حقا. وقد تكون هناك مخابئ سرية ساحرة يمكن اللعب فيها، وكهوف يمكن الزحف إلى داخلها، ومُرُوج، وحقول، وعلى بُعْدِ خُطًى قليلة منها فحسب: الغابة. مثل تلك القرى تبدو مكلَّلة بالخضرة، ولكن برلين فيها قَصْرٌ من الجليد يمكن للناس أن يتزحلقوا فيه فى أشد أيام الصيف حرارة. وبرلين، ببساطة، تتقدم درجة على كل المدن الألمانية الأخرى، من جميع النواحى. إنها أنظف وأحدث مدينة فى العالم. مَنْ الذى يقول هذا؟ حسنًا، بابا طبعًا. كم هو طيب، حقا! علىَّ أن أتعلَّم منه الكثير. لقد تغلبتْ شوارع مدينتنا برلين على كل قذارة وعلى كل النتؤات. فهى ناعمة كالجليد وهى تلمع مثل الأرضيات الملمَّعة بدِقَّة المُوَسْوِس. وفى الوقت الحاضر يرى المرء أشخاصًا قليلين يتزحلقون على الأرض دون جليد. ومَنْ يدرى، فربما أجد نفسى أفعل ذلك، بدورى، ذات يوم، إذا لم يكن قد أصبح موضة قديمة فعلًا. توجد هنا موضات لا تكاد تجد وقتًا لتصبح شائعة بمعنى الكلمة. وفى العام الماضى لعب كل الأطفال وكذلك كثير من الكبار، لعبة الشيطان. والآن أصبحت هذه اللعبة موضة قديمة، ولا أحد يرغب فى أن يلعبها. وعلى هذا النحو يتغير كل شيء. وبرلين تحدِّد الموضة دائمًا. ولا أحد مُجْبَر على محاكاتها، غير أن "فراو" [السيدة] محاكاة هى الحاكم العظيم والمجيد لهذه الحياة. الجميع يُحاكون.
وبمقدور بابا أن يكون جذابًا؛ والواقع أنه لطيف دائمًا، غير أنه من حين لآخر يصبح غاضبًا بسبب شيء ما - ولا أحد يدرى مطلقًا ما هو - وحينئذ يكون قبيحًا. ويمكننى أن أرى فيه كيف يجعل الغضبُ الخفىُّ - شأنه شأن السخط تمامًا - الناس قبيحين. وإذا لم يكن بابا طيِّب المزاج، أشعر أننى مرتعبة مثل كلب مضروب بالسوط، ولهذا ينبغى أن يتجنب بابا إظهار ضيقه وسخطه لمن يخالطونه، حتى إذا كان هؤلاء عبارة عن ابنة واحدة فحسب. فى هذه النقطة، أجل فى هذه النقطة على وجه التحديد، يقترف الآباء الخطايا. وأنا أدرك ذلك بشدة. لكنْ مَنْ ذا الذى يخلو من نقاط ضعف - حتى من نقطة ضعف واحدة، حتى من عيب ما ضئيل؟ مَنْ ذا الذى بدون خطيئة؟ إن الآباء والأمهات الذين لا يعتبرون أن من الضرورى أن يحتفظوا لأنفسهم بعواصفهم الشخصية بعيدًا عن أطفالهم إنما يهبطون بهم إلى مرتبة العبيد فى لمح البصر. ينبغى على الأب أن يتغلب على طباعه السيئة بمفرده - لكنْ ما أصعب ذلك! - أو ينبغى عليه أن يذهب بها إلى غرباء. وأىّ ابنة هى سيدة صغيرة، وفى كل أب مهذب لا بد أن يوجد فارس. وأنا أقول بصراحة: الحياة مع الأب مثل الفردوس، وإذا اكتشفتُ عيبًا فيه، فلا شك فى أنه عيبٌ انتقل منه إلىَّ، وبالتالى فإن حذره، وليس حذرى، هو ما يراقبه عن كثب. غير أن بابا قد ينفِّس عن غضبه، بالطبع، بطريقة ملائمة على حساب أشخاص عالَةٍ عليه من بعض النواحى. وهناك ما يكفى من مثل هؤلاء الأشخاص الذين يذهبون ويجيئون حوله.
