النظام القديم والثورة الفرنسية
خليل كلفت
الحوار المتمدن
-
العدد: 7106 - 2021 / 12 / 14 - 11:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
L’Ancien Régime et La Révolution
(عرض للكتاب مكتوب بمناسبة حفل توقيع بمعرض الكتاب فى 16 أغسطس 2011)
تأليف: أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville
المركز القومى للترجمة (المشروع القومى للترجمة)، الطبعة الأولى 2010
*****
هذا الكتاب مُترجَم ومنشور قبيل الثورة الشعبية السياسية فى مصر منذ 25 يناير 2011. ولهذا تخلو مقدمتى للكتاب من أىّ إشارة إلى ثورتنا التى جعلت الكتاب مع ذلك كتابا يأتى فى وقته، حيث تثور فى سياق ثورتنا أسئلة ملحة عن الثورة ومفهومها وسياقاتها والنتائج الكبرى للثورات بوجه عام. وهو منشور بعد انقلاب 1952 الشهير بثورة يوليو بقرابة ستين سنة وكان توكڤيل يؤلف كتابه هذا بعد ثورة 1789 الفرنسية الكبرى، بقرابة ستين سنة كذلك. ولم يكن من الممكن أن يتنبأ أحد بهذه الثورة أو تلك حيث يستحيل التنبؤ بالثورات بوجه عام مهما قال قائل أو آخر إن حالة اجتماعية سياسية ما تتجه بأمة أو دولة إلى ثورة لا يعرف موعدها أحد. وكما كان على توكڤيل أن يدرس ويحلل ثورة بلاده بعد ستين سنة علينا أن ندرس ونحلل ثورتنا الآن. والفرق هو أنه كان يقوم بتشريح جثة مهما قال إن تلك الثورة كانت ما تزال مستمرة على حين أن علينا أن نقوم هنا والآن بدراسة ثورتنا فى خضم تطوراتها لكى نسير بها إلى الأمام فى مواجهة أخطار كبرى تتهددها وربما كان الخطر الأكبر يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته وفى طبيعتها وفى نتائج الثورات فى العالم الثالث بوجه عام. وأعتقد أن كتاب توكڤيل يقدِّم لنا عونا كبيرا فى هذا المجال رغم أن السياق التاريخى لثورته تختلف جذريا عن السياق التاريخى لثورتنا.
على أن علينا أن نركز هنا على الكتاب نفسه. ويحدد توكڤيل منذ الجملة الأولى فى مقدمته لكتابه طبيعة هذا الكتاب قائلا: "الكتاب الذى أقدمه الآن ليس أبدًا تاريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته؛ إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". والحقيقة أن الكتاب دراسة للنظام القديم وليس دراسة للثورة، وكان توكڤيل يخطط للجزء الثانى للكتاب الذى كان عليه أن يدرس الثورة وتطوراتها ونتائجها، غير أن المنية وافته قبل إنجاز هذا المشروع تماما كما توجَّس فى سياق مقدمته قائلا: "وقد تمّ إعداد مسوَّدات لقسم من هذا الكتاب الثانى، غير أنه لا يزال غير جاهز للنشر. فهل سأوفَّق إلى إتمامه؟ ومَنْ ذا الذى يَسَعُه أنْ يعرف ؟ إن أقدار الأفراد تظل أكثر إبهاما بكثير من أقدار الشعوب".
ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول طبيعة الثورة، ويدرس القسم الثانى بفصوله الاثنى عشر الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، على حين يبحث القسم الثالث مسألة لماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية.
ويطرح توكڤيل أسئلة ملحَّة متكررة متواصلة تناولها فى القسم الأول من الكتاب بفصوله القصيرة الخمسة، وهذه الأسئلة هى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟". وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة مُبَيِّنًا أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أنْ يتحقق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طويلة لاحقة لما كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل: "ومهما كانت الثورة جذرية فإنها مع ذلك جدَّدَتْ أقلّ كثيرا مما يُفترض عادة: [......]. وما يصحّ قوله عنها هو أنها دمَّرتْ بالكامل أو بسبيلها إلى أنْ تدمِّر (ذلك أنها ما زالت مستمرة) كل ما كان يتفرَّع، فى النظام القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية والإقطاعية، كل ما كان يرتبط بها بطريقة ما، كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة. وهى لم تحتفظ من العالم القديم إلا بكل ما كان دائما غريبا على هذه المؤسسات أو استطاع أنْ يوجد بدونها. والحقيقة أن الثورة لا يمكن وصفها أبدا بأنها حدث عرضىّ. وصحيح أن الثورة أخذتْ العالم على غِرَّة ومع ذلك فإنها لم تكن سوى تكملة لعمل أطول، النهاية المفاجئة والعنيفة لعمل ظلت تمارسه قبل ذلك على مدى عشرة أجيال من البشر. ولو لم تقع الثورة ما كان لذلك أنْ يمنع انهيار النظام الاجتماعى الهَرِم، هنا أسرع، وهنا أبطأ؛ كل ما فى الأمر أنه كان سيواصل الانهيار قطعة قطعة بدلا من التداعى دفعة واحدة. والحقيقة أن الثورة حققت على نحو مباغت، عن طريق محاولة مفاجئة ومؤلمة، وبدون انتقال، وبدون تحفُّظ، وبدون احتياط، ماكان سيتحقق قليلا قليلا من تلقاء نفسه فى الأمد الطويل. وكان ذلك هو العمل الذى حققتْه".
ويدرس القسم الثانى من الأقسام الثلاثة لهذا الكتاب، وهو القسم الأكبر بفصوله الاثنى عشر وهو بالذات المخصَّص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، وسيجد القارئ فى تلك الفصول شرحا معمَّقا لطبيعة "النظام القديم" الذى تمثلتْ الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال المَلَكِيَّة والإقطاعية والقروسطية لكىْ يندفع كمجتمع رأسمالىّ، بلا نعوت أخرى، كما يُقال، إلى الأمام. ويركز هذا القسم الثانى والرئيسىّ من كتاب توكڤيل على المجتمع الفرنسىّ الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروپا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروپا، وتشتمل الفصول الاثنى عشر للقسم الثانى على 6 فصول (2-7) تركِّز على تحليل المركزة الإدارية باعتبارها السمة المميِّزة للنظام القديم، و 4 فصول (8-11) تركِّز على نتائج هذه الظاهرة على حالة المجتمع، على حين يبحث الفصل الأول الحقوق الإقطاعية فى فرنسا فى ذلك الزمن، ويبحث الفصل الأخير (12) تدهور حالة الفلاحين خلال القرن الثامن عشر كاشفا مدى التَّوْق إلى الخروج من هذا البؤس إلى العدالة والمساواة والحرية. والحقيقة أن النظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعىّ أو الأريستقراطىّ القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). وعلى هذا الأساس كانت فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة لأنها كانت قد بدأتْ فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، أىْ أن "النظام القديم" كان يمثل الثورة الأولى قبل الثورة، ويطبق توكڤيل تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أىْ المركزة الإدارية، ويعنى هذا أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
الثورة الاجتماعية إذن هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية)، ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا السوڤييتية! والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير؟!
وهنا تبرز مسألة بالغة الأهمية يدَّخرها توكڤيل للقسم الثالث بفصوله الثمانية: لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا، ونستطيع أنْ نقرأ توكڤيل مباشرة وهو يبسط تقاطع واندماج هذه الشروط:
"وإذا أخذنا فى الاعتبار أنه إنما حدث بيننا نحن [الفرنسيِّين] أن النظام الإقطاعىّ كان قد فقد كل ما كان يمكن أنْ يحميه أو يخدمه، دون أنْ يغيِّر ما كان يزعج أو يضايق فيه، سنكون أقل دهشة إزاء واقع أن الثورة – التى كان عليها أن تُلغى بعنف هذا التكوين العتيق لأوروپا – انفجرتْ فى فرنسا وليس فى أىّ مكان آخر.
"وإذا نحن التفتنا إلى واقع أن النبلاء، بعد أنْ فقدوا حقوقهم السياسية القديمة، وكفُّوا، أكثر مما شهد أىّ بلد آخر فى أوروپا الإقطاعية، عن أنْ يديروا ويقودوا السكان، كانوا مع ذلك لم يحافظوا فقط على (بل زادوا كثيرا من) امتيازاتهم المالية ومغانمهم التى تمتَّع بها أعضاء هذه الطبقة بصفة فردية؛ وإذا التفتنا إلى واقع أنهم مع تحوّلهم إلى طبقة ثانوية ظلوا يشكلون طبقة ثرية ومغلقة: بصورة أقل فأقل أريستقراطية، كما سبق أنْ قلتُ فى موضع آخر، وبصورة أكثر فأكثر طبقة مغلقة، فإنه لن يدهشنا بعد ذلك واقع أن امتيازاتهم تبدو غير قابلة للتفسير وبغيضة بالنسبة للفرنسيِّين، وواقع أنه فى مواجهة هذه الامتيازات تأجَّج الميْل الديمقراطىّ فى قلوبهم إلى حد أنه ما يزال يشتعل فيها.
"وأخيرا، إذا أخذنا فى الاعتبار واقع أن هؤلاء النبلاء، منفصلين عن الطبقات المتوسطة، التى كانوا قد طردوها من بينهم، ومن الشعب الذى كانوا قد خسروا قلبه، صاروا معزولين تماما عن بيئة الأمة، فكانوا فى الظاهر طليعة جيش، وفى الواقع هيئة من الضباط بلا جنود، فإننا نفهم كيف أنه، بعد أنْ كانوا متماسكين على مدى ألف عام، صار من الممكن الإطاحة بهم خلال ليلة واحدة".
ويشير إلى الميْليْن الكبيريْن اللذين كانا يدفعان الرِّياح بقوة لتملأ أشرعة الثورة فى ذلك المكان (فرنسا) وفى ذلك الزمان (1789): الرغبة فى المساواة والرغبة فى الحرية، ويقول:
"وقُرْبَ نهاية النظام القديم، كان هذان الميْلان خالصيْن بنفس القدر وكانا يبدوان مُفْعَمَيْن بنفس القدر. وفى بداية الثورة، تلاقيا؛ واختلطا عندئذ وامتزجا للحظة، وأجَّج كل منهما الآخر بالاحتكاك، وأخيرا ألْهَبا فى آنٍ واحد معا كل قلب فرنسا. ولاشك فى أن عام 1789 كان زمن انعدام الخبرة، ولكنْ زمن السخاء، والحماس، والرجولة، والعظمة: زمن الذكرى الخالدة، التى سوف تستدير إليها بإعجاب وباحترام أنظار البشر، عندما سيكون قد اختفى منذ وقت طويل أولئك الذين شهدوها ونحن أنفسنا. عندئذ كان الفرنسيون فخورين بقضيتهم وبأنفسهم بما يكفى لاعتقادهم بأنه كان بمستطاعهم أنْ يكونوا متساوين ومتمتعين بالحرية. ووسط المؤسسات الديمقراطية، أقاموا مؤسسات حرة فى كل مكان. ولم يقوموا فقط بهدم هذا التشريع البالى الذى كان يقسِّم البشر إلى فئات مغلقة، وإلى طوائف، وإلى طبقات، والذى كان يجعل حقوقهم أكثر لامساواة أيضا من أوضاعهم، بل قاموا أيضا بضربة واحدة بتدمير كل القوانين الأخرى، الأعمال الأحدث للسلطة الملكية، التى جرَّدتْ الأمة من التمتُّع الحرّ بحياتها، ووضعتْ الحكومة إلى جانب كل فرنسىّ، لتكون معلِّمه، والوصىّ عليه و،عند الضرورة، مُضْطَهِدَهُ. ومع الحكومة المطلقة، سقطتْ المركزة".
