مسارات تراجُع اليسار الماركسى
خليل كلفت
الحوار المتمدن
-
العدد: 5358 - 2016 / 12 / 1 - 10:22
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
اكتسب اليسار العربى سماته النوعية من نشأته فى إطار التبعية الاستعمارية فى بلدان عربية كانت مستعمرات وأشباه مستعمرات. وجاءت تطورات سياسية متنوعة فى منطقتنا وفى العالم طوال أكثر من قرن بسمات مميزة جديدة.
وقد فرض واقع التبعية الاستعمارية قضايا بعينها: فرضت البنية الاجتماعية-السياسية التابعة للاقتصاد الرأسمالى العالمى القضية الوطنية بجانبيها المترابطين: جانب التحرر من التبعية الاقتصادية وخلق مجتمع رأسمالى حديث، وجانب الاستقلال السياسى عن طريق جلاء الاحتلال العسكرى والتحرُّر من الإدارة الاستعمارية.
وتصدَّت لقيادة هذه الرأسماليات العربية التابعة حركات وأحزاب استقلالية قومية/وطنية، وبرجوازية صغيرة، أثناء وفى أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفى فترة ما بين الحربين، كما وقعت انقلابات عسكرية فى سياق قضية الاستقلال الوطنى، بدت معادية للإمپريالية و"الإقطاع" والتبعية الاقتصادية. وفى فترة استقلال المستعمرات فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، تحولت هذه الحركات والأحزاب والانقلابات تدريجيًّا إلى طبقات رأسمالية حاكمة: رأسمالية الدولة (من خلال التأميمات) أو الرأسمالية الخاصة أو الشراكة بينهما. وارتفعت شعارات الاستقلال والاشتراكية فضللت الشعوب باسم الاستقلال مرة، وباسم الاشتراكية مرة أخرى.
وكان من المنطقى أن تعجز الرأسماليات القومية/الوطنية التابعة عن تحقيق أىّ شعار أساسى من شعاراتها البراقة، وانتهت إلى التراجع التاريخى الشامل بعيدا عن كلِّ استقلال أو اشتراكية، وساد الاستغلال الفاحش بمعدلات قُصوَى، وتفاقم الفقر والإفقار رغم مكاسب "اشتراكية" ضئيلة سرعان ما تبخَّرت، وعمَّ الفساد الشامل الدولة والمجتمع والسكان، وتدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتؤدى إلى حدود قصوى للديكتاتوريات العسكرية. وتفاقمت مصادرة الحياة السياسية من خلال حظر الأحزاب السياسية اليسارية أو ترويضها وتقزيمها فقامت تعددية صورية متقلصة عدديا، ومنعزلة جماهيريا، وفقيرة فكريا، وانتهازية سياسيا، وذيلية إزاء السلطة الطبقية الحاكمة. ونشأت بيئة صارت مرتعا خصبا للتدهور الثقافى والرجعية الدينية وحركاتها الأصولية الإرهابية الواسعة الشعبية التى يتغذى انتشارها على بؤس الشعب اقتصاديا وفكريا وماديا وروحيا، من ناحية، ومن غياب الحرية، من ناحية أخرى.
وأدى كل هذا إلى تشكُّل رأسماليات تابعة وريعية وبقايا قبل-رأسمالية تسير على طريق التراجع التاريخى الشامل يمس بقاء هذه الشعوب، وليس إلى مجرد التهميش.
وحكمت حدود الثورات الشعبية وأوضاع التبعية القديمة والجديدة فى مصر، على ثورة 19، وعلى تداعيات انقلاب 52 العسكرى، وعلى ثورة يناير 2011، على سبيل المثال، بحدود قاسية وبعيدة عن إحداث تطور جذرى على طريق التصنيع والتحديث والاستقلال والخروج من التبعية. وتكررت هذه المسارات فى مختلف البلدان العربية، وفى مختلف مناطق وبلدان العالم الثالث.