ولدىَّ غرفتى الخاصة بى، وأثاثى، وكماليّاتى، وكُتُبى، إلخ.، يا إلهى، إن أبى يعُولنى فى الواقع بأفضل صورة ممكنة. هل أنا شاكرة لبابا على كل هذا؟ أىّ سؤال لا طعم له! إننى مُطيعة له، ثم إننى مَلِكَةٌ أيضًا، ويمكنه، فى التحليل الأخير، أن يكون فخورًا بى حقا. وأنا أسبِّب له المتاعب، وأنا شغله المالى الشاغل، وقد يعضُّنى، وأنا أجد دائمًا نوعًا ما من الواجب اللذيذ فى أن أسخر منه عندما يعضُّنى. وبابا يحبُّ العضّ، فهو يتصف بروح الدعابة وهو، فى نفس الوقت ذاته، مُفْعَمٌ بالحيوية. وفى الكريسماس يغمرنى بالهدايا. وبالمناسبة، فقد صمَّم أثاثى فنانٌ من الصعب أن يكون مجهولًا. ويتعامل أبى على وجه الحصر تقريبًا مع أشخاص لهم اسم إلى حدٍّ ما. إنه يتعامل مع الأسماء. وإذا كان يختبئ فى اسم من تلك الأسماء إنسانٌ أيضًا، يكون ذلك أفضل بكثير. وكم يكون مفزعًا أن يعرف المرء أن شخصًا ما شهيرٌ ويشعر أنه لا يستحق تلك الشهرة على الإطلاق. ويمكننى أن أتخيل كثيرين من هؤلاء الأشخاص المشهورين. ألا تشبه مثل هذه الشهرة مرضًا عُضالًا؟ يا إلهى، أىّ طريقة أعبِّر بها عن نفسى! وأثاثى مطلىٌّ باللون الأبيض ومزخرف بالأزهار والفواكه على يد خبير بالفن. وقِطَع أثاثى ساحرة والفنان الذى زخرفها شخص رائع، ويقدِّره أبى تقديرًا عاليًا. وأىُّ شخص يقدره أبى جديرٌ بالإطراء حقًا. أعنى أنه يساوى الكثير أن يكون بابا عاطفًا على شخص ما، وأن أولئك الذين لا يجدون الأمر كذلك، ويتصرفون كأنهم لا يبالون بشيء، لا يُلحقون الأذى إلا بأنفسهم. إنهم لا يرون العالم بما يكفى من الوضوح. وأنا أعُدُّ أبى رجلًا رائعًا بكل معنى الكلمة؛ أمَّا أنه يستخدم نفوذه فى العالم فهذا بديهى. - كثير من كُتُبى يشعرنى بالضجر. غير أنها بالتالى ليست الكُتُب الملائمة ببساطة، مثل ما يسمى بكتب الأطفال، على سبيل المثال. ومثل هذه الكُتُب تشكل إهانة. هل يجرؤ المرء على أن يعطى الأطفال كُتُبًا ليقرأوها وهى لا تتجاوز آفاقهم؟ لا ينبغى أن يتحدث المرء إلى الأطفال بطريقة طفولية، هذه صبيانية. وأنا، أنا التى ما زلتُ طفلة، أكره الصبيانية.