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة. وبكلمات توكڤيل: "قام الفرنسيون، فى 1789، بأكبر محاولة كرَّس لها شعب نفسه فى يوم من الأيام، ليُحْدثوا، إنْ جاز القول، انقطاعا فى خط مصيرهم، وليحفروا هوة يفصلون بها بين ما كانوه إلى ذلك الحين وما أرادوا أنْ يكونوه منذ ذلك الحين فصاعدًا. وبهذا الهدف، اتخذوا كافة أنواع الاحتياطات لئلا ينقلوا شيئا من الماضى إلى وضعهم الجديد: لقد فرضوا على أنفسهم قيودا من كل نوع لكىْ يعيدوا تشكيل أنفسهم بصورة تختلف عما كان عليه أجدادهم؛ وباختصار فإنهم لم ينسوا شيئا من شأنه محو سماتهم المميزة السابقة"، ويعلِّق على هذا بقوله: "وقد اعتقدتُ دائما أنهم كانوا أقل نجاحا بكثير فى هذا المشروع الفريد مما كان يُفترض فى الخارج ومما افترضوه هم أنفسهم فى بداية الأمر. وكنت مقتنعا بأنهم، دون أنْ يدروا، احتفظوا من النظام القديم بأغلب ميوله، وعاداته، وحتى بالأفكار التى قادوا بها الثورة التى دمرته، كما كنت مقتنعا بأنهم، دون رغبة منهم استخدموا هذه الأنقاض لتشييد صرح المجتمع الجديد".
ومن الجلىّ أن طرح المسألة بهذه الطريقة يكشف عن تناقض عميق للغاية ومنطقىّ للغاية بين الحلم الذى يُلْهِب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقى لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"! ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققتْه الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسىّ إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة كبرى للصيرورة التاريخية المتصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضدّ "مواطنينها" وضد "الآخرين" جميعا، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أنْ تكون وحشية، وهل يملك البشر طريقا آخر إلى تحقيق إنسانيتهم الكاملة سوى طريق الآلام والوحشية؟
و توكڤيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن.
وينقلنا هذا إلى مقارنة لا مناص منها بين السياق التاريخى للثورة السياسية الفرنسية (1789، 1830، 1848) والسياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية. كانت الثورة أو الثورات السياسية فى البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية متقدمة تجرى فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية التى تتمثل فى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر: التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية فى حالة فرنسا وغيرها من البلدان المتقدمة. ويمكن أن نرصد بوجه خاص ثلاث نتائج كبرى للثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية، رغم كل خصوصية ورغم كل تنوُّع: النتيجة الأولى إزالة العراقيل والمعوقات والحواجز أمام التحول الرأسمالى؛ أىْ فتح أىّ أبواب مغلقة أمام تطور ورسوخ الحضارة الرأسمالية، وهذه نتيجة تقدمية وثورية تاريخية كبرى؛ والنتيجة الثانية قيام ديكتاتورية من أعلى: عهد الإرهاب وغزو الشعوب الأخرى والإمپراطورية والاستبداد والفساد والاستغلال وانقشاع أوهام المساواة والحرية والإخاء وباختصار قيام شكل أو آخر من أشكال ديكتاتورية البرﭼوازية. وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كالفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها كما يدين الاستبداد الناشئ عن ثوراتها السياسية، وإذا كانت حنة أرندت تستثنى الثورة الأمريكية من هذا المصير المعادى للحرية كنتيجة للثورات فالحقيقة أن الديمقراطية الأمريكية تمثل ديكتاتورية برﭼوازية لا جدال فيها ولا تمثل الحرية؛ والنتيجة الثالثة هى الديمقراطية من أسفل التى نشأت وترسخت فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر.
أما السياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية فإنه بعيد تماما، شأنه شأن السياق التاريخى لثورات العالم الثالث أو انقلاباته التى أيدها الشعب، عن سياق الثورة الاجتماعية. ذلك أن مصر وأغلب بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة قد أدخلتها الإمپريالية منذ البداية فى القفص الحديدى للثورة السكانية بدون ثورة صناعية، فلم تتحول إلى بلدان رأسمالية بل صارت حظائر أو أفنية أو زرائب خلفية للرأسمالية العالمية، وصار سياقها التاريخى هو سياق التبعية الاستعمارية، بعيدةً تماما عن الاستقلال الحقيقى رغم الاستقلال الشكلى من وجهة نظر القانون الدولى. فالثورة المصرية، وكذلك باقى الثورات العربية، تجرى إذن فى سياق التبعية الاستعمارية، ويدور الصراع إذن بين هذه الثورة الشعبية السياسية من جهة وهذه التبعية الاستعمارية بملحقاتها المحلية من جهة أخرى، أىْ بين هذه الثورة بكل قواها الحية الديمقراطية والعلمانية والمدنية وبطبقاتها الشعبية المقهورة وبين الثورة المضادة المتمثلة فى مؤسسات الدولة بلا استثناء والإسلام السياسى والطبقات المالكة والرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والرجعية العربية بقيادة المملكة العربية السعودية وقوى الإسلام السياسى الإخوانى والسلفى والصوفى محليا وعربيا وعالميا. وعلى هذه الثورة بالتالى أن تخوض معركة طويلة معقدة ربما لم تتهيأ لها وربما واتتها الفرصة للنمو فى سياقها. وإذا كان الدور التقدمى المتمثل فى فتح الأبواب أمام تطورات تاريخية من استقلال حقيقى ولحاق بالحضارة الرأسمالية غير وارد فى سياق ثورتنا لأن سياق الثورة الاجتماعية غائب عندنا فلا مناص من أن تتجه الآمال نحو الديمقراطية من أسفل التى أخذت تنمو بسرعة والتى تستطيع أن تناضل فى سياق معركة كر وفر فى سبيل حقوق وحريات الشعب، والتى تستطيع وحدها أن تنقذ البلاد من المصير المشئوم للعالم الثالث عن طريق التنمية، ولا مناص كذلك من أن تتجه المخاوف نحو الديكتاتورية واستعادة النظام السابق بدون مبارك ورجاله المباشرين، وبين الآمال والمخاوف يقع الظل. وأعتقد أن مفتاح تطور الثورة يتمثل فى العمل بلا هوادة على تطوير الديمقراطية من أسفل ولن يتحقق هذا إلا من خلال النضال بكل الوسائل التى تقدمها الشرعية الثورية ضد الثورة المضادة بكل قطاعاتها ومؤسساتها. (مكتوب فى 12 أغسطس 2011).
بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية
مقدمتى لكتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية L’Ancien Régime et La Révolution، 1856،
أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville،
المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010
يحدِّد أليكسى دو توكڤيل موضوع كتابه "النظام القديم والثورة" L Ancien Régime et la Révolution، منذ الجملة الأولى فى مقدمته، قائلا: "الكتاب الذى أقدِّمه الآن ليس أبدًا تاريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته؛ إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". إنه ليس تاريخا بل دراسة! وإذا كان التاريخ يعنى هنا البحث المدقِّق للوقائع السياسية لتلك الثورة وتحليل العلاقات السببية المباشرة بينها، بعيدا عن موضوعات علوم أخرى قد تتناول نفس الفترة، مثل الاقتصاد أو السوسيولوچيا أو الأنثروپولوچيا أو غيرها، باعتبار هذا التاريخ مكتوبا بالفعل، فإن ما أراده بالدراسة هو ما يجذب اهتمامنا بقوة.
وفى نهاية مقدمتها لطبعة حديثة من هذا الكتاب نفسه (Flammarion, Paris, 1988)، تتساءل فرانسواز ميلونيو Françoise Mélonio: "ماذا يبقى اليوم من المحتوى التاريخىّ لهذا الكتاب؟"، وتردّ على سؤالها بأنه لا يبقى سوى القليل، غير أنها تستدرك قائلة إن المؤرخين ما يزالون يقولون اليوم: "منذ توكڤيل". وتضيف أن المفاهيم التفسيرية التى أدخلها توكڤيل إلى مناقشة هذه الظاهرة لم تفقد جدَّتها بعد أكثر من قرن من الزمان فى مواجهة "أسطورة ثورية" (pages 36-37)، ذلك أن توكڤيل كان يطيب له أنْ يحتفى بذكرى 1789 "العام السعيد الذى ’سعى فيه أجدادنا إلى تأسيس شيء أعظم من هذا الذى نراه اليوم‘ [أىْ: فى منتصف القرن التاسع عشر عندما كان توكڤيل يؤلف كتابه]"، وكان بالغ الإعجاب بما تجلَّى فى 1789 من "السخاء الاجتماعىّ واتحاد الجميع، النبلاء، ورجال الدين، وعامة الشعب، فى سبيل تأسيس الحرية"، غير أنه رفض كل ما أعقب ذلك: الإرهاب، والإمپراطورية، وثورتىْ 1830 و 1848 الصغيرتيْن اللتيْن كرَّرتا إخفاق الثورة الفرنسية الكبرى (page 7).
وبعيدا عن التاريخ الذى لا يسرد توكڤيل قدرا هائلا من تفاصيل وقائعه وأحداثه وأوضاعه إلا ليقدِّم من خلالها وعلى أساسها "دراسته" ونتائج تلك الدراسة، يبرز جوهرها الحقيقىّ الذى لا تقتصر أهميته على فَهْم الثورة الفرنسية بل تمتدّ لتشمل مفهوم الثورة الاجتماعية بوجه عام. وإذا كان لا مناص من إجراء هذه الدراسة (وأىّ دراسة) داخل نطاق الإطار المعرفىّ لعلم من العلوم أو لعدَّة علوم وباستخدام الأدوات البحثية لهذا العلم أو هذه العلوم، فإن من المنطقىّ إذن أنْ نتساءل عن العلم المعنىّ أو العلوم المعنيَّة هنا. والحقيقة أننا يمكن أنْ نتحدث عن علوم منها التاريخ والسياسة والسوسيولوچيا والأنثروپولوچيا وحتى الفلسفة وعلم النفس؛ فبفضل استخدامها واستكشافها جميعا باقتدار كان بوسع توكڤيل أنْ يرسم تلك اللوحة النابضة بالحياة لمجتمع يتحوَّل بعمق من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر، وأنْ يحدِّد بوضوح طابع هذا التحوُّل ومنطقه وديناميته ومغزاه.