وكانت بداية نشأة اليسار العربى ومسار تطوره متزامنين إلى حد كبير مع قيام الاتحاد السوڤ---ييتى، وتعاظُم حركة التحرر الوطنى الاستقلالى فى المستعمرات وأشباه المستعمرات فى إطار التحرر من الاحتلال الاستعمارى والإدارة الاستعمارية، وكذلك فى إطار أوسع من الحركات الشعبية الاستقلالية والاجتماعية المسلحة وخاصة فى الصين تحت راية الماركسية. وكان للإطار الشيوعى واليسارى العالمى تأثيره المنطقى المتمثل فى التبعية اليسارية العربية والعالمية، باستثناءات مهمة، لمركز أو آخر من المراكز الشيوعية، خاصة الشيوعية السوڤ---ييتية، والشيوعية الصينية الماوية، والأورو-شيوعية. كما كان لانهيار ذلك المسار الشيوعى العالمى تأثيرٌ قاصم للظهر على تطور اليسار العربى، مع اتضاح طبيعة الصيرورة الرأسمالية للأنظمة االتى نتجت عن كلٍّ من الثورات "الاشتراكية" والثورات القومية الاستقلالية المسلحة والسلمية فى كل مكان، ومع اتضاح الطبيعة الرأسمالية التابعة للرأسمالية القومية، ومع كل جوانب الانكسارات القومية فى البلدان العربية، خاصة بحكم الانكسارات الأصلية للحركة الشيوعية العربية تحت الضربات القاصمة للظهر لديكتاتوريات رأسمالية تابعة معادية للشيوعية يدعمها تأثير الدعاية الغربية.
كما جلبت معارك الاستقلال الوطنى معها قضية الوحدة العربية التى صارت غاية كبرى دعائية للأنظمة القومية، ولفلول تلك الأنظمة التى عملت على إحياء مراحل استقلالية لتطور الرأسمالية القومية مع الدفاع عنها، وعن سياساتها التى قادت إلى النكسات والانكسارات والهزائم، وحتى عن مغامرات الأنظمة القومية التى جلبت التدخلات والاحتلالات الاستعمارية والصهيونية.
وأدى انهيار الاتحاد السوڤ---ييتى إلى انهيار الحركات الشيوعية واليسارية فى العالم كله. فقد سارت الأحزاب الشيوعية التحريفية السوڤ---ييتية الطراز فى طريق العزلة الجماهيرية المُطْبِقة، فى بيئة سادتها أنظمة الحزب الواحد، أو التعددية الصورية، وتبعية النقابات العمالية والمهنية للدولة، وتصفية الحياة السياسية، ومحاربة الثقافة، وترويض المثقفين واليساريِّين، ومع الزمن، وبفضل بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية صارت جاهزة، تشكلت وتطورت جماعات الأصولية الإسلامية، التى هيأت جماهير واسعة لتبنِّى فكر الإسلام السياسى فى غياب يسارٍ أضعفته ضربات أمنية قاصمة، وتطورات اجتماعية وثقافية غير مواتية، جنبا إلى جنب مع التبعية الفكرية لليسار الماركسى بأغلبيته الساحقة إزاء التحريفية السوڤ---ييتية والأيديولوچيا القومية فى آنٍ معا.
وصار اليسار يعنى أحزابا شيوعية ضعيفة أيديولوچيًّا وعدديا وشعبيا، وتحريفية فكريا وسياسيا، باستثناءات قليلة وضعيفة، أىْ أن اليسار صار يعنى "فلولا" للشيوعية العربية، إلى جانب "فلول" أيديولوچيات الرأسمالية القومية التابعة، كالناصرية، والبعثية بجناحيها السورى والعراقى، وحركة القوميِّين العرب التى كانت لها على كل حال امتدادات أفضل فى فلسطين وعدن. وصار هدف اليسار القومى العربى هو الاستقلال من الطراز القومى الناصرى والبعثى، مع بعض الانتقادات المبعثرة. وعلى عكس الناصرية التى صارت ناصرية الشارع بعد رحيل عبد الناصر، ظلت الأنظمة القومية تمثل طموح بعث صدام حسين حتى إعدامه، وبعث حافظ الأسد وشبله بشار، إلى توسيع مناطق نفوذهما وخلق امتدادات مباشرة لحكمهما، الأمر الذى يجرِّد الكثير من هذه الأحزاب والحركات "اليسارية" من صفة اليسار، فهى شعبية إلى حد ما ولكنها قبل كل شيء امتدادات لنفوذ رأسماليات قومية تابعة للرأسمالية العالمية.