متى سأكفُّ عن تسلية نفسى بلُعَب الأطفال؟ لا، لُعَب الأطفال حلوة، وسأظل ألعب بدميتى لفترة طويلة قادمة، غير أننى ألعب بطريقة واعية. أعرف أن ذلك شيء أحمق، لكنْ ما أجمل الأشياء الحمقاء وعديمة الفائدة. وأظن أن ذوى المواهب الفنية لا بد أن يشعروا نفس الشعور. وكثيرًا ما يأتى إلينا، أىْ إلى بابا، عدة فنانين شباب مدعوِّين إلى مأدبة. حسنًا، إنهم يُدْعَوْن ثم يظهرون. وكثيرًا ما أكتب الدعوات، وكثيرًا ما تكتبها المربِّية، وتسود حيوية هائلة وممتعة مائدتنا التى تُشْبِه، دون تفاخرٍ أو تباهٍ مقصود، المائدة الجيدة الإعداد لبيت ممتاز. ويستمتع بابا فيما يبدو بالتجوُّل مع الأشخاص الشباب، مع أشخاص أكثر شبابًا منه، ومع ذلك فإنه دائمًا الأكثر مرحًا والأكثر شبابًا. ويسمعه المرء يتحدث معظم الوقت، والآخرون يُصغون، أو يسمحون لأنفسهم بملاحظات قليلة جدًا، الأمر الذى يكون مضحكًا حقًا فى أحوال كثيرة. وأبى يَبُزُّهم جميعًا فى المعرفة والحيوية وفهْم العالم، وهؤلاء الأشخاص جميعًا يتعلمون منه - هذا ما أراه بوضوح. وكثيرًا ما أُضطرُّ إلى الضحك على المائدة؛ وعندئذ أتلقَّى عتابًا لطيفًا أو ليس بالغ اللطف. أجل، ثم بعد المأدبة نأخذ راحتنا. يتمدَّد بابا على الأريكة الجلدية ويبدأ فى الشخير، الأمر الذى يَدُلُّ فى الواقع على ذوق سقيم دون شك. غير أننى مفتونة بسلوك بابا. حتى شخيره الصريح يسرُّنى. هل يحتاج المرء إلى، هل يمكنه مطلقًا، أن يواصل الحديث طول الوقت؟
وأبى ينفق فيما يبدو قدرًا كبيرًا من النقود. وله إيراداته ونفقاته، وهو يكافح فى سبيل المكسب، وهو يَدَعُنا نعيش. بل إنه يميل بعض الشيء إلى الاسراف والتبذير. وهو فى حركة دائبة. ويقال الكثير فى بيتنا عن النجاح والفشل. وكلُّ مَنْ يأكل معنا ويخالطنا حقق شكلًا - صغُر أو كبُر - من النجاح فى العالم. ما هو العالم؟ شائعة، موضوع محادثة؟ على أىّ حال، يقف أبى فى قلب موضوع المحادثة هذا. بل من الجائز أنه يدير هذه المحادثة، داخل حدود معينة. وهدف بابا، على أىّ حال، هو أن يستخدم النفوذ. إنه يحاول أن يُطَوِّر، وأن يؤكِّد فى آن معًا نفسه وأولئك الأشخاص الذين له مصلحة فيهم. ومبدأه هو: إن ذلك الذى لا مصلحة لى فيه يُلحق الأذى بنفسه. ونتيجة لهذه النظرة، يغمر أبى دائمًا شعورٌ صحىّ بقيمته الإنسانية ويمكنه أن يتقدم، حازمًا وواثقًا، كما ينبغى. إن مَنْ لا يمنح نفسه أىَّ أهمية لا يشعر بأىِّ وخزات ضمير على ارتكابه أعمالًا سيئة. عمَّ أتحدث؟ وهل سمعتُ أبى يقول ذلك؟
هل تلقيتُ تربية طيبة؟ إننى أرفض حتى أن أرتاب فى ذلك. لقد تمت تربيتى كما تنبغى تربية سيدة من سيدات العاصمة، بألفة وفى نفس الوقت بقسوة محسوبة، الأمر الذى يسمح لى، ويلزمنى فى نفس الوقت، بأن أتعوَّد على اللباقة. والرجل الذى سيُكْتَبُ له أن يتزوجنى ينبغى أن يكون غنيًّا، أو ينبغى أن تكون أمامه آفاق كبيرة لثراء محقَّق. فقير؟ لا يمكننى أن أكون فقيرة. ومن المستحيل علىَّ وعلى المخلوقات التى تشبهنى أن نتحمل العَوَز المالى. سيكون ذلك غباءً. ومن ناحية أخرى، من المؤكد أننى سأعطى البساطة أفضلية فى نمط حياتى. فأنا لا أحب التباهى المادى. إن البساطة يجب أن تصير من وسائل الترف. إنها يجب أن تُومض مع اللباقة من كل ناحية، ومثل هذه التحسينات للحياة، والتى يتم الوصول بها إلى حد الكمال، تكلِّف مالًا. وأسباب الراحة والمتعة باهظة التكاليف. بأىِّ حيوية أتحدث الآن! أليست حيوية حمقاء بعض الشيء؟ هل سأحبّ؟ ما هو الحبّ؟ أىّ أنواع من الأشياء الغريبة والمدهشة لا بد أنها ما تزال تنتظرنى إذْ أجد نفسى أجهل إلى هذا الحد الأشياء التى ما زلتُ أصغر من أن أفهمها. وكم من التجارب سأعانى؟
(1914)
*****
إشارات
(1) تيرجارتن Tiergarten(وتعنى بالألمانية: حديقة الحيوان): منطقة فى برلين – المترجم.