وإذا كان لنا أنْ نُعَرِّف الثورة الاجتماعية باختصار بأنها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر، فإن الجوهر الحقيقىّ لبحث توكڤيل هو أن هذا الانتقال لا يتمثل فى ضربة عنيفة واحدة هائلة تفتح الباب أمام تحوُّلٍ تاريخىٍّ (مثلا: ثورة 1789 أو بالأحرى ثورة 1789-1794)، بقدر ما يتمثل فى عملية تاريخية كبرى تسبِق وتعقُب مثل هذه الضربة العنيفة الواحدة على مدى عقود وأجيال قبلها وبعدها (وربما بدونها أصلا). وربما كانت هذه الفكرة ليست بالجديدة تماما، بالإضافة إلى أنها صارت مقبولة "بعد توكڤيل"، وربما بصورة مستقلة عنه أحيانا، غير أن فضل مَفْصَلَتِها واكتشافها والبرهنة عليها وإثباتها من خلال دراسة تطبيقية شاملة (حالة الثورة الفرنسية) يعود دون شك إلى توكڤيل.
ونحن نعلم اليوم علم اليقين أن فرنسا قد انتقلت من الإقطاع إلى الرأسمالية، ولا شك فى أن هذا الانتقال حدث خلال عهد بالغ الطول عن طريق أداة اسمها الثورة أو بالأحرى فإن هذا الانتقال هو الثورة ذاتها؛ ولكنْ ما هى الثورة؟ هل هى "حدث" 1789؟ أو "حدث" 1789-1794؟ هنا يأتى توكڤيل بحدسه وعلمه ومنهجيته ومعرفته وعبقريته ليقول لنا إن الثورة الفرنسية هى ما قبل وما بعد حدث 1789 وتشمل كذلك هذا الحدث: الثورة هى النظام القديم كما أنها حدث 1789 كما أنها نتائج هذا الحدث على المدى الطويل؛ الثورة ثورتان ومرحلتان وطوران، أو بكلمات توكڤيل: "ذلك أن الثورة كان لها طوران متميزان تماما: الطور الأول الذى بدا خلاله أن الفرنسيِّين يريدون إلغاء الماضى تماما؛ والطور الثانى الذى اتجهوا فيه إلى محاولة أنْ يستعيدوا من الماضى جانبا مما كانوا قد تركوه فيه. ذلك أن هناك الكثير جدًا من قوانين النظام القديم وأعرافه السياسية التى تختفى هكذا دفعة واحدة فى 1789 والتى تعاود الظهور بعد ذلك بسنوات قليلة، تماما كما تغوص بعض الأنهار تحت الأرض لتعاود الظهور فى مكان أبعد قليلا، لتظهر نفس المياه على شواطئ جديدة".
وكان هذا المفكر السياسىّ المحافظ، كما يصفه ماركس، والمعادى للأفكار الاشتراكية، كما يؤكد هو ذاته كثيرا، ورجل الدولة، أعنى توكڤيل، يتخذ موقفا مزدوجا من النظام القديم وكذلك موقفا مزدوجا من ثورة 1789. وفيما يتعلَّق بالنظام القديم كان كتاب "النظام القديم والثورة" مخصَّصا بكامله لتشريح نظام استغلالىّ يقوم على الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة فى سياق دفاع عميق عن الشعب وحقوقه وحريته ورَصْد دقيق لواقع أننا لسنا إزاء مجتمع إقطاعىّ قروسطىّ بل إزاء مجتمع انتقالىّ تنمو البرچوازية والرأسمالية فى رحمه؛ وفيما يتعلَّق بحدث 1789، كان موقفه المزدوج يتمثل فى تقدير دوره فى إزالة العراقيل أمام اكتمال خروج مجتمع جديد عصرىّ من ذلك المجتمع القديم حيث عاش من جديد مع الفرنسيِّين تَوْقَهم إلى التحرُّر والحرية مع إدراكه فيما كان يكتب بعد ستين عاما أن وعود الحرية كانت قد تبخَّرَتْ ليحلّ محلها واقع الديكتاتورية والإمپراطورية وعهود جديدة من الاستبداد والاستعباد.
ويقول توكڤيل متحدِّثا عن الفرنسيِّين الذين عاصروا الثورة: "وسأعبُر معهم فى البداية هذه الفترة الأولى من ثورة 1789، عندما كان حب المساواة وحب الحرية يعمران قلوبهم؛ عندما كانوا يرغبون فى أنْ يقيموا ليس فقط مؤسسات ديمقراطية بل مؤسسات حرة؛ ليس فقط فى القضاء على امتيازات، بل فى إقرار وتكريس حقوق؛ زمن الشباب والحماس والشهامة والعواطف النبيلة الصادقة، ذلك الزمن الذى – رغم أخطائه – سوف يحتفظ الناس بذكراه إلى الأبد، والذى سوف يَقُضُّ – على امتداد وقت طويل قادم – مضاجع كل أولئك الذين سوف يسعون إلى إفساد هذه الأشياء أو كبحها".
وبعد أنْ تدهورتْ الثورة وانحطَّتْ جارفة معها المجتمع "الجديد" بأسره، يرصد توكڤيل هذا المسار: "وفيما أتتبَّع بسرعة مسار هذه الثورة ذاتها فإننى سأحاول أنْ أبيِّن ما هى التطورات والأخطاء وخيبات الأمل التى انتهت بهؤلاء الفرنسيِّين أنفسهم إلى التخلِّى عن هدفهم الأصلىّ فلم يعودوا يريدون، متنكِّرين للحرية، سوى أنْ يصبحوا العبيد المتساوين لسيِّد العالم؛ وكيف أن حكومة أقوى وأكثر أوتوقراطية بكثير من تلك التى كانت الثورة قد أطاحت بها تسلَّمتْ مقاليد الحكم عندئذ، وركزتْ كافة السلطات فى يدها، وألغتْ كافة هذه الحريات التى دُفِع ثمنها غاليا، وأحلَّتْ محلَّها مظاهرها الوهمية الخادعة؛ وهكذا أصبحتْ سيادة الشعب تعنى أصوات ناخبين لا يمكنهم أنْ يستفسروا، ولا أنْ يتداولوا، ولا أنْ يختاروا؛ كما أصبح التصويت الحرّ على الضرائب يعنى موافقة مجالس خرساء أو خانعة، ورغم تجريد الأمة تماما من حقها فى أنْ تحكم نفسها ومن الضمانات الرئيسية لهذا الحق، حرية التفكير والتعبير والكتابة، أىْ ما كان يمثِّل أثمن وأسمى مكاسب 1789، فإن حكومة الثورة ما تزال تتجمَّل بهذا الاسم الكبير".
والفكرة المهمة هنا هى أن الثورة الاجتماعية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، كما يُقال، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، حسب قول شهير ﻟ ماركس فى معرض حديثه عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، سوى "الدَّاية" (القابلة أو المولِّدة): "العنف داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد. وهو ذاته قوة اقتصادية" Karl Marx, Capital, Vol. I, Progress Publishers, Moscow, 703, 1974. ومن الجلىّ أن المقصود بالعنف هنا هو الثورة السياسية، وفى مدخل "ثورة" فى الترجمة العربية ﻟ "معجم الماركسية النقدى"، الصادر عن دار محمد على الحامى للنشر (صفاقس) ودار الفارابى (بيروت)، الطبعة الأولى، 2003، نقرأ، نقلا عن أعمال ماركس و إنجلس الكاملة: "كل ثورة تلغى المجتمع القديم [...] ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغى السلطة القديمة [...] ثورة سياسية". وإذا كان كل تشبيه أعرج، كما يُقال أيضا، فإن هذا المجتمع الجديد لا يكون فى رحم المجتمع القديم مجرد "جنين" ناضج ("ابن تسعة" ولكنْ كجنين فقط) بل يكون مخلوقا مكتمل التكوين إلى حد كبير ولا يحتاج إلى ضربة عنيفة أو "داية" أو إلى عملية "قيصرية" إلا عندما تكون هناك عقبات وعراقيل وحواجز لا مناص من إزالتها من أمامها عن طريق العنف. وإذا كان هناك طريقان ممكنان لحدوث انتقال، بمعنى ثورة اجتماعية، أحدهما تراكمىّ/تدريجىّ والآخر "ثورىّ" فالحقيقة أن كل طريق منهما ثورة بنفس القدر وعملية تدريجية بنفس القدر، ذلك أن لحظة الضربة لا تنفى وجود عمليات تاريخية تدريجية قبلها وبعدها مهما تنوَّعتْ المستويات والمعدلات والسرعات لأسباب بنيوية أو ظرفية، كما أن الثورة التراكمية/التدريجية لا تنفى احتمال حاجتها فى شروط خاصة إلى دَفْعَة أو ضربة، وربما كان الصواب أنْ نقول إن الثورة الاجتماعية هى مجموع العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأيديولوچية والتقنية والتحديثية العميقة الطويلة المدى والتى قد تشهد ثورات وانقلابات وتحوُّلات علمية أو سياسية أو فكرية أو أدبية أو فنية أو تكنولوچية، إلخ.، على حين أن الثورة السياسية بالمعنى المقصود عادةً بهذه العبارة إنما هى تلك اللحظة أو الضربة أو "الدَّاية" مهما جلبتْ معها من تطورات أو تدابير أو قوانين اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها، ذلك أن الثورة السياسية ليست مقطوعة الصلة بعمليات الثورة الاجتماعية التى تخدمها أو تناوئها أو تعاديها الثورة أو الثورات السياسية.