وكانت النتائج السياسية للضعف العددى والجماهيرى والأيديولوچى لليسار العربى الشيوعى فادحا على رؤيته للحاضر والمستقبل وتجاهُله لمقتضيات كبح التراجع التاريخى، وعدم إدراكه لأبعاد الكارثة التى تعيشها شعوبنا وبلداننا، والعجز، بالتالى، عن الاستفادة بالثورات والانتفاضات والانفجارات الشعبية فى تحقيق مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل رغم الدور الكبير لليسار الشيوعى والطليعة الشبابية الديمقراطية فى التمهيد لها وتفجيرها وتطويرها والسير بها إلى الأمام.
وبدَّد افتقار اليسار العربى، وغير العربى، إلى رؤية علمية ناضجة للثورات العربية الراهنة، جنبا إلى جنب مع ضعف تأثيره الجماهيرى، وقوة الثورة المضادة المتمثلة فى الأنظمة الحاكمة والإسلام السياسى الأصولى، فرصة تاريخية لتحقيق مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل، وساعد على هذا التقصير بقوة واقع أن أنظار الثوار ظلت شاخصة إلى أعلى نحو أحلام وأوهام استيلاء هذه الثورات على سلطة الدولة، ومع تبدُّد أوهام ثورة التوقعات والنكسات؛ طرأت على قطاعات كبيرة من اليسار حالة من الإحباط اقترنت فى كثير من الأحيان بمواقف يسارية طفولية وعدوانية.
وترتبط مصائر هذه الثورات بمقتضيات طبيعتها، وبغياب المفهوم النظرى للثورة الشعبية، وبالتالى لقوانين تطورها، بالتباسات مفهوم الثورة حتى فى النظرية الماركسية مع أنها قدمت مقدمات كافية لفهم الثورة دون نجاح فى مفصلتها، بل أحاطتها بنصوص ملتبسة حتى عند ماركس ذاته، رغم إنجازات الماركسية فى مجال الممارسة العملية الثورية فى كل مكان، وفى تطور التاريخ العالمى الحديث، وفى تطور العلوم الإنسانية والآداب والفكر طوال هذا التاريخ.
وكانت كل رأسماليات اليسار القومى التابعة ديكتاتوريات عسكرية. وكانت الكتب الماركسية تؤكد لنا أن الديمقراطية البرچوازية شكل من أشكال الديكتاتورية الطبقية، ولكننا لم ندرك أبعاد هذه المقولة ولم نكتشف إلا فيما بعد الطابع المزدوج لهذه البلدان حيث توجد ديكتاتورية عسكرية من أعلى تفرضها الطبقة الرأسمالية الحاكمة، وديمقراطية شعبية من أسفل تتطور بالتدريج نتيجة لمقاومة وتضحيات الطبقة العاملة وباقى الطبقات الشعبية، بحيث تتمثل حالة الديمقراطية فى محصلة هذا الصراع. وكان لغياب مفاهيم الديكتاتورية العسكرية والحكم العسكرى والديمقراطية أثر كبير فى تشوُّش شعارات ومطالب صيغت بوهم الديمقراطية، بل حتى بوهم تحقيقها من خلال ما سُمِّى بإعادة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية.
وإذا أوجزنا ملامح بعض ما حققه اليسار الماركسى، طوال تاريخه الطويل، الذى يبدأ ﺑ--- ماركس نفسه، وبمؤسسى هذه النظرية وواضعى المبادئ العامة لإستراتيچيات وتاكتيكات الممارسة الثورية، سنجد ما يلى:
وضع ماركس والمؤسسون نظرية اقتصادية واجتماعية وفلسفية أحدثت قطيعة مع كل نظرية سابقة، وصارت أعمالهم، وبالأخص رأس مال ماركس، أساسا من أسس الفكر العالمى بكل أيديولوچياته فى الاقتصاد السياسى والفكر الاجتماعى ونظريات، وحتى ممارسات، الفكر الجمالى والنقد الأدبى والآداب والفنون فى كل مكان؛ وكان هذا هو الإنجاز الكبير الذى تحقق وتمَّ على أساسه بناء نظريات والقيام بممارسات كبرى منذ ذلك الحين. وبدون النظرية الماركسية ما كان من الممكن أن يكون الفكر الفلسفى والاجتماعى والجمالى فى العالم كله بالنضج الحالى.