(2) إنجادين: بقعة سياحية فى سويسرا - المترجم.
*****
قصة الكاتب السويسرى روبرت ڤالزر Robert Walser (15 أپريل 1878 – 25 ديسمبر 1956) وهو من كُتّاب اللغة الألمانية المهمّين فى هذا القرن. وقد برز بفضل رواياته الأربع التى نجت من الضياع (منها رواية "ياكوب فون جونتن" Jakob von Gunten) وكذلك بفضل كتاباته النثريّة القصيرة، التى لا تعوق الحبكة موسيقية كتابتها أو تدفُّقها الحرّ إلا بدرجة أقلّ. وأنتج الشاعر الإنجليزى كريستوفر ميدلتون Christopher Middleton ترجمات رائعة كما يقول النقاد لكثير من قصصه وكتاباته النثرية القصيرة إلى جانب روايته "ياكوب فون جونتن" وعمل على مدى سنوات طويلة على جعل ڤالزر معروفا لدى قراء اللغة الإنجليزية. وهذه القصة من ترجمة هارييت واتس Harriett Watts إلى الإنجليزية.
قال عنه هرمان هيسّه: "لو كان لديه مائة ألف قارئ لغدا العالم مكانًا أفضل".
وقد أعجب به كثيرون من كبار كتاب اللغة الألمانية وكان تأثيره قويًّا بصورة خاصة على كافكا الذى نظر إليه بعضهم فى بداية الأمر على أنه حالة خاصة من روبرت ڤالزر.
قال ڤالزر عن فنه:
أنا نوع من الروائى الحرفىّ. ولا شك فى أننى لستُ كاتب حكايات قصيرة. وعندما أكون متعاطفا، أىْ عندما أحمل مشاعر طيّبة، فإننى أخيط أو أرصف أو ألحم أو أسوِّى بالفارة أو أقرع أو أطرق أو أثبّت بالمسمار: سطورًا يفهم الناس محتواها فى الحال. وإنْ شئتَ أمكنك أن تصفنى بالكاتب الذى يذهب إلى عمله ومعه مخرطة. وكتابتى عبارة عن لصق ورق حائط. سيغامر قليل من الأشخاص العطوفين بأن يَعُدُّونى شاعرًا، الأمر الذى يدعونى التسامح وآداب السلوك إلى التسليم به. وقِطَعِى النثرية لا تزيد ولا تنقص - فى نظرى - عن كونها أجزاء من قصة واقعيّة طويلة بلا حبكة والاسكتشات التى أُنتجها من حين لآخر هى فصول قصيرة بعض الشيء أو طويلة بعض الشيء من رواية. والرواية التى أكتبها بلا انقطاع هى دائمًا نفس الرواية. ويمكن وصفها بأنها كتاب عن نفسى تمّ تقطيعه إلى شرائح أو تمزيقه إلى أجزاء بأشكال شتىّ.