وإذا كانت الثورة السياسية العنيفة (حتى دون إراقة دماء فى التَّوِّ واللحظة) "داية" أو تحتاج إلى "داية" أو تحتاج بالأحرى إلى آلاف "الدَّايات" اللائى يُحَقِّقْنَ مختلف خطوات وتدابير هذه الثورة القصيرة الأمد والمرتبطة بالاستيلاء على السلطة السياسية وبكل ممارساتها وإجراءاتها وأعمالها وبهجومها ودفاعها ضد الحروب الداخلية والخارجية عليها، فإن الثورة الاجتماعية الطويلة الأمد بالضرورة تحتاج عبر عقودها الطويلة وربما قرونها إلى ملايين ومليارات "الدَّايات" لتحقيق مختلف خطوات مختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والمقصود من وراء كل هذه المجازات باختصار هو أن الثورة الاجتماعية الطويلة العمر هى الأساس وأن الضربات واللحظات والأزمات العنيفة إنما تمثل بعض وسائلها وبعض نتائج تراكماتها وبعض أسباب نجاحاتها أو نكساتها. ولا يعنى نضج الثورة الاجتماعية فى رحم مجتمع قديم أنْ تكون قد حققتْ، قبل الثورة السياسية العنيفة أو قبل تحوُّلها الكامل إلى نظام اجتماعىّ، كل إمكاناتها الكامنة وكل ما هو موجود فيها بالقوة. ذلك أن الثورة الاجتماعية عملية متواصلة قبل وبعد لحظاتها "الثورية"، وحتى عندما تصير هذه الثورة نظاما اجتماعيا من حيث الكثير من عناصرها ومكوِّناتها قبل الثورة السياسية، أو من حيث كل عناصرها ومكوِّناتها بعد ذلك، فإننا لا نكون إزاء نظام اجتماعىّ مغلق إذ إن هذا النظام تتعدد وتتنوع مستوياته وفترات ومراحل تطوره وانتكاساته وأزماته وازدهاراته؛ إلى أنْ تُولَد بداخله وتتطور وتنضج ثورة اجتماعية لاحقة بكل حلقاتها الضرورية قبل الثورة السياسية الحاسمة والمزيد من نضج وتطوُّر الثورة الاجتماعية وبالتالى اكتمال تشكُّل وتكوين نظام اجتماعىّ جديد. وقد يحتاج الأمر إلى ثورة سياسية أو حتى ثورات سياسية عنيفة متعددة وقد لا يحتاج إليها أصلا كما تدلّ نماذج عديدة للانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية (ويتمثل النموذج الأصلى لهذا الانتقال ليس فى استيلاء برچوازية صاعدة على السلطة السياسية بعد تطور تراكمىّ للرأسمالية بقيادتها بل فى "تَبَرْچُز" الطبقة العليا الحاكمة اليونكرية الطراز أىّ فى تحوُّلها إلى برچوازية ورأسمالية كما حدث على سبيل المثال فى پروسيا والياپان).
ومن البديهىّ أن هذه العمليات لا تتمّ فى المختبر وأنها لا تتمّ فى عزلة بل تتشابك فيها شروط وأوضاع داخلية وخارجية، بنيوية وظرفية، لأنها تجرى فى هذا البلد أو ذاك وفى الوقت نفسه فى العالم وأيضا فى التاريخ بالمكوِّنات التزامنية والتعاقبية لهذا الأخير.
ومن الجلىّ هنا أنه لا يمكن لمفكر جادّ أنْ ينكر وجود الثورة الاجتماعية طوال تاريخ البشر؛ لأن مجرد التسليم بوجود نظم اجتماعية اقتصادية متعاقبة يعنى التسليم بالانتقالات التى أوجدتْها، فهذه الانتقالات إنما هى الثورات الاجتماعية ذاتها والتى قد تحتاج أو لا تحتاج إلى لحظات أو ضربات أو ثورات سياسية عنيفة. ولاجدال فى الوقت نفسه فى أن نماذج أو أنماط أو أنواع أو أشكال الثورات الاجتماعية بالغة التنوُّع فلا سبيل إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية عن الثورات الإقطاعية عن الثورات الرأسمالية ولا إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية فيما بينها والإقطاعية فيما بينها والرأسمالية فيما بينها. وصحيح أن أوجه تماثل الثورات الرأسمالية فيما بينها وحتى النظم الرأسمالية فيما بينها قائمة دون شك غير أن هذه الثورات الرأسمالية والنظم الرأسمالية (المتطوِّرة: أىْ التى تستحق هذه التسمية عن جدارة) تقدِّم لنا لوحة بالغة التنوع فى أشكال وألوان وخصوصيات تحقيقها ووجودها بعيدا عن كل تطابق ولكنْ بعيدا أيضا عن الاختلاف الجوهرىّ فى الخصائص الأساسية التى تجعلها ثورات رأسمالية ورأسماليات. ولا يتَّسع المجال هنا لمقارنات بين أشكال تحقيق ثورات اجتماعية تنتمى إلى نفس النظام الاجتماعىّ الواحد (مثلا: الإقطاع اللاتينىّ-الجرمانىّ والإقطاع الشرقىّ) أو إلى نُظُم اجتماعية مختلفة (مثلا: نظام العبودية المعمَّمة الفرعونىّ والنظام الرأسمالىّ الأمريكىّ).
ويركِّز المؤرخ الأمريكىّ للثورة الفرنسية كرين برينتون Crane Brenton فى كتابه المهم "تشريح الثورة" The Anatomy of Revolution, Vintage Books, New York, 1965، على التماثلات أو أوجه التماثل uniformities بين أربع ثورات كبرى فى العصر الحديث: الثورة الإنجليزية (1688)، والثورة الأمريكية (فى ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر)، والثورة الفرنسية (1789)، وثورة أكتوبر الروسية (1917). ولا يقول هذا المؤلف بوجود أىّ تطابق فما يطرحه هو التماثل مع أخذ التنوُّع فى الاعتبار، ومتأثرا بعمق بكتاب توكڤيل يجعل هذا المؤلف "الثورة" امتدادا لما قبلها على حين أن ما بعدها امتداد لها. ويقول برينتون: "منذ وقت طويل أوضح توكڤيل أن الثورة الفرنسية جاءت لتكمل عمل صف طويل من ملوك فرنسا، لجعل السلطة الممركزة [أو: المركزية] فى فرنسا فعالة ومكتملة" (page 239). ويجعل هذا المؤلف بعض التعابير التى نشأتْ فى سياق بعض الثورات قابلة للامتداد إلى ثورات أخرى (مثلا: تعبير "النظام القديم" و "التيرميدور")، وينقل تعبير "النظام القديم" من الثورة الفرنسية إلى غيرها من الثورات بلفظه ومحتواه: "من فرنسا جاءت عبارة ’النظام القديم‘. وهى تشير، عند تطبيقها على تاريخ فرنسا، إلى طريقة حياة ثلاثة أو أربعة أجيال سابقة لثورة 1789. ولعلّ مما يحقّ لنا أنْ نَمُدّ استعمالها لِنَصِفَ بها المجتمعات المتنوعة التى نشأتْ منها ثوراتنا" (page 27). على أن أىّ استعادة لاحقة للنظام الملكىّ لم تكن تعنى مطلقا استعادة ما دمرتْه ثورة 1789 من ذلك "النظام القديم" السابق عليها، ويستشهد بقول مأثور فرنسىّ: "Toute restauration est révolution" [كل استعادة ثورة]، (page 225).
وينتج عما سبق بصورة منطقية تماما أن الثورة الرأسمالية ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن الرأسمالية فى رحم الإقطاع وداخل نطاق إطاره الاجتماعىّ وبالأخص فى أواخر عهده أولا ثم المزيد من هذه العمليات التطورية مع تفسُّخ النظام الإقطاعىّ والمزيد والمزيد من تفسُّخه أىْ دون أنْ تظلّ هذه الرأسمالية داخل محيط إقطاعىّ خالص بل فى إطار أوضاع انتقالية، وقد تأتى الضربات السياسية البرچوازية والشعبية مبكرا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية وقد لا تأتى أبدا، وفى نهاية المطاف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام نظام رأسمالىّ مستقر مهما اشتمل على بقايا للإقطاع أو لأشكال إنتاج سابقة للرأسمالية أو على تشكُّلات جنينية أو مكتملة نسبيا للنظام الاجتماعىّ اللاحق منطقيا أو تحليليا للرأسمالية ذاتها ألا وهو النظام الاشتراكىّ. على أن النظام الرأسمالىّ الذى كان محصلة لذلك التطور الطويل الأمد لا ينغلق باكتماله ونضجه واستقراره، ولا ينكفئ على نفسه، بل تتمّ داخل نطاقه تطورات وثورات علمية ومعرفية وتقنية وتحديثية وغيرها بكل نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل هذه الأشياء يعيش النظام الرأسمالى "حياته الطبيعية"، على أن تناقضاته لا تكفّ بدورها عن النموّ والتفاقم مما يقودها فى الأمد الطويل على طريق الركود المزمن والتفسُّخ والانهيار والموت أمام احتمالين كبيرين متناقضين: الاشتراكية أو البربرية. على أن تشكُّل وتكوين وتطوُّر النظام الاجتماعىّ الاشتراكىّ داخل نطاق هذه الرأسمالية هى الأشياء التى تنقذ البشر من الهلاك وتهزم البربرية وتفرض الاشتراكية وليس أطيافها وأوهامها الجميلة كما فعلتْ الثورات "الاشتراكية" التى شهد القرن العشرون لحظة ميلاد ولحظة موت كل منها .
الثورة الرأسمالية إذن هى الرأسمالية منظورا إليها من زاوية عمليات تطورها قبل وبعد الثورة السياسية وإلى أنْ يتمّ استقرارها كمحصلة لهذه العمليات فى نظام اجتماعىّ؛ فهل حدث أن هذه العمليات المترابطة لتطور الرأسمالية كانت قد قطعتْ أشواطا طويلة بالفعل قبل ثورة 1789؟
الواقع أن توكڤيل يسرد فى حدود التفصيل الملائم لموضوع كتابه قدرا هائلا من الوقائع والتطورات التى تُثْبِت مسيرة فرنسا، مثل باقى أوروپا الغربية، فى طريق الحضارة الجديدة أىْ الرأسمالية، والتى تكشف واقع العقبات والعراقيل والحواجز والكوابح التى تعترض طريق تلك المسيرة والتى تتمثل فى بقايا الإقطاع بكل أعبائها على الشعب والنظام الملكىّ بكل فساده واستبداده واضطهاده لكل الطبقات. وهو لا يصف لنا نظاما إقطاعيا خالصا اندلعت ثورة 1789 للقضاء عليه وتسليم السلطة للبرچوازية، بل يصف لنا هذا النظام الانتقالىّ الذى يسميه "النظام القديم" ويعتبره الثورة الأولى ويخصص له كتابه تاركا مهمة مناقشة الثورة الثانية أىْ ثورة 1789، بمراحل نتائجها اللاحقة، لكتاب كان يتمنَّى أنْ يعيش ليكتبه ولكنْ وافتْه المنية قبل ذلك فلم يترك منه سوى قليل من الفصول المكتملة (فصليْن بالذات) وكثير من المخطوطات وهى كلها مطبوعة ومتاحة على كل حال.