وقد تطورت الحركة العمالية والنقابية ونضالاتها بفضل تأثير الفكر الثورى الماركسى، وكما يعرف الجميع فقد حققت تلك النضالات نجاحات وإنجازات كبرى، ولا يمكن أن نتصوَّر بدون الدور الذى لعبته الماركسية وامتداداتها فى الممارسات النضالية ما حققته الطبقات الشعبية فى كل مكان فى مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحريات النقابية والسياسية، كما يتجلى فى مستويات المعيشة والأجور والتأمين الصحى والاجتماعى والنقابات القوية والأحزاب السياسية العمالية وتحسين شروط العمل والتطور الحاسم فى قدرتها التفاوضية على برامجها المطلبية. وبهذا تمَّ إرساء وترسيخ أُسُس أرضية اجتماعية لكل النضالات الحالية والقادمة.
ثم قطعت نضالات الحركة الاشتراكية خطوة كبرى إلى الأمام بثورات القرن العشرين المسماة بالثورات الاشتراكية. وكانت لقيام الاتحاد السوڤ---ييتى والصين الشعبية ودول أخرى نتائج تاريخية منها إنقاذ معظم شعوب هذه البلدان وبالأخص روسيا والصين من المصير المأساوى لبلدان العالم الثالث، وذلك بفضل التطوير الجذرى لقوى الإنتاج فى هذين البلدين.
ورغم الإطار الذى تحققت فيه هذه الإنجازات: رأسمالية الدولة البيروقراطية والحكم الديكتاتورى الاستبدادى المتطرف (الحكم الستالينى على سبيل المثال الصارخ)، كان للدور الاقتصادى والسياسى الذى لعبته هذه البلدان أثر كبير على تطوُّر العالم. ذلك أن المساعدة الاقتصادية والتقنية والسياسية التى قدمها الاتحاد السوڤ---ييتى للصين الشعبية ولبلدان "اشتراكية" أخرى، وكذلك لبلدان العالم الثالث كانت حاسمة فى تحقيق مستويات متعاظمة من التقدم والصمود أمام عدوانية الغرب الإمپريالى.
وقام الاتحاد السوڤ---ييتى بدور حاسم فى نشأة وتطور الأحزاب الشيوعية فى الغرب الرأسمالى المتقدم كما فى العالم الثالث التابع؛ وكان لهذه الأحزاب رغم مختلف مشكلاتها البنيوية، ورغم تبعية أغلبها للخط السوڤ---ييتى، دور تاريخى فى التطور السياسى والاجتماعى والثقافى والجمالى لكل البلدان على ظهر الأرض، وباختصار ... تحددت حالة العالم الراهن بالدور اليسارى التاريخى للماركسية وامتداداتها فى الحركة العمالية والبلدان والأحزاب والحركات الاشتراكية.
على أنه كان لا مناص من أن تنفجر ذات يوم فقاعة الإطار التحريفى لهذه الماركسية. وكشف انهيار الاتحاد السوڤ---ييتى وتوابعه حقيقة رأسمالية الدولة التى كانت تختفى وراء شعارات الاشتراكية. ثم دخلت هذه البلدان فى نفق مظلم فتراجعت قدرتها على مساعدة بلدان العالم الثالث، وبالأخص انهارت معه الأحزاب الشيوعية فى كل مكان وكأنها قصور من ورق. على أنه لا يمكن اعتبار تحريفية الماركسية وتراجُعها السبب وراء التراجع التاريخى للعالم الثالث، وتراجع قدرة الماركسية على تغيير العالم، والتراجع النسبى والمؤقت لدور الماركسية فى الفكر العالمى، لأن التاريخ لا يسير إلى الأمام بفعل التطور الفكرى وحده، ولا بد من أن نأخذ فى الاعتبار البنية المادية الاجتماعية-الاقتصادية التى حكمت وما تزال تحكم عليه أعمق تناقضاته بالتراجع بين رأسمالية عالمية تعيش أزمة ركودها المزمن، وعالم تابع يهدِّده تراجعه التاريخى بالانهيار الشامل لأنه يخضع لنتائج قانون "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية".