ولا يتسع المجال هنا لسرد تفاصيل الوقائع التى تُثْبِت أن النظام القديم لم يكن نظاما إقطاعيا خالصا بل كان مجتمعا انتقاليا يتجه إلى الرأسمالية بخطى حثيثة، ولهذا سأكتفى ببعض الإشارات القليلة: كانت القنانة التى هى شكل الاستغلال الإقطاعىّ بامتياز قد اختفت تاركة مجرد بقايا وكان الفلاح كمالك عقارىّ صغير قد نشأ وصار واقعا أساسيا مع أن البقايا والحقوق والامتيازات الإقطاعية كانت ما تزال ثقيلة الوطأة على السكان فى الأرياف فى المحل الأول؛ وفى سياق مناقشته الرائعة لتماثل الفرنسيِّين من مختلف الطبقات باستثناء الفلاحين على وجه الخصوص يعود توكڤيل بهذه الظاهرة إلى أصلها الاجتماعىّ الاقتصادىّ: الإفقار المتواصل للنبلاء وهم كبار الملاك العقاريِّين والعمود الفقرىّ للإقطاع وبالتالى هبوطهم، من جهة، والثروة المتزايدة للبرچوازيِّين وبالتالى صعودهم، من الجهة الأخرى؛ وهناك تطور الصناعة والارتفاع المتواصل لعدد المصانع والمعامل والأفران العالية وكذلك اتساع نطاق التجارة والسوق والعلاقات السلعية النقدية فى المدن وتركُّزها فى پاريس، بالإضافة إلى الإصلاحات فى أساليب الزراعة والرىّ والنقل الواسع النطاق للسلع الزراعية؛ وبالتالى بروز طبقة واسعة من رجال الأعمال فى كافة القطاعات الاقتصادية، من جهة، وبروز طبقة واسعة من العمال، من الجهة الأخرى؛ وفى سياق مناقشته البالغة العمق لمسألة المؤسسات التى كان يُعْتَقَد خطا أنها من منجزات الثورة على حين أن الحقيقة أنها من منجزات النظام القديم حيث تتجلَّى بوضوح وجوه مختلفة لوجود هذه المؤسسات التى تحقِّق الأسس التشريعيَّة التى تلائم المجتمع الجديد بحكم تماثلها وتوحيدها بعيدا عن الامتيازات وتنوُّع القوانين العرفية، من جهة، والتى تقدِّم الجهاز القانونىّ للديكتاتوريات اللاحقة، من الجهة الأخرى، ... فى هذا السياق يركِّز توكڤيل على المركزة التى يصفها بأنها "ليست أبدا إنجازًا للثورة. وعلى العكس من ذلك فإنها نَتَاجٌ للنظام القديم وأضيف أنها الجانب الوحيد الذى بقى بعد الثورة من البناء السياسى للنظام القديم، لأنها كانت الجانب الوحيد الذى استطاع أنْ يتوافق مع الوضع الاجتماعىّ الجديد الذى خلقتْه الثورة". كما يؤكد أن الثورة الأولى التى أنجبتْ كل الثورات الأخرى إنما تتمثل فى المركزة الإدارية والسلطان المطلق ﻟ پاريس (التى كانت عاصمة فرنسا ثم صارت سيِّدة فرنسا ثم انتهت إلى أنْ تكون فرنسا ذاتها).
والحقيقة أن كون "النظام القديم" (أو: العهد البائد) يمثل الثورة الأولى على حين تمثل ثورة 1789 الثورة الثانية لا يعنى أن هذا المفكر السياسىّ يقلِّل من أهمية هذه الثورة الثانية، فقد قامت بالفعل باعتبارها ثورة جذرية بدور كبير بجوانبه المجيدة والسلبية: "ورغم أن النظام القديم لا يزال قريبا جدا منَّا، إذْ إننا نلتقى كل يوم برجال مولودين فى ظل قوانينه، فإنه يبدو الآن أنه غرق فى ليل العصور. والحقيقة أن الثورة الجذرية التى تفصلنا عنه قد أحدثت تأثير قرون: لقد حجبتْ كل ما لم تدمره". وكما يعلم الجميع فقد أزالت هذه الثورة عقبات كبرى من طريق التطور الرأسمالىّ، ومن ذلك تحرير الفلاحين من الالتزامات الإقطاعية (مراسيم أغسطس 1789)، وإلغاء الحقوق والالتزامات الإقطاعية دون تعويض (مايو-يونيو 1794)، ومصادرة أراضى الكنيسة (مرسوم نوڤمبر 1789)، والإطاحة بالملكية (10 أغسطس 1792)، وإعلان الجمهورية (21 سپتمبر 1792). ولسنا هنا بالطبع إزاء تأميم الأرض وتوزيعها على مَنْ يُفلحونها بل نحن إزاء بيع أراضٍ جرتْ مصادرتها ولكن الفلاحين الشارين لم يكونوا يملكون الأرض للمرة الأولى فالملكية العقارية الصغيرة للفلاح كانت ظاهرة قديمة فى فرنسا كما سبق أن رأينا، ويقول توكڤيل: "الثورة باعت كافة أراضى الكنيسة وجانبا كبيرا من أراضى النبلاء؛ غير [....] أن أغلب هذه الأراضى قام بشرائها أناس كانوا يمتلكون أراضى أخرى بالفعل". ولأن الثورة الفرنسية قضَّتْ مضاجع ملوك أوروپا فقد فُرِضَتْ على فرنسا حروب متواصلة شنتْها ائتلافات أوروپية عديدة (الأول فى 1791: النمسا وپروسيا؛ الثانى فى 1798-1802: إنجلترا، ومملكة ناپولى، والنمسا، وروسيا، وتركيا؛ الثالث فى 1805: بريطانيا، وروسيا، والنمسا؛ الرابع فى 1806: بريطانيا، وپروسيا، وروسيا، وساكسونيا، والسويد؛ الخامس فى 1809: النمسا وبريطانيا؛ وفى 1814: دخلتْ الجيوش المتحالفة پاريس؛ وبعد أسبوع: استعادتْ أسرة البوربون عرش فرنسا؛ وفى 1815: هُزِمَ ناپليون فى واترلو وخسر رهانه الأخير على النصر)، وكل هذا بالإضافة إلى الحروب الناپليونية الشهيرة خارج فرنسا ومنها غزوه لروسيا فى 1812 والأسماء التى لا تُنْسَى لمعاركه الشهيرة وفتوحاته ومنها الحملة الفرنسية على مصر، وبالإضافة إلى قمع الانتفاضات المسلَّحة الداخلية. ورغم أنه قد يكون من المضجر أنْ نسرد أسماء حروب ومعارك وفتوحات معروفة وشهيرة، فقد أردتُ فقط أن أضع جنبا إلى جنب عناوين تكشف مدى العنف الداخلىّ والخارجىّ، الدفاعىّ والهجومىّ، الذى كانت تنطوى عليه الثورة الفرنسية، تلك "الدَّاية" الجبارة التى مارستْ مهنتها المعروفة فى فرنسا وأوروپا والعالم.
ويطرح توكڤيل أسئلة ملحَّة متكررة متواصلة تناولها فى القسم الأول من الكتاب بفصوله الخمسة، وهذه الأسئلة هى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟". وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة مُبَيِّنًا أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أنْ يتحقق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طويلة لاحقة لما كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل: "ومهما كانت الثورة جذرية فإنها مع ذلك جدَّدَتْ أقلّ كثيرا مما يُفترض عادة: سأوضح هذا فيما بعد. وما يصحّ قوله عنها هو أنها دمَّرتْ بالكامل أو بسبيلها إلى أنْ تدمِّر (ذلك أنها ما زالت مستمرة) كل ما كان يتفرَّع، فى النظام القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية والإقطاعية، كل ما كان يرتبط بها بطريقة ما، كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة. وهى لم تحتفظ من العالم القديم إلا بكل ما كان دائما غريبا على هذه المؤسسات أو استطاع أنْ يوجد بدونها. والحقيقة أن الثورة لا يمكن وصفها أبدا بأنها حدث عرضىّ. وصحيح أن الثورة أخذتْ العالم على غِرَّة ومع ذلك فإنها لم تكن سوى تكملة لعمل أطول، النهاية المفاجئة والعنيفة لعمل ظلت تمارسه قبل ذلك على مدى عشرة أجيال من البشر. ولو لم تقع الثورة ما كان لذلك أنْ يمنع انهيار النظام الاجتماعى الهَرِم، هنا أسرع، وهنا أبطأ؛ كل ما فى الأمر أنه كان سيواصل الانهيار قطعة قطعة بدلا من التداعى دفعة واحدة. والحقيقة أن الثورة حققت على نحو مباغت، عن طريق محاولة مفاجئة ومؤلمة، وبدون انتقال، وبدون تحفُّظ، وبدون احتياط، ماكان سيتحقق قليلا قليلا من تلقاء نفسه فى الأمد الطويل. وكان ذلك هو العمل الذى حققتْه".
وهنا تبرز مسألة بالغة الأهمية يدَّخرها توكڤيل للقسم الثالث بفصوله الثمانية: لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا، ونستطيع أنْ نقرأ توكڤيل مباشرة وهو يبسط تقاطع واندماج هذه الشروط:
"وإذا أخذنا فى الاعتبار أنه إنما حدث بيننا نحن [الفرنسيِّين] أن النظام الإقطاعىّ كان قد فقد كل ما كان يمكن أنْ يحميه أو يخدمه، دون أنْ يغيِّر ما كان يزعج أو يضايق فيه، سنكون أقل دهشة إزاء واقع أن الثورة – التى كان عليها أن تُلغى بعنف هذا التكوين العتيق لأوروپا – انفجرتْ فى فرنسا وليس فى أىّ مكان آخر.
"وإذا نحن التفتنا إلى واقع أن النبلاء، بعد أنْ فقدوا حقوقهم السياسية القديمة، وكفُّوا، أكثر مما شهد أىّ بلد آخر فى أوروپا الإقطاعية، عن أنْ يديروا ويقودوا السكان، كانوا مع ذلك لم يحافظوا فقط على (بل زادوا كثيرا من) امتيازاتهم المالية ومغانمهم التى تمتَّع بها أعضاء هذه الطبقة بصفة فردية؛ وإذا التفتنا إلى واقع أنهم مع تحوّلهم إلى طبقة ثانوية ظلوا يشكلون طبقة ثرية ومغلقة: بصورة أقل فأقل أريستقراطية، كما سبق أنْ قلتُ فى موضع آخر، وبصورة أكثر فأكثر طبقة مغلقة، فإنه لن يدهشنا بعد ذلك واقع أن امتيازاتهم تبدو غير قابلة للتفسير وبغيضة بالنسبة للفرنسيِّين، وواقع أنه فى مواجهة هذه الامتيازات تأجَّج الميْل الديمقراطىّ فى قلوبهم إلى حد أنه ما يزال يشتعل فيها.
"وأخيرا، إذا أخذنا فى الاعتبار واقع أن هؤلاء النبلاء، منفصلين عن الطبقات المتوسطة، التى كانوا قد طردوها من بينهم، ومن الشعب الذى كانوا قد خسروا قلبه، صاروا معزولين تماما عن بيئة الأمة، فكانوا فى الظاهر طليعة جيش، وفى الواقع هيئة من الضباط بلا جنود، فإننا نفهم كيف أنه، بعد أنْ كانوا متماسكين على مدى ألف عام، صار من الممكن الإطاحة بهم خلال ليلة واحدة".
ويشير إلى الميْليْن الكبيريْن اللذين كانا يدفعان الرِّياح بقوة لتملأ أشرعة الثورة فى ذلك المكان (فرنسا) وفى ذلك الزمان (1789): الرغبة فى المساواة والرغبة فى الحرية، ويقول:
"وقُرْبَ نهاية النظام القديم، كان هذان الميْلان خالصيْن بنفس القدر وكانا يبدوان مُفْعَمَيْن بنفس القدر. وفى بداية الثورة، تلاقيا؛ واختلطا عندئذ وامتزجا للحظة، وأجَّج كل منهما الآخر بالاحتكاك، وأخيرا ألْهَبا فى آنٍ واحد معا كل قلب فرنسا. ولاشك فى أن عام 1789 كان زمن انعدام الخبرة، ولكنْ زمن السخاء، والحماس، والرجولة، والعظمة: زمن الذكرى الخالدة، التى سوف تستدير إليها بإعجاب وباحترام أنظار البشر، عندما سيكون قد اختفى منذ وقت طويل أولئك الذين شهدوها ونحن أنفسنا. عندئذ كان الفرنسيون فخورين بقضيتهم وبأنفسهم بما يكفى لاعتقادهم بأنه كان بمستطاعهم أنْ يكونوا متساوين ومتمتعين بالحرية. ووسط المؤسسات الديمقراطية، أقاموا مؤسسات حرة فى كل مكان. ولم يقوموا فقط بهدم هذا التشريع البالى الذى كان يقسِّم البشر إلى فئات مغلقة، وإلى طوائف، وإلى طبقات، والذى كان يجعل حقوقهم أكثر لامساواة أيضا من أوضاعهم، بل قاموا أيضا بضربة واحدة بتدمير كل القوانين الأخرى، الأعمال الأحدث للسلطة الملكية، التى جرَّدتْ الأمة من التمتُّع الحرّ بحياتها، ووضعتْ الحكومة إلى جانب كل فرنسىّ، لتكون معلِّمه، والوصىّ عليه و،عند الضرورة، مُضْطَهِدَهُ. ومع الحكومة المطلقة، سقطتْ المركزة".
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة. وبكلمات توكڤيل: "قام الفرنسيون، فى 1789، بأكبر محاولة كرَّس لها شعب نفسه فى يوم من الأيام، ليُحْدثوا، إنْ جاز القول، انقطاعا فى خط مصيرهم، وليحفروا هوة يفصلون بها بين ما كانوه إلى ذلك الحين وما أرادوا أنْ يكونوه منذ ذلك الحين فصاعدًا. وبهذا الهدف، اتخذوا كافة أنواع الاحتياطات لئلا ينقلوا شيئا من الماضى إلى وضعهم الجديد: لقد فرضوا على أنفسهم قيودا من كل نوع لكىْ يعيدوا تشكيل أنفسهم بصورة تختلف عما كان عليه أجدادهم؛ وباختصار فإنهم لم ينسوا شيئا من شأنه محو سماتهم المميزة السابقة"، ويعلِّق على هذا بقوله: "وقد اعتقدتُ دائما أنهم كانوا أقل نجاحا بكثير فى هذا المشروع الفريد مما كان يُفترض فى الخارج ومما افترضوه هم أنفسهم فى بداية الأمر. وكنت مقتنعا بأنهم، دون أنْ يدروا، احتفظوا من النظام القديم بأغلب ميوله، وعاداته، وحتى بالأفكار التى قادوا بها الثورة التى دمرته، كما كنت مقتنعا بأنهم، دون رغبة منهم استخدموا هذه الأنقاض لتشييد صرح المجتمع الجديد".
ومن الجلىّ أن طرح المسألة بهذه الطريقة يكشف عن تناقض عميق للغاية ومنطقىّ للغاية بين الحلم الذى يُلْهِب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقىّ لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"! ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققتْه الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسىّ إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة كبرى للصيرورة التاريخية المتصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضدّ "مواطنينها" وضد "الآخرين" جميعا، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أنْ تكون وحشية، وهل يملك البشر طريقا آخر إلى تحقيق إنسانيتهم الكاملة سوى طرق الآلام والوحشية؟
و توكڤيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن. وقبل أنْ أستأنف مناقشة هذه النقطة من حيث أبعادها وبالأخص من حيث مغزاها الراهن، أودّ أنْ أشير إلى أننى، خشية الإطالة فى هذا التقديم، تفاديتُ الوقوف عند القسم الثانى من الأقسام الثلاثة لهذا الكتاب، وهو القسم الأكبر بفصوله الاثنى عشر وهو بالذات المخصَّص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، وسيجد القارئ فى تلك الفصول شرحا معمَّقا لطبيعة "النظام القديم" الذى تمثلتْ الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال المَلَكِيَّة والإقطاعية والقروسطية لكىْ يندفع كمجتمع رأسمالىّ، بلا نعوت أخرى، كما يُقال، إلى الأمام. كما أن القارئ سيجد عونا حقيقيا فى استيعاب المحتوى البالغ الخصوبة لهذا الكتاب بكل أقسامه وكذلك هذا القسم الثانى من التحليل العميق الذى يقدِّمه فرانسوا فيريه François Furet و فرانسواز ميلونيو Françoise Mélonio، وهما حُجّتان فى الدراسات التوكڤيلية، فى مقدمتهما لترجمة إنجليزية حديثة لكتاب توكڤيل هى ترجمة آلان س. كاهان Alan S. Kahan طبعة The University of Chicago Press, London, 1998، وهى بالمناسبة ترجمة دقيقة وممتازة لنصّ توكڤيل، بالمقارنة مع ترجمات إنجليزية أخرى مثل ترجمة ستيوارت جيلبيرت Stuart Gilbert، البليغة ولكنْ التفسيرية وبالتالى غير الدقيقة تماما (1955)، وترجمة چون بونَّر John Bonner (نيويورك، 1856، أىْ فى نفس عام ظهور الأصل الفرنسىّ). ويوضح فيريه و ميلونيو أن القسم الثانى والرئيسىّ من كتاب توكڤيل يركز على المجتمع الفرنسىّ الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروپا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروپا، ويؤكدان أن الفصول الاثنى عشر للقسم الثانى تشتمل على 6 فصول (2-7) تركِّز على تحليل المركزة الإدارية باعتبارها السمة المميِّزة للنظام القديم، و 4 فصول (8-11) تركِّز على نتائج هذه الظاهرة على حالة المجتمع، على حين يبحث الفصل الأول الحقوق الإقطاعية فى فرنسا فى ذلك الزمن، ويبحث الفصل الأخير (12) تدهور حالة الفلاحين خلال القرن الثامن عشر كاشفا مدى التَّوْق إلى الخروج من هذا البؤس إلى العدالة والمساواة والحرية. ويؤكد هذان الكاتبان أن النظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعىّ أو الأريستقراطىّ القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). ويؤكدان على هذا الأساس أن فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة لأنها كانت قد بدأتْ فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، أىْ أن "النظام القديم" كان يمثل الثورة الأولى قبل الثورة، كما يؤكدان أن توكڤيل يطبق تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أىْ المركزة الإدارية، وأن هذا يعنى أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
ولكىْ نستأنف فإنه لا مناص من أنْ نكرِّر باختصار: الثورة هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية)، ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا! والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير؟!
وهنا نصل إلى نقطة حسَّاسة بالغة الحساسية من الناحية السياسية بالنسبة للماركسيِّين بالذات بكل أنواع ماركسياتهم، ويمكن تلخيصها فى هذا السؤال: إذا طبَّقنا فكرة أن الثورة هى "الدَّاية" التى تساعد بمهنتها المجيدة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد على الثورات المسماة بالاشتراكية خلال القرن العشرين، والتى تكشَّفتْ فى النهاية طبيعتها الرأسمالية وأحيانا ما قبل الرأسمالية، فماذا يمكن أنْ نستنتج عن طبيعة تلك الثورات وعن رسالاتها التاريخية وعن "النظام القديم" لكل ثورة منها، وعن طبيعة المجتمع الجديد الذى كان كل مجتمع قديم من تلك المجتمعات حاملا به؟
وهذا السؤال مهمّ لفَهْم حقائق الماضى من أجل استكشاف وُعَود المستقبل. وهناك ردّ سريع ممكن وهو أن المجتمع الروسى القديم مثلا كان حاملا بحفار قبره غير التقليدىّ أىْ الپروليتارىّ وليس الرأسمالىّ أىْ أنه كان حاملا بالأحزاب الشيوعية والمنظمات العمالية والمجالس السوڤييتية. ولا شك فى أن هذا جانب من الحقيقة ولا يستطيع أحد أنْ ينكر هذا الجانب. غير أن المجتمع الروسىّ القديم كان حاملا أيضا بمجتمع جديد مختلف هو المجتمع الرأسمالىّ. وكان هذا أيضا جانبا من الحقيقة لا يمكن أيضا إنكاره، ويكفى الاطلاع على كتاب شهير ﻟ لينين ("تطوُّر الرأسمالية فى روسيا") للتحقُّق منه. وتؤدى المقارنة الموضوعية المتأنية (بعيدا عن الحساسيات الشعبوية والديماجوچية الرخيصة التى لم يَعُدْ لها مبرِّر لأننا لا نقوم بتمزيق جسم حىّ بل نقوم بتشريح جثة) إلى أن الوزن النسبىّ للمكوِّن الرأسمالىّ كان يفوق بلا جدال الوزن النسبىّ للمكوِّن الشيوعىّ أىْ أن حجم التطوُّر الرأسمالىّ كان يفوق بما لا يُقاس حجم النضج الشيوعىّ رغم واقع أن الشيوعيِّين هم الذين استولوا على سلطة الدولة، وهذا أمر لا تستبعده بل تؤكده التطورات المماثلة الكثيرة طوال القرن العشرين. وإذا كنا نجد أمامنا واقع أن المجتمع الروسىّ القديم كان حاملا بجنينيْن لأبويْن مختلفين، بمجتمعيْن جديديْن محتمليْن، وبوزنيْن متباينيْن، فإن هذا من طبيعة الأشياء، وهل كانت الثورة الفرنسية خالية تماما من جنين آخر لا يتمثل فقط فى الجنين الذى كان يمثله الوجود "الموضوعىّ" للطبقة العاملة، بل كذلك فى مستوى بعينه من انتشار الأفكار الاشتراكية التى يُهاجمها توكڤيل بلا هوادة؟ ألم تكن فرنسا بلد المفكر الاشتراكىّ موريللى Morelly (1717-؟) مؤلف كتاب le Code de la Nature [قانون الطبيعة] المطبوع فى 1755؟ خاصة وأن ديدرو و موريللى كانا، فيما يُقال، هما نفس الشخص وأن الكتاب المذكور كان يُنْسَب إلى ديدرو حتى بداية القرن العشرين: ديدرو Diderot (1713-1784) المحرِّر الرئيسىّ للموسوعة (الإنسيكلوپيديا) الشهيرة فى عصر التنوير بكل نفوذه الفكرىّ؟ ألم تكن فرنسا بلد البابوڤية Babouvisme، بلد الثورىّ اليعقوبىّ الجبلىّ جراكوس بابوڤ Gracchus Babeuv (1760-1797) الذى تحولتْ شيوعيته البدائية إلى الممارسة العملية الثورية والذى وضعه ماركس و إنجلس إلى جانب أولئك الذين انطلقوا من "الثورات الحديثة الكبرى"، واهتدوا إلى "صياغة مطالب پروليتارية" (معجم الماركسية النقدى، المذكور أعلاه) (مدخل: "بابوڤية").