وتمثلت نتيجة ذات أهمية قصوى من نتائج تشخيص وممارسات الماركسية وبالأخص اللينينية لطبيعة عصرنا بوصفه عصر الإمپريالية والثورة الپروليتارية فى اتجاه اليسار الشيوعى العالمى نحو تأسيس نظرياته وممارساته على فرضية أن الثورة الپروليتارية على الأبواب. وصحيح أننا كنا وما نزال فى عصر الإمپريالية، ولكننا لم نكن مطلقا ولسنا الآن فى عصر الثورة الپروليتارية. خاصة إذا فهمنا الثورة الپروليتارية على أنها على الأبواب. والحقيقة أن نضالات سياسية وعمالية لليسار الشيوعى تأسست على هذا التشخيص طوال ما يزيد على قرن ونصف. وكان هذا يؤدى إلى ممارسة كل نضال طبقى على أنه فى سياق ثورة پروليتارية وشيكة. ويتمثل العيب الجوهرى لاتباع هذا التشخيص المضلل فى أن النضالات تركز إلى جانب حقائقها، على أوهام تُبدِّد التركيز الضرورى على برامج قابلة للتحقيق فى المدى المباشر إلى جانب النضال الفكرى الاشتراكى الطويل الأمد. وصحيح أن نضالات كبرى جرت فى سياق هذا التشخيص غير أن المحصلة كانت مختلفة دائما عنه. فقد ناضل كلٌّ من الحزبين الشيوعيين السوڤ---ييتى والصينى وغيرهما فى سياق تشخيص الثورات الاشتراكية الوشيكة، غير أن التطور الفعلى لهذه الأنظمة كان رأسماليا فى جوهره وغارقا فى الفساد، وديكتاتوريًّا وپوليسيًّا واستبداديًّا فى حكمه، وكان من المنطقى أن تكون المحصلة النهائية لتلك الثورات هى الرأسمالية المافياوية الصريحة السائدة فى هذه البلدان. ولولا هذا التشخيص ما كان من الممكن على سبيل المثال أن يتحول الصراع السياسى الصينى-السوڤ---ييتى إلى صراع أيديولوچى أدى إلى انقسام خطير فى الحركة الشيوعية العالمية. ويمكن القول إن الحيرة التى عذبت الثوار والمثقفين واليسار الشيوعى إزاء مسألة طبيعة الثورات العربية الراهنة ترجع إلى أوهام ترتبط بمقولة عصر الثورة الپروليتارية.
وكانت ثورات ما يسمَّى بالربيع العربى اختبارًا حاسمًا لحالة اليسار المصرى والعربى فى واقعه الحالى. ورغم الدور الكبير لذى لعبه ثوار اليسار كشرارة ساعدت على انطلاق هذه الثورات الشعبية الكبرى والسير بها إلى الأمام، عجز اليسار، بحكم ضعفه العددى والسياسى والجماهيرى والفكرى، عن خلق ركائز باقية من الديمقراطية الشعبية من أسفل باعتبارها أدوات نضالات قادمة. غير أن النتائج الفعلية المأساوية لهذه الثورات تمثلت فى حروب أهلية مدمرة فى سوريا وليبيا واليمن، بنتائجها الكارثية التى ستمتد لأجيال قادمة، ليس فى المحل الأول بسبب غياب اليسار، أو فشله فى تنظيم حزب يسارى كبير موحَّد، أو لقوة الإسلام الإخوانى-السلفى، بل بحكم قانون حدود الثورات الشعبية، طوال التاريخ.
أما سؤال كيف ينهض اليسار فإنه مرتبط بالتطور الاجتماعى لعالمنا الثالث، والأمل معقود على أن ينمو ويتطور ويتوصَّل فى خضم صراعاته الطبقية وتطوره الفكرى إلى تصورات أكثر إدراكا لإطار النضال الطبقى، بحيث لا يسير وراء أوهام الثورات الپروليتارية الوشيكة. وعندما يتحرر الفكر اليسارى الشيوعى من أوهام الاشتراكية الوشيكة يغدو من المحتمل أيضا أن تتحرر الممارسة الثورية من قيودها الفكرية الثقيلة.