وقد اندلعتْ الثورة البلشڤية وسط الدمار الذى أحدثتْه الحرب العالمية الأولى فى روسيا ثم هُوجمتْ من الداخل (الحرب الأهلية) ومن الخارج (التدخل الأجنبىّ) وبالطبع فإن كل هذا أضعف المكوِّن الشيوعىّ والپروليتارىّ الأضعف أصلا فى مواجهة المكوِّن الرأسمالىّ، وعمل لصالح تحقيق المجتمع الرأسمالىّ الذى كان يحمل به المجتمع القيصرىّ، مُضْفِيًا الطابع الرأسمالىّ من الناحية الجوهرية على الدولة والحزب وعلاقات الإنتاج البيروقراطية. وإذا كان من المنطقىّ أنْ نحكم بالنتائج البعيدة المدى لتطوُّر المجتمع السوڤييتىّ فلا مناص من التسليم بأن رأسمالية الدولة هى المحصلة المنطقية للثورة البلشڤية الرأسمالية من الناحية الجوهرية رغم الأفكار والأحلام والمشاعر الاشتراكية والشيوعية التى ناضل بها، وقاتل بها، وتفانَى بها، وضحَّى من أجلها بالأرواح، جيل مجيد من المناضلين الماركسيِّين الثوريِّين.
وقد لحقت بالثورة الروسية ثورات "اشتراكية" أخرى فى أوروپا الشرقية وينطبق على بعضها تقريبا ما ينطبق على الثورة الروسية بفضل تطور حقيقىّ للرأسمالية فيها قبل الثورات، كما لحقت بها ثورات "اشتراكية" فى آسيا وقد كشفت كل محاولات تطبيق نظرية الثورة الدائمة عليها حقيقة أن هذه النظرية أخفقتْ هناك تماما كما أخفقتْ توقعات تروتسكى ولينين وماركس وإنجلس فيما يتعلق بروسيا وبالأخص فيما يتعلق بتفادى بعض مراحل الرأسمالية فيها من خلال استيعاب منجزات الرأسمالية دون مكابدة ويلاتها، كما كان يقول ماركس نفسه.
ولا جدال فى أن التحليل الموضوعىّ للانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ لاحق على مستوى العالم وطوال التاريخ يمكن أنْ يطرح علينا ألغازا كثيرة، نتيجة تشابُكات وتقاطعات وتفاعلات وتناقضات الشروط البنيوية والظرفية، الداخلية والخارجية، لهذه الثورات بصورة بالغة التعقيد، وبالأخص فيما يتعلَّق بتكوين نظام اجتماعىّ جديد فى قلب نظام اجتماعىّ قديم، ولا شك فى أن نشأة وتطور رأسمالية جبارة (بقيادة الحزب الشيوعىّ أيضا) رغم عدم وجود نواة رأسمالية متماسكة سابقة، ورغم وجود حروب داخلية طويلة الأمد وغزوات خارجية شرسة ولكنْ مع وجود تحالف خارجىّ قوىّ كما حدث فى الصين بوقائع عنيدة مثل النواة الرأسمالية المتواضعة، وحرب الأفيون، ووضع شبه المستعمرة، والمسيرة الطويلة، والغزو الياپانىّ، وخاتمة الحرب الأهلية، ولكنْ مع التحالف والتعاون الواسع النطاق لفترة قصيرة نسبيًّا مع الاتحاد السوڤييتىّ السابق، وبالانفتاح الحالىّ على الرأسمالية العالمية، .... لا شك فى أن الحالة الصينية تطرح علينا، على المستوى النظرىّ، مشكلة بالغة التعقيد تتمثل فى تنظيم تشييد الرأسمالية من موادّ وأنقاض قد تبدو عاجزة عن خلق كيان جديد متماسك، من الناحية المنطقية، ولكنْ الذى يتجه إلى قمة الرأسمالية العالمية، من الناحية التاريخية. وياله من دحض (قبل حلّ هذه المشكلة) لمقولة أن ما هو عقلىّ واقعىّ وما هو واقعىّ عقلىّ، أو لمقولة أن ما هو منطقىّ تاريخىّ وماهو تاريخىّ منطقىّ!
فماذا عن مستقبل الثورات الاشتراكية ذات الغاية الشيوعية فى المستقبل؟ هذا هو السؤال الذى يُؤرِّق الماركسيِّين بعد انهيار وتفكك وتهاوى "الاشتراكيات" فى كل مكان وبعد انكشاف طبيعتها الحقيقية الرأسمالية (وما قبل الرأسمالية) بما فى ذلك انكشاف الطبيعة الرأسمالية للصين بقيادة الحزب الشيوعىّ الصينىّ، وهو يطرح نفسه هنا من منظور يحاول استشراف إمكان خلق نظام اشتراكىّ داخل الرأسماليات القائمة الآن فى العالم. غير أن هذا النوع من التفكير قد يبدو، للوهلة الأولى على الأقلّ، غير معقول، بل أقرب إلى الجنون!
ذلك أنه يبدو إلى الآن أن التفكير العقلانىّ يتمثل فى اعتبار المجتمع الاشتراكىّ الذى يُولَد وينشأ ويتطوَّر وينضج فى رحم المجتمع الرأسمالىّ ليس سوى الطبقة العاملة الثورية ونضالاتها النقابية والسياسية بقيادة الحزب الشيوعىّ الثورىّ ونضالها الطويل وتحالفها الطبقىّ فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية والشروع فى بناء الاشتراكية والشيوعية. ويعنى هذا أنْ نكتفى بالوصفة القديمة رغم النتائج الكارثية التى تمخَّضتْ عنها تجارب هائلة استرشدتْ بتلك الوصفة؟
وحتى مع كل التطوير المطلوب لتلك الوصفة التى صارت قديمة فإنها لم تَعُدْ كافية، ويمكن أنْ يؤدِّى النقد العميق لتلك الوصفة إلى إنقاذ جوهرها بدلا من النضالات السيزيفية التى يمكن أنْ يؤدِّى إليها مجرد تكرارها. وقد تشمل اتجاهات تطويرها على التخلِّى عن مجموعة مترابطة من الأفكار والممارسات وإحلالها بأفكار وممارسات أخرى جديدة؛ ومن ذلك ضرورة التخلِّى عن أفكار ثورات أضعف حلقات السلسلة، وبناء الاشتراكية فى بلد واحد بعيدا عن الأممية، ونظريات حَرْق المراحل والثورة الدائمة، والمبالغة فى أهمية الاستيلاء العاجل على السلطة السياسية على أساس إدراك واضح بأن مثل هذه السلطة لا يمكن أنْ تكون أداة حقيقية لبناء الاشتراكية وتحقيق الشيوعية ما لم تكن ثمرة نضال شامل وعميق وطويل فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية، وكذلك التخلِّى عن مجموعة من مبادئ تنظيم الحزب الشيوعىّ مثل المركزية الديمقراطية وخضوع الأقلية للأغلبية والمستوى الأدنى للمستوى الأعلى بالإضافة إلى الابتعاد عن تقديس التنظيم السرى والاستفادة بالوسائل التى يوفِّرها العصر (مثل وسائل الاتصال الجديدة وبالأخص الإنترنت بكل تسهيلاته) وبعض التطورات (مثلا: حزب كذا تحت التأسيس حاليا فى مصر). على أن كل هذا لا يكفى لجعل المجتمع الرأسمالى "القديم" حاملا بمجتمع اشتراكىّ جديد. وهناك فيما أعتقد مجال واسع للاجتهاد الفكرى والممارسة العملية لبناء اشتراكية جديدة وتربية سياسية وفكرية: انطلاقا من القواعد بالاستفادة من الهيمنة بكل أطوارها على الطبقات التابعة والثانوية وإستراتيچية حرب المواقع التى تلائم الغرب فى مقابل إستراتيچية حرب الحركة التى كانت ملائمة لروسيا وفقا لفكر جرامشى؟ بالاستفادة من بناء سلطات اشتراكية محلية من داخل اللعبة الديمقراطية البرچوازية ذاتها مثلما يجرى انتزاع سلطات المحليات ليس فقط فى بعض بلدان أوروپا بل حتى فى البرازيل وغيرها؟ بالاستفادة من تجارب التسيير الذاتى والمناطق المحررة ولكنْ خارج إطارها الأصلىّ أىْ بدون وجود أوضاع مثل أوضاع يوجوسلاڤيا السابقة وبدون وجود مناطق محرَّرة كتلك التى عرفتْها الحروب الشعبية؟ وغير ذلك مما يحتاج إلى اجتهاد ماركسىّ جسور واسع النطاق بعد الشلل الذى أصاب الجميع فى أربعة أركان الأرض، كما يُقال، نتيجة للزلزال السوڤييتىّ وتوابعه؟ وباختصار: هل هناك احتمال لأن "تتخندق" الاشتراكية بالوسائل القانونية من خلال حرب "مواقع" فى قلب المجتمع الرأسمالىّ أم أن موضوع مجتمع رأسمالىّ حامل بمجتمع اشتراكىّ يطرح إطارا معرفيًّا "پارادايم" مختلفا تماما كشرط حاسم للثورة الاشتراكية على كل حال؟ وفى القسم الأول من كتابه الشهير "الثامن عشر من پرومير لويس بوناپرت (Project Gutenberg s The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, by Karl Marx) يقارن ماركس من زاوية ما بين الثورات البرچوازية والثورات الپروليتارية فيقول: "الثورات البرچوازية، مثل ثورات القرن الثامن عشر، تندفع بسرعة إلى الأمام من نجاح إلى نجاح، وتفوق تأثيراتها المسرحية بعضها البعض، ويبدو فيها الأشخاص والأشياء محاطين بوهج الماس المتألِّق، وتكون النشوة هى المسيطرة؛ غير أن هذه الثورات قصيرة العمر، فهى تصل إلى ذروتها بسرعة، وعندئذ يغرق المجتمع فى نوبة من ردّ الفعل العصيب قبل أنْ يتعلَّم كيف يتكيَّف مع فترة الإثارة المحمومة التى مرَّ بها. أما الثورات الاشتراكية، مثل ثورات القرن التاسع عشر، فإنها على العكس، تنتقد نفسها بصورة متواصلة؛ وتقطع بصورة متواصلة العمل فى مجراها نفسه؛ وتعود إلى ما يبدو أنه تمّ إنجازه، لكىْ تبدأ العمل فيه من جديد؛ وتزدرى بقسوة تامة نصف تدابير، ونواقص، وحقارات محاولاتها الأولى؛ ويبدو لها أنها تصرع خصومها فقط لتجدهم قادرين على أن يستمدُّوا قوة جديدة من الأرض، وينهضوا ضدها من جديد بقامة أضخم؛ وتتراجع خائفة بصورة متواصلة أمام الحجم البالغ الضخامة وغير المحدود لأهدافها هى - إلى أنْ يتحقق فى النهاية خلق ذلك الموقف الذى يجعل كل تراجُعٍ مستحيلا، وتصرخ الأوضاع ذاتها: Hic Rhodus, hic salta [هنا رودس، اقفزْ هنا: صيغة لا تينية مستمدة من الصيغة اليونانية الأصلية الواردة فى إحدى خرافات إيسوپ Aesop؛ وقد شاعت بفضل هيجل و ماركس اللذيْن استشهدا بها بترجمة خاطئة ﻟ "رودس" إلى "الوردة"]".
وكما يؤكد الماركسىّ الفرنسىّ ألبير سوبول Albert Soboul فى محاضرته الواردة فى الكتاب الذى أعدَّه مركز الدراسات والأبحاث الماركسية ﺒ پاريس: Sur le féodalisme, Éditions Sociales, Paris,1974 فإن "توكڤيل لم يُخطئ [باستعمال لفظة féodalité = إقطاع] ولا يمكن الطعن فى شهادة هذا المراقب الثاقب الفكر [...] وبالنسبة له كانت الثورة معادية للإقطاع من الناحية الجوهرية. ولم تتمثل نتيجتها ’إلا فى إلغاء هذه المؤسسات السياسية التى سادت بلا منازع، خلال قرون عديدة، عند أغلب الشعوب الأوروپية، والتى نشير إليها عادة باسم مؤسسات إقطاعية‘، وقد تمثل عملها فى ’تدمير [...] كل ما كان يتفرَّع، فى المجتمع القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية، [...] كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة‘".
لقد أغرتنى خصوبة فكر توكڤيل بالتطفُّل على الموضوع المحدَّد لهذا الكتاب، كما يوضِّح سوبول، ولم يكن بوسعى أنْ أتفادى الانجراف بعيدا مع المحتوى الأوسع للكتاب، داعيا إلى استكشاف دروس الكابوس الذى عبر: قيام وانهيار الثورات المسماة بالاشتراكية وإلى استشراف المستقبل بالاستفادة من فكرة توكڤيلية لا تتناقض مع الماركسية، رغم معاداة هذا المفكر السياسىّ العبقرىّ للاشتراكية، بل تتكامل معها، كما رأينا من نصوص ماركس بهذا الشأن. على أن كل هذا لا يستنفد ما يقدِّمه عمل توكڤيل فى هذا الكتاب وفى كتابه المهم السابق "عن الديمقراطية فى أمريكا" De la Démocratie en Amérique، والحقيقة أن تكامل توكڤيل مع الماركسية يتجلَّى فى تحليله الريادىّ لدور الفكر والأيديولوچية والأبنية الفوقية فى المجتمع وبالتالى فى الثورة، هذا الدور الذى سوف يركِّز عليه فلاسفة مدرسة فرانكفورت فى فترتهم الماركسية على حين لم يركِّز عليها ماركس و إنجلس بحكم أولويات بحثهما. ويذكِّرنا هذا بموقف پول سويزى Paul Sweezy، فى كتابه "نظرية التطوُّر الرأسمالىّ" The Theory of Capitalist Development, Modern Reader Paperbacks, New York and London, 1974 إزاء ناقد بارزا ﻟ ماركس وهو لاديسلاوس فون بورتكييفيتش Ladislaus von Bortkievicz (اقتصادىّ روسىّ وإحصائىّ من أصل پولندىّ: 1868-1931) الذى أدرك كامل مغزى قانون القيمة واستخداماته وأرسى الأساس لبرهنة لا سبيل إلى الاعتراض عليها بصورة منطقية على صِحَّة منهج ماركس، مما يجعل من حقه أنْ يُعْتَبَر ليس فقط ناقدا للماركسية بل أيضا مساهما مهمًّا فى النظرية الماركسية (pages 70-71)، بالإضافة إلى تصحيحه لخطأ منهج ماركس فيما يتعلَّق بتحوُّل القِيَم إلى أسعار، كما يوضِّح سويزى، (page 115). ويمكن قول الشيء ذاته عن الصلة الوثيقة بين ماركسية جرامشى والفيلسوف المثالىّ والسياسىّ الليبرالىّ الإيطالىّ بينيدتو كروتشه Benedetto Croce (1866-1952). وناهيك بالعلاقة الوثيقة بين مادية ماركس ومثالية هيجل. فلا غرابة إذن فى أنْ نلاحظ الالتقاء الجوهرىّ بين مفهوم توكڤيل عن الثورة السياسية البرچوازية فى علاقتها بالثورة الاجتماعية البرچوازية، والتصوُّر الماركسىّ عن هاتين الثورتين المترابطتين، ولا غرابة فى محاولة تطبيق نظرية الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر عند ماركس و توكڤيل فى "تكاملهما" المعقَّد بطبيعة الحال على الثورات الاشتراكية الحقيقية والمزعومة.
على أن الاستفادة الكاملة من بصيرة توكڤيل النافذة فى فَهْم الانتقال والنظام السابق واللاحق لا تكتمل إلا ببحث كل أبعاد دراسته النادرة المثال عن الأبنية الفوقية للمجتمعيْن الانتقالىّ والبرچوازىّ وعن دور الفلسفة والفكر والأدب فى الثورة الاجتماعية وعن الطبقات الاجتماعية قبل وأثناء وبعد الثورة من حيث فكرها وتكوينها النفسىّ ومشاعرها وأحلامها ومخاوفها. ويقول توكڤيل إنه لا يتحدث عن أفراد بل عن "طبقات، فهى وحدها يجب أنْ تكون الشغل الشاغل للتاريخ"، كما يؤكد، وهو لا يبحث هذه الطبقات من حيث تكوينها الاقتصادىّ والاجتماعىّ والقانونىّ فحسب، بل يتجاوز كل ذلك إلى علم النفس الجمعىّ من خلال لوحة غنية الألوان والظلال تقدِّم بحثا بالغ الدقة والخصوبة معا عن أفراد ومجموعات مختلف الطبقات حيث يغوص فى أعماق القلوب وأدقّ الميول والأمزجة والمشاعر والأحلام والأوهام والخوف والذعر والخشية والتمنِّى والرغبة والقسوة والوحشية وانعدام الشفقة والحسد والغيرة وروح الانتقام والتضامن الحقيقىّ والكراهية والتربُّص والوشاية، وكل ما يملأ عقول وقلوب ونفوس وصدور البشر الأحياء من لحم ودم فى مباهجهم ومآسيهم الاجتماعية والنفسية، التاريخية واليومية.
وكتاب توكڤيل ليس مديحا للنظام القديم الذى يقوم بتشريحه بمشرط الجرَّاح حيث يفرز بداخله الوعود التقدُّمية الحقيقية للمستقبل والمعوقات التى تتمثل فى البقايا الإقطاعية والقروسطية فى آن معا، كما أنه ليس انتقاما من ثورة 1789 التى يمجِّدها ويحتفى بها ويُقَدِّر مغزاها التاريخىّ التقدُّمىّ ويسجِّل إخفاقاتها وشرورها ومآسيها على المدى الطويل. وبهذا يتجاوز توكڤيل فى وقت واحد إطاره الفكرىّ والسياسىّ المحافظ، من جهة، ومحنته العائليّة مع الثورة، من الجهة الأخرى، إلى أفق أرحب. ذلك أنه، كما نقرأ فى مقدمة ميلونيو لطبعة Flammarion السابقة الذكر لهذا الكتاب، "بالنسبة ﻟ توكڤيل، باعتباره أريستقراطيًّا مناصرا للديمقراطية، لم تكن الثورة الفرنسية ثورة الآخرين، كما أنها لم تكن ثورته هو. كان ما يزال متعلِّقا بالنظام القديم، وكان يريد القبول بالحداثة: موقف حَرِج بين الأمريْن" (page 7). كان توكڤيل أريستقراطيًّا ومرتبطا بإرثه العائلىّ لأنه كان قبل كل شيء "الوريث لاسم، ولدور اجتماعىّ مهيمن، وكان بوجه خاص الوريث لسؤال عن مصير النبلاء فى المجتمع الحديث. وعلى هذا السؤال العائلىّ، الحائر بين الحنين إلى الماضى وقبول الصيرورة التاريخية، لم يقدِّم ردًّا أحادىّ المعنى". وكان والد جده من ناحية الأم، الشهير مالزيرب Malesherbes، صديق الفلاسفة [أُعْدِمَ بالمقصلة فى 1794]، "بعد أنْ دافع عن الشعب أمام الملك لويس السادس عشر، دافع عن الملك لويس السادس عشر أمام الشعب ... مثال مزدوج". كما أن والده إيرڤيه Hervé "كان يشارك فى هذا الولاء المزدوج للشعب والملك، ورغم أنه كان الخادم المتفانى للاستعادة [البوربونية] التى جعلته واليًا préfet ثم نبيل فرنسا pair de france، فقد نشر فى 1847-1850 دراستيْن بروح مونتيسكييه Montesquieu حول أسباب الثورة. واتَّهَمَ فيهما صَمَمَ الملوك إزاء ’روح العصر‘، وتشبُّث طبقة النبلاء بامتيازاتها. ولن يقول الابن شيئا مختلفا". كما أن "العائلة التى عانت بقسوة من عهد الإرهاب، لم تعتنق جميعا ليبرالية التنوير. وكانت أمُّ توكڤيل، التى أنقذها [صعود] التيرميدور Thermidor [وسقوط روبسپيير Robespierre وعهد الإرهاب] من المقصلة، قد أصابها فى هذه المحنة [...] بالتعلُّق، المرضىّ إلى حدٍّ ما، بنظام قديم خيالىّ إلى حدٍّ كبير [...] وكانت تُغَنِّى ﻟ أليكسى الصغير أغانى مأساوية عن موت الملك" (pages 8-9).